طوفان كبير من الإعلانات يخترق منظومة قيمنا، يجتاحنا، يستحوذ على شبابنا، يتحرّش بهم، يلهيهم، ولا حقّ لنا في الاعتراض أو حتى التعليق، إنه مزلق خطير ومعاداة صريحة لكرامة المرأة وحرّيتها واستقلالها، والأدهى والأمر من ذلك أنه أصبح أمراً واقعاً ومقبولاً لا يتجاوز غرضه الدعائي سوى لفت الانتباه وجذب الأنظار على مبدأ «الغاية تُبرّر الوسيلة»..!!. يعتقد كثيرون من المهتمين أن الإعلانات التجارية ليست بالظاهرة الجديدة أو بالسلبية المحضة فإيجابياتها أيضاً كثيرة، ويكمن الجديد فيها «بالإعلان الفاضح» حيث تبرز الفتيات المتبرّجات كلازمة مرافقة لأية سلعة «ضرورية أو كمالية» حتى وإن كانت تلك السلع لا تحتاج أصلاً إلى وجود امرأة بجانبها، وإلا فماذا يعني وجودها في إعلان عن سيّارة أو نظّارة أو حتى طيارة..؟!. خلع الملابس..!! عفاف الدميني «طالبة جامعية» ترى أن استغلال المرأة في الإعلانات يثير في نفسها نوعاً من الغيرة على هذا المخلوق الجميل الذي يظهر مفاتنه للإعلان، وتتسأل: لا أدري ما هي علاقة المرأة بالإعلان عن البطاريات وماكينات الحلاقة وآلات الري..؟!. وما العلاقة بين تعمد إبراز الصدر العاري للمرأة في إعلان عن التلفزيون أو الثلاجة، فنجدها مثلاً تفتح الثلاجة لتشرب وهي ترتدي قميص نوم يكشف كل مفاتنها؛ وذات الصورة تتكرّر في إعلان معجون الحلاقة بزيادة الاحتضان والرضا التام..!!. - تشاركها ذات التوجُّس زميلتها خلود ناصر، وتضيف هذه الأخيرة: أن المرأة أصبحت سلعة مبتذلة تتراقص في كل إعلان وتتغنّى بأسلوب فج وبألفاظ غير مهذّبة، في صورة مشوّهة لا تخدم الإعلان بقدر ما تمثّل من استعراض وإغواء، وتؤكد أن مفاتن هذه المعلنة أو تلك ليست السبب الذي يجعلنا نشتري مثل هذه المنتجات، فالضرورة والحاجة والظروف المادية تفرض نفسها هنا وبقوة، وبالنسبة لها فهي لن تشتري هذا المنتج أو ذاك حتى ولو قامت المرأة الموظفة في الإعلان بخلع جل ملابسها ما دمت في غنى عنه..!!. إغواء تعمل الإعلانات التجارية أيضاً على الترويج لصور فاضحة وسلوكيات مرفوضة، ففي إعلانات «العطور» مثلاً نرى امرأة مُتبرجة فاتنة بمجرد مرورها من أمام حشد معاكس من الرجال؛ نراهم يغيرون طريقهم ويتجهون صوبها مأخوذين برائحتها..!!. - لا ينكر علاء العريقي أن مثل هذه الإعلانات تقود إلى الإثارة الجنسية؛ حيث تستخدم المرأة كجسد لا وظيفة له إلا إثارة وإغراء الرجل، وتتركز تلك الصورة النمطية من خلال التركيز على جمال المرأة الجسدي، واستخدام الإيحاءات الجنسية التي تتناغم مع غريزة الرجل؛ إذ أصبح الإيحاء واحداً من أهم الأوتار التي تعزف عليه الإعلانات من حيث يعلم أو لا يعلم المتلقّي، والشاهد على ذلك أن فتاة «إعلان العطر» كما أغوت «خُبرتها» تتجه في آخر لقطة وفي ابتسامة جذابة صوب المشاهد «تغمز وتلمز» وتختم الإعلان بحركة مثيرة. صحيح أن المشاهد يرى ولا يشم؛ إلا أنه يتخيّل أن هذا العطر جذاب لأن التي نشرته وأغوت الجميع كانت جذابة الشكل، وبالتالي هناك ترابط نفسي بين الرؤية والشم، ولو أن المشاهد فعلياً لا يشم ولكنه يتخيّل أنه يفعل ذلك، فتتم إثارة شهيته للشراء أيضاً..!!. - وهنا يتساءل الدكتور أحمد الحاج: إلى أين تقودنا هذه الإباحية..؟!، فإعلانات الفضائيات في اعتقاده تحوي الكثير من الإباحية وسوء اختيار للألفاظ والمشاهد التي لم تعد تخدش الحياء فحسب بل تجرحه وتدميه وتقطعه من الوريد إلى الوريد، وما يقلق الحاج أكثر هو أن تداول هذه الإعلانات أصبح أمراً طبيعياً في كل القنوات، بينما المفترض أن تعرض على استحياء وفي قنوات معيّنة لا تستهدف برامجها كل الأسرة. مُنشّطات جنسية..!! وفي المقابل هناك إعلانات تصيب المشاهد بالخجل خاصة إذا كان أطفال الأسرة حاضرين، وأعني بذلك «المنشّطات الجنسية» فالطفل دائماً ما يكون كثير الأسئلة حول أية معلومة لم يستوعبها، لحظتها قد يحرج الأب والأم معاً..!!. يوسف الوجيه - شاب ثلاثيني- يلخّص لنا ذات المعاناة بقوله: في كثير من الأحيان أكون جالساً أمام التلفزيون وعائلتي المكوّنة من أمّي وزوجتي وأختي وأبنائي الصغار، فتبث على الشاشة إعلانات مُحرجة لتعلن مثلاً عن «الفوط الصحّية» وطرق استعمالها مدعّمة بعبارات مخجلة «الفوطة تمتص البلل» أو «فقط جرّبيها وستشعرين بالراحة» لتستقر عدسة الكاميرا في النهاية على جزء مثير من جسد مستعملة الفوطة، وهي تتبختر في مشيتها لتؤكد فعلاً مدى شعورها ب«الراحة»..!!. الجدير ذكره أن كثيرين من الإخصائيين النفسيين المُهتمين بشؤون الطفولة طالبوا بوقف بث مثل هذه الإعلانات، مُشدّدين على ضرورة مراعاة الجانب النفسي والأخلاقي للطفل في صغره، وخصوصاً أنه يتوجّه نحو مرحلة خطيرة من عمره، وهي مرحلة المراهقة، فمفهوم هذه الدعايات لن يخرج من ذاكرة الطفل دون إجابة عن هدف هذا الإعلان، وبماذا يختص، وبهذا ينتقل معه هذا المفهوم إلى مرحلة المراهقة التي ربما يبحث فيها عن تجريب المفاهيم المخزّنة في ذاكرته. تدليس يجزم فارس محمد «مندوب مبيعات» أن هذه الإعلانات تطال بتأثيراتها «الجانب الاقتصادي» فكثير من المنتجات الرائجة تنتشر بسبب الإعلان المثير؛ وليس بسبب جودتها وفعاليتها، وهذا في اعتقاده «تدليس» مرفوض شرعاً وقانوناً، فهي تحرّك نزعة الاستهلاك لدى المتلقّي، موضحاً أن الخطورة تتركّز أكثر في المرأة الأمّية حيث تمنح صفة «الاستهلاكية» دون أن تحفّزها على أمور أخرى أهم، والطامة الكبرى أنها تؤدّي إلى استنزاف موارد الأسرة مما يثقل كاهل الأسرة ويجعلها تقع تحت طائلة المديونية، وقد وجد الكثيرون من الباحثين أن الكثير من المشاكل الأسرية تأتي نتيجة عدم كفاية الموارد المالية المتاحة، حيث يضطر أفراد الأسرة وتحت ضغوط الإعلانات إلى الاستدانة. دراسات كثرت في الآونة الأخيرة الدراسات والبحوث والرسائل الجامعية التي أبرزت زيادة نسبة ظهور الفتيات «بشكل غير لائق» في الإعلانات التليفزيونية التجارية، وأشارت إلى خطورة هذا التواجد النسائي المُفرط في الإعلانات باعتباره عملاً استفزازياً غير مبرّر يسهم في تهميش المرأة، وإهدار كرامتها، ودعم النظرة التقليدية لدورها في الحياة العامة، وانتقاص قيمتها كإنسان فاعل، فضلاً عن ترسيخ مفهوم أن المرأة قد صارت رمزاً للجسد والإغراء الجنسي والمعايير الاستهلاكية. وقد سبق أن نوقشت رسالة ماجستير مهمّة في دولة عربية بعنوان «صورة المرأة في إعلانات التلفزيون» اعتمد الباحث فيها على تحليل مضمون 356 إعلاناً تلفزيونياً بلغ إجمالي تكرارها 3409 مرات، أي تسع مرات خلال 90 يوما فقط، توصل الباحث إلى أن صورة المرأة وصوتها استخدمت في 300 إعلان، وأن 42 % من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخصُّ المرأة، وأن 76 % من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة بالمرأة، كالجمال والجاذبية، و51 % من الإعلانات تعتمد على حركة جسد المرأة، و12 % من الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية. وفي كثير من الدراسات التي أجريت حول تأثير النماذج الإعلامية في سلوكيات الأفراد؛ تبيّن أن الأطفال والشباب المراهقين عادة ما يجدون ضالّتهم المنشودة فيما تقدّمه لهم وسائل الإعلام، وبخاصة التلفزيون من شخصيات يتقمّصون حركاتها وأشكالها ولباسها وطرق حديثها، ولذا فإن هذه الإعلانات تعمل على تكوين قدوة سيّئة للمراهقات، وتقدّم نموذج المرأة الغربية كقدوة في مظهرها وفي كل تفاصيل حياتها..!!. حافّة الهاوية ذهب كثيرون إلى توصيف هذه المُعضلة «بالكارثة» المُهدّدة بطمس الهويّة وتغييب الذات، فيما تندرج تحت الإطار إشكاليات كثيرة ليست موضوعنا أصلاً، وهنا أجدني ملزماً بالاختزال قدر الإمكان خاصة أن هذا التشتت يحتاج إلى أكثر من تناوله، يقول هشام شمسان: لقد تغيَّرت المفاهيم وتبدّلت الصّور وانقلبت الموازين، وأصبح التطوّر يُقاس بحجم قدرة المرأة على أن تكون متحرّرة قادرة على تقاسيم جسدها دون خجل كاسرةً كل القيود التي تفرضها العادات والتقاليد وقبل كل هذا الدين. مضيفاً: إن المَشهد برمّته صورة من صور إسفاف الفضائيات الكثيرة التي صار أصحابها يلهثون وراء المادة «قيمة الإعلان» دون أدنى مراعاة لنفسيات المُشاهدين؛ المُهم عندهم «فلوس» كما أن المُعلن يهمّه كثيراً شد انتباه المستهلك من خلال إثارة انتباهه، وخلق الرغبة لديه، وحثه على الشراء، ولا أفضل من أن يرسّخ السّلعة في ذهن المواطن من خلال تطعيمها بفتاة جميلة الملامح. - ويستدرك هشام: نحن في عصر انقلبت فيه الموازين وضاع فيه الحد الفاصل ما بين «الإيجابي والسلبي» وما بين الفينة والأخرى تقترب فضائياتنا أكثر وأكثر صوب حافّة الهاوية، وتنحدر بسرعة الصاروخ إلى عصر كل ما فيه يعج ويموج بالتفاهات. مُجرّد جسد وفي ذات السّياق يقول حلمي البعداني: إن الإعلانات التجارية تكرّس مفهوم دونية المرأة فهي تقدّمها ككائن تابع للرجل يقتصر دوره في المجتمع على «غسل الملابس والتنظيف والطبخ» بينما دورها الفعّال في التنمية والإنتاج والتربية مُهمّش، فهي ليست أكثر من جسد مغرٍ يستعرض سلعة مشتهاة لا علاقة لها بالمنتوج المعلن عنه، ويتساءل: لماذا لا يستغل الإعلان في حملات لتوعية الأم في كيفية رعاية الطفل صحّياً واجتماعياً وتربوياً ووقايته من الأمراض، ولماذا لا يقوم الإعلان بتوعية الأسرة وتعليم أفرادها عادات غذائية سليمة، وإرشادها للاستهلاك السليم والمتوازن، أو تشجيعها على أن تكون منتجة في بيتها..؟!. ويرى حلمي أن هناك وسائل عديدة للإعلان بعيدة عن المرأة ومن الممكن أن تكون مثيرة وجذّابة وهي استخدام «الرسوم المتحرّكة» أو المناظر الطبيعية، وهذه قد تحقّق الغرض وتصل إلى الهدف المطلوب أكثر من استخدام المرأة كسلعة في سوق الإعلانات، مضيفاً أن الغالبية العظمى من هذه الإعلانات مزلق خطير ومعاداة صريحة لكرامة المرأة وحريتها واستقلالها، فالمرأة تظهر في الإعلان كجسد، مجرّد جسد، تحرّكه أصابع أصحاب المنفعة من أجل الترويج للسلعة الاستهلاكية بواسطة دغدغة مشاعر المشاهدين واللعب على غرائزهم المكبوتة. مُتخلّفون..!! عبير علوي «موظّفة» ترفض وبشدّة هذا الاستخدام الرخيص للمرأة، وتعتبر ظهورها ذاك منافياً للأخلاق والدّين، ومؤثّراً على أخلاق المجتمع خاصة المراهقين، وسيقود حتماً إلى «كارثة اجتماعية» لأن ظهور صورة المرأة سيسهم بشكل تدريجي في هدم البناء الأسري، وتؤكد أن هبوط المستوى الفكري والثقافي والأخلاقي لوظيفة الإعلان سوف يجعله يفقد جمهوره في النهاية، وتجزم عبير أن هذا الانحطاط وفد إلينا من الغرب بفعل «العولمة، والسموات المفتوحة». وهو ذات الاعتقاد الذي يسيطر على كثيرين، فهذا مختار الراسني يقول متحاملاً: إن الغرب لم ولن يحترم المرأة أو يُعطيها المكانة اللائقة التي تستحقها؛ بل استمر في امتهانها وإجحاف حقّها يوماً بعد آخر، وهم على دراية تامة أن هذه ليست حريّة أو تطوّراً وإنما تجارة لبيع اللحم الرخيص، والتي أدواتها امتساح ملامح الحياء والخجل لتحلّ مكانها ملامح الوقاحة والغزل، وهو رغم ذلك يؤكّد أننا على الدرب سائرون، نتلقّف كل ما هبّ ودبّ دون دراية خوفاً من أن ينعتنا الآخرون «بالمُتخلفين»..!!، تنبيهٌ مُهمٌ صمت المجتمع المريع تجاه هذه الظاهرة سيؤدّي إلى استمراريتها، وبالتالي يصعب التوقف عنها، بهذا التنبيه المُهم ابتداء المهندس، جميل الصامت حديثه، منبّهاً إلى أن هذه الإعلانات أصبحت أمراً واقعاً ومقبولاً لا يتجاوز غرضه الدعائي سوى لفت الانتباه وجذب الأنظار على مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة». ويضيف: أن الشركات الدعائية بشكل عام تفنّنت في تبنّي هذا المبدأ متجاوزة المعقول والمقبول إلى خانة الخطوط الحمراء، وقد ساعدتها على ذلك وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة التي تهتم بالعائد الإعلاني الذي تحصل عليه نظير مساحات زمنية أو مكانية تشغلها تلك الإعلانات والتي تعوّل عليها إلى حد كبير في استمرارها أو توقفها. ويستدرك: من غير المجدي إلقاء اللّوم على وسائل الإعلام وحدها؛ فنحن أيضاً شركاء فيما تبثّه، باستمرارنا في شراء تلك المنتجات والتي تثبت مبيعاتها مدى نجاح أو فشل الحملة الدعائية، ومعايير الربح والخسارة قد تضطر القائمين ومالكي تلك الوسائل إلى غضّ البصر والتعامي عن بعض الضوابط وخصوصاً إذا أصبحت مسألة الاستمرار أو التوقُّف على المحك. بُشرى فؤاد القاضي «مسئول التسويق في إحدى الشركات الخاصة» له وجهة نظر مغايرة للتوجُّه السابق برمّته، فالدعاية الناجحة - على حد وصفه - تقوم على استخدام المفتاح الأقوى لتوصيل الفكرة، وبما أن طبيعة دور المرأة في أغلب المجتمعات مسؤولة عن احتياجات المنزل ومتطلبات أسرتها من زوج وأطفال كانت هي بمثابة المحرّك والدافع للشراء. ونظريات التسويق بشكل عام - كما يعتقد - تقوم على عوامل نفسية واجتماعية تتعلّق بأفراد المجتمع الذين يتلقّون الرسالة الدعائية من حيث المحتوى والتصميم أو الإخراج، وبذلك أضحت المرأة عنصراً رئيسياً للمادة الدعائية، لما لها من مواصفات في توفير وتوصيل الفكرة، خاصة الإعلانات عبر التلفاز لأنها تشمل الصوت والصورة والحركة أيضاً؛ إلا أنه لا يمكن تعميم الأدوات أو الوسائل المستخدمة نفسها من مجتمع إلى آخر. من جهته عبدالحكيم الرازي «مندوبة تسويق» في إحدى وكالات الدعاية والإعلان قال: إن غالبية المعلنين يطلبون أن تحتوي الرسالة الإعلانية لمنتجاتهم على صورة المرأة على اعتقاد أنها محبّبة للشراء، مشيراً إلى أن السواد الأعظم من وكالات الدعاية والإعلان لا تخضع إلى أي أسس تسويقية علمية صحيحة، مرجعاً السبب إلى الربح المادي السريع والخضوع لرغبات العميل، وهي الاستراتيجيات المتّبعة لتصميم الإعلان، موضحاً أن المستقبل يبشّر بخير خاصة أن هناك جمعيات أوروبية بدأت تنادي بالتوقُّف عن الترويج للمنتجات والسّلع عن طريق إظهار أنوثة المرأة بصورة تجارية بحتة واستغلال جسدها في عمليات البيع والشراء والتسويق.