إكتمال الدائرة "ليس أجمل من الصباح إلا الضحى". يقول جوزيب، على العتبة. "من الضحى إلا الظهيرة". يستطرد. "ليس أجمل من الظهيرة إلا العصاري". يحسم. "من العصاري .. [وتمرق ماريّا وتلاطفه: كيف حال "جوزيب المستعجل" اليوم؟] إلا المغارب". يُطنّشها ويُكمل. "ليس أجمل من المغارب إلا العشايا". "من العشايا إلا .. [أقاطعه: انتظر! ما قصة "المستعجل" هذه؟ يردّ: لا. هذا لقبي في البناية]. إلا الليل. يتم الجُملة. "ليس أجمل من الليل إلا انتصافه". يواصل. من انتصافه إلا الواحدة صباحاً. يسخن. من الواحدة إلا دَقّة الثانية. إلا الثانية والربع .. والثلث .. الثانية والنصف. يشتغل كالمكوك. "إلا الثالثة". "من الثالثة إلا الفجر". يُطنب. "ليس أجمل من الفجر إلا الصباح". يسعل ويضيف: أنا عشت 76 سنة. أي أحمل على منكبيّ 76 طناً من الليالي والنهارات. لذا عندما أتكلّم وأحكي فعن خبرةِ رَبّاعٍ أو قاطرة. بعد يومين أخذوا جوزيب السعيد للمستشفى، بعد زحلقة في البانيو، وأجلسوه على سرير الأبد. أنا قلت الجار للجار، وعُدته. قال، وحوله تسعة من الأبناء والأحفاد، موجّهاً كلامه إلى أصغرهم: "أنا بخير يا جوردي. ليس من السهل تخريب القاطرات". ثم ختم هامساً، وهو يغمز لي أثناء مغادرتنا، بطلبٍ من الممرضة: "هذه العالم كومة خراء. ليس أجمل من حياتي، إلا موتي"! تلمذة بعد الخمسين شهران ونصف في تعلّم اللغة. انتهى الكورس فتفرّقوا أيدي برشلونة. هم القادمون من أربع قارات، و13 لسان. على أمل حياة جديدة، وحيازة بيت وعمل. ذكريات وقفشات ومباهج صغيرة. وألم دفين في قحف الأعماق، تؤكّده الضحكة الخجول والتسهيمة المباغتة. فهل ستلتقون في ما بعد يا تُرى؟ ومن سوف ينجح منهم ومن سيفشل فيعود إلى جحيمه الأول؟ ومن سيعيش ومن سيموت؟ رحماكِ يا أنبلَ وأحزنَ التلمذة. رحماك وأنت تأتين بعد الخمسين! فرق في الضمائر ذات ماض قديم جداً، دعتك شاعرة تعمل في التلفزيون وألحّت، فاستجبت خجلاً ومجاملة لها لا لتلفزيونها الوطني. بعد تسجيل الحلقة، أردت مصافحتها والذهاب، ففحّت: مبسلمش! في الحقيقة صُدمت. فهي شاعرة وتكتب بروح الحداثة. ومن يومها إلى الآن لا تنسى الموقف البايخ، وشعورك آنذاك بالحرج والانكساف. اليوم تكرّر الموقف في برشلونة مع سيدة مغربية أنقذتك من ورطة محققة: فقد طبقتَ باب شقتك والمفتاح بداخلها! لففت في الشوارع مدة ثلاث ساعات، فلم تجد من ينقذك، إلى أن يُسّرت لك هذه الشابة النبيلة فحلّت المشكل. وحين هممت بشكرها والذهاب، مددت يدك، بكل براءة، فأشاحتْ على غير توقّع، وفحّت أيضاً: منسلّمش! إيش الحكاية؟ واحدة تقولها في غزة بضمير المفرد، وأخرى تقولها في برشلونة بضمير الجماعة. هذا هو كل الفرق! إسناد تاريخي كل عربي هو مستنقع من الحزن. إنها يا عزيزي مسيرة قرون في التاريخ. رأيتهم يحتفلون بالسنة الجديدة في ساحة كتالونيا، بين الألوف من مختلف أمم الأرض. وهم وحدهم من كانوا يبالغون في فرحهم الهستيري وحركاتهم الزائدة. عام سعيد! طب من وين والقصة يعوزها إسناد تاريخي؟ إبداع من هناك [طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى، فإنهم سيُعزّون. طوبى للوُدَعاء فإنهم سيرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البّر فإنهم سيُشبعون. طوبى لكم متى أهانكم الناس واضطهدوكم .. افرحوا وتهللوا فإن مكافأتكم في السماوات عظيمة.] عشت يا زميل وعاشت قصائدك. وطوبى للشعر الذي يكسر "حاجز الألم"، ويقول كلمته، رغم المغامرة الفنية، في وقتٍ تكسر فيه الإف 16 حاجز الصوت وتروّع أهلنا الوادعين في غزة. إنها لحظة قاسية على الشعر الحقيقي. ومع ذلك، ها أنت "هناك" تقتحمها، وتبدع! مآل أنا الذي تخليت عن لحافي لعازف كمان، من أجل معزوفة. لم أكتفِ بتوزيع الطوبات على العَمَيَات، وعلى العُميان. أنا فانيك، أستغرب كيف تتعامل، أنت الخالد والجليل، بطريقة الحكّام العرب: "سا .." و"سا ..". يا أبانا هذا لايصحّ. الناس تريد الطحين والملابس، الأدوية وطوب البناء مش الطوبى خاصتك. الطوبى خاصتك هذه، متبوعة بال"سا" خاصّتك أيضاً، حين توضعان تحت التمحيص، لا تقنعان ولا تنفعان حتى الولد الشخّاخ. والأغلب أنهما ستأخذانك في ستين داهية. ولأني أحبك، أنصحك: غيّر سياستك والحق حالك، قبل أن يكون مآلك مثل الواد حسني وبقية الأولاد. أو مثل حالك ومآلك في أوروبا. وأنت تعرف أيش بقصد. قال طوبى قال! انحدار صدّقوا: الانكباب على الشعر يجعل الشاعر كالصرصور: بلا قلب. كالمرآة: بلا ذاكرة. كطبيخ العذراء: بلا ملح. وصدقوا: نقد هذا الانكباب يجعل الناقد مثل الصرصور: بلا قلب. كأنه المرأة: بذاكرة حديدية. كما طبيخ العذراء: سيتحسن في المرة القادمة! نحت لأنّ عيونها مفتوحة على الأبدية. لأنها تنظر إلى الخلود بترفع. لأنّ من نحتها كان يعي أنه فانٍ وهي الباقية بعده. ولأنني أفتقر لكل ما سبق، مولعٌ أنا بالتماثيل. ومولع بالأخصّ بمنحوتات كبار النحّاتين الكتلان: جوزيب ليمونا، مسترادا دا كافستانيه، بيرا أورجلييس، لِيَندرا كريستوفول، رامون بَادورا، ورامون ميرو. وكلهم موتى. وكلهم أحياء بأكثر مما يزعم لنفسه كاتب هذه السطور أو قارئها. إلهي! أي تخليق وأي تحليق؟ منحوتات من صخر، من معدن، من موادّ مستعملة، موادّ قاسية، ومع هذا تخرج من تحت يدي الفنان، بالغة النعومة كمؤخرة طفل، بالغة الإيحاء كأفق مفتوح، و .. بالغة الشجن! لقد تعلّمت من النحت الكتلاني، عبر مشاهدته بالعين المجرّدة، وبأحجامه الطبيعية، في الملتقيات والمتاحف والمعارض، وقصور الحكومة، وخلال ستة شهور فقط، مالم أتعلمّه بالقراءة عن فن النحت عبر الورق والشاشة، طيلة العمر. ومالم أتعلمه حتى من مداومتي على التحديق في هاوية الشعر. حقاً: إنّ النحت والموسيقى هما نبيلا الفنون كلها. الأسمى والأكثر تجرّداً [أقول تجرّداً، ولم أقل تجريداً] بين جميع الفنون. النبيلان بأل التعريف. والتحدي الماثل أمامي الآن ومستقبلاً هو: كيف سأتعلّم وأستفيد من فن النحت في شعري، بعد أن لم أوفّق كثيراً في التعلم من فن الموسيقى؟ هذا هو السؤال العُضال!