سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«المستشفى الجمهوري» بتعز:ثمة من يتحدث عن ماضيه بزهو..!! شيّده الأجداد بأزاميل الإرادة والكفاح.. سلخوا الصخور الصلدة .. وجاءوا بالمعدات الثقيلة تحت هجير الشمس و«كرابيج» الإمام
لأكثر من ستة عقود والمستشفى الجمهوري بتعز يقدم خدماته دون توقف، الأمر الذي أكسبه مكانة متألقة في قلوب كل اليمنيين، كان الإطار الوحيد الذي يحتوي كل المرضى (فأبي أبوك.. جدي جدك..) مروا من هنا في سبيل إجلاء معاناتهم، حين كان الجميع يخدم, يُعطي دون مقابل، إنها الصورة التي لم نعد نلمسها الآن..؟! شيده الأجداد بأزاميل الإرادة والكفاح، سلخوا الصخور الصلدة، وجاءوا بالمعدات الثقيلة فوق الظهور، تحت هجير الشمس و«كرابيج» الإمام، عوامل التعرية لم تحنُ على بنيانه المرصوص قط، لكنها اليوم أشد ضراوة, والخوف كل الخوف أن يتحول هذا المعلم الرابض ببهاء في قلب الحالمة إلى «ركام». حشد من الوقائع والأحداث كانت مغيبة مدفونة في دهاليز النسيان، جاهداً حاولت جمعها ونثرها.. هنا على أورقة هذا المستشفى العتيق، ثمة مؤسسون كُثر، مارسوا مهامهم باقتدار، وسطروا صفحات مضيئة بخدمات جليلة يتذكرها القاصي والداني، ما أن تسأل عن أحدهم.. ممن عايش لحظات التأسيس الأولى، حتى تتوارد الإجابات بغير ذلك، فجميع تلك الأسماء إما أحيلت إلى التقاعد أو انتقلت إلى الرفيق الأعلى. الأحمدي وحده الحاج- محمود الكوكباني «83» عاماً قهر الزمن.. بإصرار شديد على أن تكون لحظاته الأخيرة هنا، فهذا المكان يعني له الحياة بكل تفاصيلها.. ولديه ذاكرة جيدة، فتاريخ الأيام الخوالي ينساب على لسانه بسهولة ويسر وكأنه يعلم ما أريد.. وجل ما يتذكره الحاج محمود أنه التحق بالمستشفى في العام 1958م بعد أن تخرج من المدرسة الأحمدية، من الوهلة الأولى ابتدأ عمله بتفانٍ لترتقي قدراته التمريضية من خلال الممارسة إلى أفضل ممرض، حتى أستحق أكبر راتب لموظف يمني في المستشفى وهو مبلغ أربعة ريالات «فرنصي». - ويضيف الحاج محمود أن للمستشفى اسماً قديمًا لصيقاً بالمدرسة التي كان يدرس فيها «المستشفى الأحمدي» وأن البدايات الأولى لتأسيسه كانت إبان حكم الإمام يحيى، وأن مبانيه الرائعة شيدت بفضل السواعد اليمنية الماهرة، تحت قهر وجبروت الإمام أحمد وعكفته «الأعفاط» وكان يبدأ العمل من بعد صلاة الفجر حتى قبل المغرب. - وفي رد الحاج محمود عن إشاعة خطيرة تلوكها بعض الألسن، فحواها وجود مخطط سابق يراد منه هدم المبنى القديم- قسم الجراحة الذي ابتدأ العمل لترميمه- ويشيد محله مبنى جديد يستغل مساحته والمساحات الشاغرة بجانبه، وهنا أجاب بنبرة حادة: «حرام عليهم» هذه المباني جزء من تاريخ تعزواليمن ككل.. وعين الظلم أن يعتدى عليه، مناشداً الجهات المختصة أن تعمل على ترميمه بدلاً من هدمه. حريم الإمام كما يتذكر الحاج محمود تلك الزيارات التي كان يقوم بها الإمام أحمد بين الفينة والأخرى للمستشفى، واصفاً إياها بأنها لم تكن لله، متهماً الإمام بتصنيع المواقف، وزياراته تلك كانت للتباهي أمام الأطباء الأجانب الذين كان يحبهم ويغدق عليهم، وأمام الشعب ينعتهم بالكفار وأن الله سخرهم لخدمته. - وفي ذات الصدد يضيف الحاج محمود أن المبنى الحالي للإدارة - الذي يتوسط المستشفى- كان في تلك الفترة جناحاً خاصاً بالأسرة الحاكمة وحريم الإمام اللاتي شكلن مع بداية الجمهورية دعاية مضادة للثورة وقد تم نقلهن إلى المقام الشريف في العرضي ومن ثم أفرج عنهن في نبأ تناقلته أغلب وكالات الأنباء. - وأردف الحاج محمود أن سيف الإسلام «علي» - أخ الإمام- كان مقيماً في ذلك الجناح بسبب مرض نفسي، وقد اشتهر بسكره وعربدته، وكانت نهايته في العاصمة صنعاء على يد المناضل هادي عيسى. وبالنسبة لحياة الحاج محمود الشخصية فقد كان شاباً متحمساً, ولاؤه للوطن، نمت مداركه الثقافية والوطنية على يد المناضل الشهير سعيد إبليس.. ليس له زوجة أو ولد، أبوه قدم من كوكبان برفقة عبد الله الوزير وأمه من تعز فكانت النتيجة «محمود» الذي عشقه للمستشفى الجمهوري لا يضاهى، فها هو بعد ثمانية عشر عاماً من تقاعده لم يبرح غرفته العتيقة في قسم الصدر، لا يحب الظهور فإصراره كان حتى آخر لحظة أن يذيل هذا الكلام باسم مجهول، بل عجزت حيلي بأن التقط له صورة. ثور بلدي من الوجوه السمراء التي آثرت البقاء وما زالت حية ترزق، عبده قائد فرحان -75عاماً- يتكلم عن الماضي وكأنه وقع بالأمس دون أن يدقق في الأعوام، التحق بالمستشفى الأحمدي في مجال الخدمات بعد التأسيس مباشرة تخللتها فترة مناوبة متقطعة في المستشفى العسكري الخاص بعكفة الإمام، وهو المكان الذي بني عليه لاحقاً محكمة تعز وثانوية تعز الكبرى. - وقد كان راتب فرحان في تلك الفترة ريالين ونصف الريال متبوعًا بنصف قدح من الحبوب، ليرتفع مع بداية عهد الثورة المباركة إلى خمسة ريالات، فرحان ومن سابق الحاج محمود يصفان أن المستشفى بعد الثورة شهد قفزات نوعية من حيث الخدمات الطبية وغيرها.. ولعل فرحان ركز على جانب التغذية أكثر, فهي كما يصف كانت جيدة حيث كان يتم ذباحة ثور بلدي كبير وبصورة يومية وأنه ظل وأبناؤه السبعة عشر يقتاتون من خير هذا المستشفى العريق لسنوات. حتى النهاية وأضاف فرحان أنه كان يعمل في المستشفى الجمهوري في تلك الفترة نخبة من الأطباء اليمنيين الأوائل غالبيتهم قد فارقوا الحياة أمثال الدكتور لطف مطهر ويحيى الشامي وأحمد راشد وحميدان...الخ. - فيما يؤكد الحاج محمود أن جميع هؤلاء أتوا بعد الثورة أما قبل ذلك فلم يكن يوجد طبيب يمني. وبالعودة لفرحان فقد أحيل إلى التقاعد قبل أكثر من عشر سنوات براتب 13900ريال، ولأن إدارة المستشفى لم تستطع الاستغناء عن خدماته تعاقدت معه من جديد وبمعاش مقداره 8000ريال وما أثار استغرابي إصرار فرحان وزميلة الحاج محمود على البقاء في المستشفى حتى آخر لحظة من عمرهما. الجمهوري العام من بداية الثورة وحتى العام 1984م كان المستشفى الجمهوري متخصصاً بالأمراض القلبية والصدرية.. هذا ما أكده لنا أحمد قائد الخطابي «أول كوادر المستشفى التمريضية منذ عام 1978م» - هكذا وصف نفسه- مضيفاً أن سبب حصر مرضى الصدر في هذا المستشفى وبمدينة تعز بالذات يرجع لعدة ميزات لعل من أبرزها الجو المناسب إضافة إلى وجود كم هائل من الكوادر الأجنبية والمحلية المؤهلة وذات الخبرة العالية والطويلة. - وأردف الخطابي أن المرضى في تلك الفترة كانوا يتوافدون على المستشفى من أغلب محافظات الجمهورية لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة حيث استحدثت أقسام أخرى مثل العيون والولادة والعظام لتتوالى بعد ذلك بقية الأقسام المرضية عدا قسم «الحروق» الذي كان ولا يزال حكراً على مستشفى الثورة، بما يعني أن المرحلة التخصصية انتهت وابتدأت مرحلة جديدة مرحلة «المستشفى الجمهوري العام..» شيخ المشايخ قلة هم الذين يشيدون لأنفسهم عروشاً جميلة في قلوب البشر.. أثناء تجوالي بأروقة المستشفى استوقفتني لوحتان ممهورتان بعناية، مكتوبتان باللغة العربية والفرنسية، مرسوم على جوانبهما العريضة العلمان اليمني والفرنسي، في الأولى تعريف بقسم الصدر العتيق – الخاوي على عروشه- وعليها ذيل اسم الدكتور الفرنسي «أندريه» مؤسس القسم فيما الثانية تعريفية بقسم التشخيص بالأشعة والموجات فوق الصوتية واسم مؤسسه الدكتورة «فيالارد». سألت الحاج محمود الكوكباني عن سر حضور الأسماء الفرنسية هنا فأجاب لأنهم خدموا المستشفى أكثر من غيرهم ولأكثر من أربعين عاماً، فالدكتور «أندريه» مثلاً قدم إلى تعز في عام 1955م وظل في خدمة المستشفى والإنسانية حتى العام 1989م عام وفاته، بعيداً عن أهله ووطنه .. ويعرفنا الحاج محمود أكثر بالطبيب الفرنسي «اندريه» فهو كما يصف ذو أخلاق دمثة يتفانى في خدمة الجميع دون تفرقة, على يديه تعلم الكثير من الأطباء اليمنيين المهنة الرائعة والتعامل الإنساني الراقي، الجميع يتذكره دون استثناء لأن رحيله ترك فراغاً هائلاً يصعب تعويضه. - وقد سبق أن أطلق عليه الإمام أحمد لقب «شيخ المشايخ» وسبب ذلك حضوره ذات يوم مجلس الإمام وبجانبه حشد من المشايخ والأعيان وبعد أن عرف بهم الإمام جميعاً: « هذا الشيخ فلان ,هذا..» قاطعه «أندريه» وأنا أيش..؟! فرد عليه الإمام «أنت شيخ المشايخ». - بينما يقول عبده فرحان بأن «أندريه» «كان طبيب الإمام الخاص وكان يعزه ويثق بخدماته كثيراً، كما كان لديه حصان أدهم – هو كما يعتقد هدية الإمام إليه- وقد اشتهر الدكتور «أندريه» بمجيئه راكباً فوق ظهره إلى ساحة المستشفى وذلك في غالب الأيام. القطط السمان دخلت باحة قسم الصدر - هناك في أعلى المستشفى الجمهوري- حيث الأشجار الوارفة، والانسام العليلة التي سرت في أعماق أعماقي طرية نقية خالية من أدران الهواء، ياله من مكان رائع اختير بعناية فائقة ليشفي بكل سهولة ويسر صدر كل عليل، في الجوانب ثمة غرف واسعة لا شيء فيها غير أسرة فارغة هدها الصمت تشكو الوحدة بكل تفاصيلها فيما الأقسام الأخرى والمهمة بلغة اليوم الطبية مكتظة حد التخمة لا شيء فيها شاغر سوى أسفل الأسرة أما الفائض من المرضى الذين يتواردون يومياً فعليهم السلام، بينما هذا الفراغ الهائل له القطط السمان تجيء وتروح فيه بحرية مطلقة وكأنها المرحلة الأولى لوفود الأشباح. - مفارقة عجيبة, أليس كذلك؛ والمفارقة الأكثر عجباً أن هذا القسم ومن يوم وضع لبنته الأولى الطبيب الفرنسي الأشهر «أندريه» كان الأكثر اكتظاظاً ببشر جاءوا من كل اليمن والأكثر عناية بخدمات لم تكن تقدم إلا في البلدان المتقدمة والأكثر و الأكثر. - يقول الحاج محمود: «أندريه» هو المؤسس الأول لأقسام الصدر والقلب وبسبب شهرته ذاع صيت المستشفى وكان المرضى يتوافدون من كل المناطق. دموع كالمطر بالنسبة للدكتورة «فيالارد» مؤسسة قسم التشخيص بالأشعة والموجات فوق الصوتية فقد خدمت المستشفى الجمهوري كثيراً وقدمت خدماتها الإنسانية باقتدار مُلفت، حتى وهي في أرذل العُمر لم تبخل على المستشفى وكل محبيها بزيارتها الرحيمة ليبقى اسمها خالداً محفوراً في قلوب الكثيرين خاصة أولئك الذين عايشوها عن قرب. - محمد عبد الودود- مندوب الحوادث المرورية في المستشفى- أحد هؤلاء يقول عن «د.فيالارد»: لقد تعلمنا منها الكثير .. تعلمنا أن نعطي بدون مقابل وأن نرحم الضعيف، لقد كانت ماهرة في أداء عملها، قادرة على استجلاب الدعم والمساعدات الأجنبية في سبيل خدمة المستشفى. وما يتذكره عبد الودود عن هذا الطبيبة الرائعة جيداً، جلبها لأجهزة أشعة حديثة من بلدها «فرنسا» ولجهل المشرفين على تخزين الأجهزة وضعوها في أحدى المخازن الأرضية غير المحمية من مياه الأمطار غير مدركين أن الموسم «صيف» وأن الأمطار قد تهطل في أيه لحظة. - ذات مساء غائم هطلت أمطار غزيرة على الحالمة لتأتي الدكتورة «فيالارد» بسيارتها متلهفة للاطمئنان على «أولادها» هكذا وصفت تلك الأجهزة، نزلت المفاجأة عليها كالصاعقة حين وجدت أن الأمطار قد أطفأت حلمها الكبير.. نادت الجميع وهي تبكي حد الجنون، والدموع تنهمر على وجنتيها كما المطر، تسابق الزمن في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. - تلك صورة جميلة لا زالت مرسومة في أذهان الكثيرين . ولعل الأجمل ما ختم به صاحبنا عبد الودود حديثه:« لو مات أبناؤها في تلك اللحظة الغامرة ما أظنها سكبت مثل تلك الدموع..».