هناك أمر لم أتمكن من إيجاد تفسير له أبدا .. ففي عام 2009 كتبت تقريرا عن مكافحة التدخين ذكرت فيه إحصاءات لمنظمة الصحة العالمية تفيد بأن اليمن يحتل المرتبة الثانية أو الثالثة على الصعيد العربي بواقع 3 ملايين و400 ألف مدخن يستهلكون نحو 6 مليارات ونصف المليار سيجارة سنويا .. وطبعا أسندتها إلى دراسات صادرة عن البرنامج الوطني لمكافحة التدخين .. و بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التدخين هذا العام .. نهاية الشهر الماضي أورد البرنامج الوطني إحصاءات عن دراسة حديثة - بحسب قولهم – تطابق تماما إحصاءات ألفين وتسعة .. حيرتي دفعتني بشدة إلى التساؤل : هل نجحت جهود المعنيين إلى هذا الحد في مكافحة التدخين ووقف انتشاره ؟ أم إنها مجرد تنبؤات لا أكثر وفعاليات صورية كما هو حاصل مع العديد من المنظمات المدعومة خارجيا ؟؟ كالعادة يمر اليوم العالمي لمكافحة التدخين مرور الكرام، يشهد فورة إعلامية تحذر من التبغ والتدخين وتبرز المخاطر الصحية والاقتصادية التي تطال المدخنين وجيرانهم .. لكنها سرعان ما تهدأ وتبدأ الجهات المنظمة بمراجعة حساباتها لمعرفة حجم نفقاتها في حين نجلس نحن مع أنفسنا لنسأل السؤال المحير: كم شخصا امتنع عن التدخين أو قرر الامتناع عنه بعد أن سمع أو شاهد أو قرأ عن أضراره ومخاطره؟ الإجابة بلا شك، بالسالب، فأعداد المدخنين في زيادة متوالية يصعب توقيفها. جهود وقوانين متهالكة إذن، نحن أمام جبروت عالمي اسمه “التبغ” يصعب كثيرا إيقافه في ظل وجود قانون مدون على ورق أصابه التآكل. وبالمناسبة .. تذكرت شيئا مهما عن قانون مكافحة التدخين .. في مارس من العام الماضي 2013 نشرت وسائل إعلامية عن مجلس الوزراء موافقته على مشروع اللائحة التنفيذية للقانون رقم 26 لسنة 2005م بشان مكافحة التدخين ومعالجة اضراره .. وتوجيه وزيري الصحة والشئون القانونية باستكمال الاجراءات القانونية لإصدارها.. طبعا اعتبر الأمر حينها نصرا كبيرا على طاغوت التبغ ... لكن ماذا حدث ؟ نتابع: في يونيو من نفس العام أعلنت وزارة الشئون القانونية دخول قانون مكافحة التدخين ومعالجة أضراره حيز التنفيذ على أرض الواقع بعد ثمان سنوات من تعطيله .. وذلك بعد أن استكملت الوزارة الإجراءات القانونية اللازمة للائحة التنفيذية وأقرت صدورها بشكل نهائي ... وبذلك يعد القانون ساري المفعول من حينه .. وهذا أيضا أمر رائع أيضا .. ولكن يجب أن نتابع: خلال الاحتفالية الأخيرة التي أقيمت هذا العام بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التدخين شدد رئيس المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان الحاج عبد الواسع هائل سعيد على ضرورة قيام الجهات الحكومية وخصوصاً وزارة الصحة بتنفيذ القانون الخاص بمكافحة التدخين وتشديد الرقابة على الأماكن المحظور فيها وعدم تجاهل العقوبات والإجراءات الجزائية على أمل الحد من التدخين وانتشاره إلى جانب توعية المواطنين بالأضرار الناتجة عنه و حماية غير المدخنين وتمكينهم من العيش في بيئة صحية خالية من دخان السجائر. كل ما سبق أمور في غاية الروعة والأهمية .. لكن المحزن أن كل تلك الأقوال والتصريحات سمعناها مرارا منذ عدة سنوات وخصوصا في المناسبات الدورية المهتمة بهذا الشأن .. والعجيب أيضا أننا ومنذ سنوات عدة سمعنا عن قانون يمنع التدخين في وسائل المواصلات العامة ويعرض المخالفين للمساءلة القانونية وعلقت آلاف الملصقات على زجاجات السيارات والحافلات تجرم ذلك وتوعي بخطورته .. ولكن ما يحدث أننا نتجاهل ذلك دائما حتى أن البعض يقوم بذلك عنوة وكأنه يشير إلى أن مخالفة القانون اليمني لا تعني شيئا. من هنا يبرز حجم التحدي الكبير أمام الحالمين بكوكب خال من التدخين لأن التبغ حصل على الحصانة الأبدية واكتسب القوة والمنعة والرغبة الجامحة في السيطرة على إدمان البشر.. استثمارات في صناعة الموت بالمقابل تقدر عائدات صناعة التبغ والاستثمار فيه عالمياً بالترليونات وجزء كبير من هذه الاستثمارات يخص الحكومات و من هم في مراكز صنع القرار وخاصة في دول العالم النامية التي تدر هذه الصناعة لخزينتها المليارات على شكل رسوم وضرائب .. وطبعا لا يتم الإفصاح عن ذلك مطلقا .. غير أن الحاج عبد الواسع هائل كان قد أكد لي ضمنيا في حوار سابق تلك المعلومة .. الأمر العجيب أن جهود القائمين على مكافحة التدخين وأضراره نجحوا في الحصول على موافقة الحكومة بخصم جزء من عائدات مبيعات التبغ كرسوم تقسم بين دعم مراكز مرضى السرطان وبين صندوق رعاية النشء والشباب .. أتدرون كم ذلك المبلغ ؟ واحد بالمائة فقط .. أمر مضحك جدا .. فداويناها بالتي كانت هي الداء .. إذن نحن أمام حكومات تصنع الموت لشعوبها و”لوبي” يمنع أي توجه لمحاربة التبغ وتجارته ونظل في دوار أو متاهة فيما يجد التبغ مرتعه الخصب بين أصابع الناس وأنسجة رئاتهم وخلايا أجسامهم. خداع المروجين أمر آخر لا يقل أهمية عن سابقه .. فشركات صناعة مشتقات التبغ بدءً من السجائر المتنوعة وتبغ الشيش و المعسلات وغيرها .. لها روح تجارية تتسم بالمكر والخداع ولها رجال محترفون للترويج والدعاية والتصميم الجذاب ليدخلوا عقول المدخنين بأحلام وردية وليدمنوا البقاء والمكوث طويلا حتى الوفاة. فالتصميمات والماركات المختلفة التي تتسم بها عبوات التبغ والجاذبية والأناقة التي تناسب جميع الأذواق إلى جانب التخيلات التي تضيفها عن فن التدخين، هي بلا شك إحدى أهم طرق جذب غير المدخنين، وهي صورة نمطية لا يصورها أي منتج آخر بين النساء والرجال .. ومن هنا يتبين أن أهم التحديات التي تواجه الصحة وتعوق مجال مكافحة التدخين هو أن شركات التبغ ما زالت حتى الآن مستمرة في تطوير منتجاتها للحفاظ على مكاسبها ولا يمكنها مطلقا التخلي عن سعيها الحثيث نحو المزيد من الأرباح .. وفي ظل هذا الترويج سعت منظمة الصحة العالمية من خلال الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ لمجاراة شركات التبغ في أساليبها الدعائية والترويج لجذب المزيد من المدخنين من خلال إصدار تشريعات وقوانين في جميع بلدان العالم تستبدل التحذيرات الصحية النصية بأخرى مصورة لعدم فاعلية التحذيرات المكتوبة .. وحسب تصريح مدير البرنامج الوطني لمكافحة التدخين الدكتور محمد الخولاني فإن بلادنا سعت جاهدة نحو إلزام شركات التبغ بإلصاق صور تحذيرية على كل علب السجائر تسمى (التحذيرات المصورة ) هدفها لا يقف فقط عند تحطيم جاذبية المنتج وإظهار حقيقته بل يساعد المدخنين على الإقلاع عنه وسد باب الذريعة لغير المدخنين من الأطفال والشباب وهو الهدف الأهم والرئيس .. فالمعروف أن الأطفال والشباب ينجذبون أكثر إلى الأشياء الجذابة والجميلة. وبالنظر إلى الواقع فقد اعتمدت الكثير من الدول تلك الآلية وحققت فاعلية كبيرة ونجاحاً هائلاً في خفض نسبة المدخنين في تلك البلدان .. غير أنها في اليمن لم تجد إلى الواقع طريقا .. وعليه فإن المعركة ستبقى قائمة بين المروجين لشركات التبغ بكل وسائلهم والهادفين إلى الربح الوفير على حساب أرواح الناس وبين المكافحين للتدخين بكل أشكاله والمحذرين منه عبر مختلف الوسائل والهدف الذي يسعى الجميع إلى الوصول إليه هو أرواح الناس حفظها أو إزهاقها. أوضاع خاصة إن مما يزيد الأمر خطورة أننا في اليمن نفتقر إلى وعي صحي وقانوني فنجد أن وراء كل مليون مدخن ضعف هذا العدد يستنشق دخان المدخنين وهو ما يسمى بالتدخين السلبي .. وفضلا عن ابتعادنا عن أي وضع قانوني ينظم ذلك نبقى دائما بعيدا عن التفكير في كل ما يمكن أن يمس صحتنا وصحة العامة من الناس من خلال أفعالنا الأنانية طالما أن المرض لم يصلنا بعد.. وللتذكير بخطورة هذا الفعل تؤكد تقارير منظمة الصحة العالمية أنه لا يوجد مستوى آمن من التعرض لدخان التبغ السلبي مهما اتخذت التدابير اللازمة لذلك وأن تحقيق سياسات مكافحة التبغ بنجاح هي فقط ما يحقق حماية فاعلة. لقد أوردت الصحة العالمية في تقرير لها ما مفاده أن الناس عموماً قد يعرفون أن تعاطي التبغ مضر بالصحة ولكنهم يعتبرون تعاطيه مجرد عادة سيئة يفضل بعض الناس الانغماس فيها؛ ربما لأن الجمهور لم يحصل على شرح واف عن قدرة التبغ الفائقة على الإصابة بالإدمان، ولذلك يعتقد الكثير أن بوسعهم التقليل من تعاطي التبغ أو الكف عنه قبل ظهور المشاكل الصحية.. والحقيقة هي أن معظم من يتعاطون التبغ سيعجزون عن الإقلاع عنه، وسيموت نصفهم بسبب الأمراض المرتبطة بالتبغ، فمعظم الناس لا يدركون أن الخطر داهم مهما قل مستوى تعاطي التبغ. بين الوقاية والإدمان هناك قول شعبي شائع مفاده “ ما من المقدر حذر ولا من الموت مهرب” .. غير أن تجارب العلماء أثبتت بما لا مجال للشك فيه أن التبغ هو السبب الذي يمكن توقيه أكثر من غيره من بين أسباب الموت في عالم اليوم، وأنه الإنتاج الاستهلاكي القانوني الوحيد الذي يضر كل من يتعرض له ويقتل ما يقرب من نصف من يتعاطونه بأي طريقة صنع لها.. وبالرغم من كل ذلك لا يزال تعاطي التبغ شائعاً في جميع أنحاء العالم.. لقد أكدت البحوث الميدانية أن معظم من يتعاطون التبغ يريدون الإقلاع عنه ولكنهم لا يتمكنون من ذلك لأنهم أصبحوا مرتبطين بهذه المادة التي تسبب إدماناً قوياً.. وعليه فإن من الضرورة أن يربط الناس بين التبغ وبين قدرته الفائقة على الإصابة بالإدمان وعواقبه الصحية الخطرة وأن ينظروا إليه على أنه أمر سلبي وغير مستحسن اجتماعيا، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إجراءات تتخذها الحكومات ويتخذها المجتمع عموما . تدابير ناجحة لقد أثبتت التجارب وجود تدابير كثيرة عالية المردود لمكافحة التبغ يمكن استخدامها في أماكن مختلفة وهي كفيلة بالتأثير بشكل كبير على ظاهرة تعاطي التبغ من أهمها السياسات العامة الشاملة لجميع السكان مثل حظر الإعلان المباشر وغير المباشر عن منتجات التبغ وفرض المزيد من الرسوم والضرائب عليها وزيادة أسعارها وتهيئة بيئات خالية من دخان التبغ في جميع الأماكن العامة وأماكن العمل ووضع رسائل صحية بيانية ومصورة واضحة على علب التبغ .. والمطلوب من المعنيين والمهتمين بمكافحة التبغ والتدخين وأضرارهما أن يسعوا جاهدين إلى الضغط على السلطات لتحقيق تلك التدابير أو بعضها إذا رغبوا فعلا في أن تثمر جهودهم ما لم سيظل كل ما يفعلونه أو يزعمون السعي لفعله مجرد أحلام وأمان لا أكثر ..