اليمن سباق دوماً إلى صنع الأحداث العظيمة والتي لها أعظم الأثر في صنع التاريخ العربي والإنساني، إلاّ أنها لم تحظَ بالاهتمام؛ ولم يعط لها حقها من البحث والدراسة للاستفادة من دروسها وعبرها لتربية الأجيال اللاحقة صانعة المستقبل، وما حدث يوم 20يونيو67 إلاّ واحد من تلك الأحداث الاستثنائية، وهذا ما لفت نظر بعض المهتمين فكتبوا عن ذات الحدث بإيجاز دون تعمق أكثر في باقي التفاصيل، وهذا ما دعا الكاتب العميد الركن محمد عباس ناجي إلى تأليف كتاب بعنوان «عدن.. أحداث عظيمة أدت إلى الاستقلال»، قدّم له المناضل المشير الركن/عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية مقدمة رائعة، فكانت بحق استهلالاً رائعاً لتفاصيل كانت غائبة.. يقول المشير الركن/عبد ربه منصور هادي «رئيس الجمهورية» في ذات المقدمة : «هذا الحدث ملحمة يونيو 1967 م البطولية التي قام بها رجال الأمن والجيش وفدائيو الجبهة القومية وجبهة التحرير ضد المستعمر البريطاني في مدينة عدن على وجه التحديد، هذه المرحلة التي لم تأتِ نتيجة لظرف آن وإنما سبقتها مقدمات محلية وعربية ودولية» ويضيف: كانت هذه الملحمة كالقنديل المضيء في سماء الأمة العربية التي خيم عليها ظلام داكن نتيجة نكسة حزيران . عناصر صناعة الموقف العناصر القيادية المكلفة بقيادة نشاط الثورة في الجيش والأمن هي من كانت تشرف وتنظم العلاقة وأعمال الكفاح المسلح بين فصائل التنظيمات المدنية والعسكرية، وهذا كان أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى وقوف الجيش والأمن إلى جانب الثوار والثورة في صنع ملحمة (20) يونيو، بل كانتا القوتين الرئيسيتين إلى جانب فصائل الثورة المتمثلة في فدائيي الجبهة القومية والتنظيم الشعبي الجناح المسلح لجبهة التحرير، ولا يمكن للمنصف أن يغفل عمداً عناصر صناعة المواقف التاريخية لعنصر هام مثل وقوف الجيش والأمن «كمؤسسات استعمارية» إلى جانب الثورة مثل القول بأن مواقفها التاريخية تلك جاءت بفعل تأثير تلك الخلايا فقط، بل إن الحقيقة تؤكد أن هناك عوامل وعناصر أخرى كان لها أهمية في صنع تلك المواقف التاريخية الهامة. تناقضات نافعة من الضرورة الاشارة إلى وجود تناقضات وتباينات في صفوف الجيش والامن وبينهما استغلت قيادات الثورة تلك التناقضات الكثيرة داخل تلك المؤسسات وبينها بحنكة ودهاء كبيرين لتوجهها ضد المستعمر، ولا شك كانت تلك الخلايا من أهم آليات تنفيذ تلك السياسة فائقة الحبكة عالية الحنكة دقيقة الصنعة والتنفيذ. ومن أهم وأول تلك التناقضات عامل توقيف مجموعة من الضباط إذ قبل أيام قليلة من بدء الملحمة أقدمت سلطات الاستعمار البريطاني على توقيف مجموعة من الضباط وإحالة البعض إلى التقاعد....إلخ، وفي صباح( 20) يونيو بدأ طلاب مدرسة الموسيقى ومدرسة أبناء الجيش بتجمعات في معسكر «ليك لاين» - حي الشهيد عبد القوي حالياً- تعبيراً عن رفض تلك القرارات، تطورت إلى أعمال عنف، حيث تم إحراق بعض المباني في المعسكر, انتشر خبر الانتفاضة من داخل المعسكر "بطريقة متعمدة" إلى مدينة الشيخ عثمان, عندها خرجت الجماهير في مسيرة منظمة وحاشدة تتنافس في قيادتها فصائل المقاومة في كل من الجبهة القومية وجبهة التحرير، مما دفع القوات البريطانية إلى إعلان حالة الاستنفار القصوى لوحداتها العسكرية وبقية أجهزة حكمها، وفي حوالى الساعة التاسعة من ذلك اليوم الميمون وبينما كانت القوات البريطانية آتية من معسكر سنغافورة - معسكر طارق حالياً- باتجاه معسكر (ليك لاين) في مدينة الشيخ عثمان اعترضها جنود الحرس الاتحادي المتمركزون في معسكر (تشامبيونلاين) - معسكر النصر حالياً- وأطلقت عليها النيران مما أدى إلى مصرع (9) جنود بريطانيين وجرح (11) وإعطاب عدد من الآليات وبالمقابل استشهد اثنان من رجال المقاومة (الأمن). على إثر ذلك دفعت القوات البريطانية بتعزيزات جديدة وقامت بهجوم على معسكر النصر من كافة الاتجاهات، فدارت معركة كبيرة تكبد فيها المحتل خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، والأنكى من ذلك خسارته الكبيرة المتمثلة بمن كان يعتمد عليهم ليس بانضمامهم إلى جانب الثوار بل قيامهم في مواجهته المباشرة وبانحيازهم التام إلى جانب الوطن. اقتحام المدينة توقف القتال ظهر ذلك اليوم، إلا أن التوتر انتقل الى معظم مراكز ومعسكرات الجيش وأشدها توتراً معسكر «أرمد بوليس» «الشرطة المسلحة» في كريتر - معسكر 20يونيو حالياً - حيث قام الجنود والضباط بالاستيلاء على مخازن الأسلحة والذخائر رغم الاحتياطات الكبيرة التي اتخذها المستعمر للحيلولة دون ذلك، جرى حوار بين الطرفين هدفه عدم دخول القوات البريطانية المدينة, وأصرت القوات البريطانية على اقتحام المدينة وبدأت طائراتها بالتحليق في سماء المدينة وعلى ارتفاعات منخفضة مصحوباً بتقدم القوات على الأرض من محاور مختلفة واحتدمت المعركة. تم إسقاط طائرة بريطانية وقتل أكثر من (12) جندياً بريطانياً وأضعافهم من الجرحى وتدمير عدد من الآليات، مما رفع من معنويات الثوار والمواطنين الذين قاموا باقتحام السجن المركزي وإطلاق سراح السجناء وتسليحهم والذين كان معظمهم من الفدائيين ومناصري الثورة . - في هذا اليوم "20"يونيو استشهد الشاب البطل علي سالم يافعي وجرح ثلاثة من المقاومين, جرى تشييع جثمانه الطاهر باشتراك جماهيري كبير تحت القصف البريطاني. تلاحم شعبي رغم ذلك التفوق الكبير للجيش البريطاني إلا أن الثوار أحكموا سيطرتهم على المدينة بشكل تام رغم استمرار القوات المحتلة بالقصف من كل الاتجاهات البرية والبحرية والجوية لمدينة الصمود كريتر عدن، وفي هذا اليوم أصدرت كل من الجبهة القومية وجبهة التحرير بيانات تناشد فيها المنظمات الدولية والمجتمع الدولي التدخل لحماية المدنيين، وطالبت عناصرها الاشتراك في الدفاع عن المدينة والصمود كما أهابت بصمود الجماهير ووقوفهم إلى جانب الثورة في هذه الملحمة البطولية، وتلبية لذلك أعلنت المكاتب والمحلات التجارية والمصارف والبنوك الإضراب العام ليتعزز بذلك التلاحم الشعبي.. وواجهت القوات البريطانية الآن خياراً حيوياً فبإمكانها إما أن تتوجه للقضاء على التمرد بالقوة أو أن تراقب الأحداث لترى ما يتلوها من نتائج، ولاعتقاد المسئولين العسكريين والمندوب السامي أن أي إجراء متهور يمكن أن يثير تمرداً شاملاً بين القوات المسلحة للجنوب العربي، ولعدم تأكدهم من مدى تورط الشرطة المسلحة اختاروا الطريق الأخير، وعلى الرغم من أن القرار قد انتقد انتقاداً شديداً في ذلك الوقت إلا أن الأحداث برهنت على أنهم على حق، لقد توفي الاثنا عشر جندياً وكان سيقتل المزيد منهم في محاولة انتشال الجثث كما أن الشرطة المسلحة برمتها كانت تضطر إلى الالتفاف حول المتمردين لو لا أن البريطانيين الذين كانوا عازمين على الأخذ بالثأر قد نزلوا إلى كريتر بقوة. ولفترة وجيزة ساد الذعر كافة ثكنات الشرطة المسلحة إذ كان العقاب متوقعاً في كل لحظة، وتخلى المتمردون عن مواقعهم واندفعوا لكي يحثوا زملاءهم المذهولين على الانضمام إليهم وأوضحوا انه لدى عودة البريطانيين لن يميز غضبهم بين الأقلية من المتمردين والأغلبية من المشاهدين، وفازوا بوجهة نظر ووافق الآخرون على الرغم من أنفسهم على اتخاذ مواقع دفاعية، ولحسن الحظ لم توضع هذه التجربة موضع التنفيذ بتاتاً، فالسلوك الانفصامي الواضح الذي سلكته الشرطة المسلحة التي واصلت من ناحية تنفيذ واجباتها بحراسة البنوك والمباني الحكومية وبالاعتناء بجندي بريطاني جريح، ومن ناحية أخرى بإطلاق النار على زملائه البريطانيين قد حير البريطانيين لعدة أيام. وفي حوالى الساعة الواحدة بعد الظهر وقعت حادثة أخرى عندما أصيبت طائرة عمودية من طراز (سيو) كانت تقل فريقاً من قوات «نور ثمبر الند فوز يليرز» الملكية من أنقاض كريتر بنيران البنادق، وجرح الطيار وهو الضابط فورد في ركبته، لكنه تمكن مع ذلك من إنزال طائرته التي كانت تشتعل إلى الأرض، وتم إنزال جنديي فوز يلرز لكن أحدهما كسرت ساقه أما الثاني واسمه ديفي فعاد إلى داخل الطائرة المشتعلة لكي يخرج الطيار المجروح وبعد إخراجه عاد ثانية إلى الطائرة لإنقاذ جهاز اللاسلكي الذي تمكن بواسطته من طلب المساعدة وتقديراً له على هذا العمل منح ديفي وسام السلوك الرفيع. النظام ينهار ولعدم ظهور البريطانيين كما كان متوقعاً تشجع المتمردون وبدأوا بأعمال القنص ضد القوات المارة، بيد أن معظم أهالي حي كريتر قد قبعوا في بيوتهم وتربسوا أبوابها منتظرين بخوف حمام الدم الذي لم يحدث بتاتاً، وعند غروب الشمس كان النظام في المدينة قد انهار تماماً وانتشرت أعمال السلب والنهب وحطم حوالى 130 سجيناً كانوا بداخل السجن المدني القيود ولاذوا بالفرار وفي المساء أصيبت طائرة عمودية تابعة للجيش كانت تحلق فوق المدينة أملاً في العثور على بعض المعلومات الرئيسية عما كان يحدث بنيران القناصة وسقطت على سفح أحد الجبال وبأعجوبة نجا ملاحوها الثلاثة وأصيبوا بجروح فقط. وبعد ذلك أصبحت كريتر في أيدي الرعاع وشهد الليل تسلل مشعلي الحرائق إلى الشوارع وإحراقهم السيارات والأكشاك والدكاكين في عربدة تدميرية مفرطة وكان أول أهدافهم هو الجمعية التشريعية العدنية التي كانت تستقر بمفردها فوق الصخر والتي كانت مهملة منذ عهد مكاوي ولكونها كنيسة سابقة ومصدر تذكير دائم بالمحاولات البريطانية لفرض النظام الديمقراطي البريطاني على شعب أجنبي، فقد كانت موضع إغراء لا يقاوم لمثيري الشغب والثوريين على السواء، وفي الساعة الثامنة مساء كانت القوات التي تحرس الحاجز على طريق الشاطئ تراقب التلال الغربية فوق الجبل مضاءة بالنيران المشتعلة، وبعد ساعات سقط السقف مطلقاً سيلاً من الشرارات النارية وعند الصباح كان كل ما بقي من المبنى هو قطعتان محروقتان من جزئه الأعلى ترمزان بشكل رهيب لما سيحدث في المستقبل. الواقع البغيض وفي تلك الليلة اجتمعت الإدارة البريطانية داخل غرفة الاجتماعات الهادئة في دار الحكومة لمواجهة الواقع البغيض وهو أن حي كريتر قلب الحركة التجارية لمستعمرة عدن قد كان في أيدي المتمردين لقد شلت حركتهم لانعدام المخابرات فبدونه كانوا غير قادرين على متابعة مجرى الأحداث والتمييز بين الصديق والعدو وقد كان موقف قوات الجنوب العربي ذا أهمية خاصة بالنسبة لكل من عدن والمناطق التي تقع وراءها في الاتحاد. ولم تتضح الصورة عن الفشل في التنبؤ بموقف جيش الجنوب العربي في أي مكان بشكل أفضل من مخيم «العند» الواقع عند مقطع طرق اليمن الرئيسية بين لحج وردفان، وفي الصباح كلفت وحدة عسكرية بالتحرك إلى عدن في حال وجود أية ضرورة لإعادة النظام. وفي «لايك لاينز» أدرت الوحدة دون تذمر أو أية إشارة توحي بالقلق والضيق، وفي وقت متأخر من النهار بعد أن تسربت أنباء غريبة هربت الوحدة فجأة وتوجهت نحو الطريق بسياراتها الثلاث للانضمام إلى أعمال الشغب.