الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    صحيفة تكشف حقيقة التغييرات في خارطة الطريق اليمنية.. وتتحدث عن صفقة مباشرة مع ''إسرائيل''    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    العميد باعوم: قوات دفاع شبوة تواصل مهامها العسكرية في الجبهات حماية للمحافظة    وكالة دولية: الزنداني رفض إدانة كل عمل إجرامي قام به تنظيم القاعدة    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    في اليوم 202 لحرب الإبادة على غزة.. 34305 شهيدا 77293 جريحا واستشهاد 141 صحفيا    "قديس شبح" يهدد سلام اليمن: الحوثيون يرفضون الحوار ويسعون للسيطرة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    إلا الزنداني!!    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرانز كافكا: الحُكم - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 22 - 01 - 2013

كان صباح يوم الاحد والربيع في اوجه. كان جورج بندِمن، رجل اعمال شاب، يجلس في غرفته على الطابق الاول لدار في طابورطويل من دور صغيرة متداعية تمتد جانب النهر، يصعب تمييزها عن بعضها سواء في الارتفاع او لون الطلاء. كان قد انتهى لتوه من كتابة رسالة لصديق قديم يسكن في الخارج الان؛ ببطئ وايقاع حالم طواها داخل الظرف وهو يسند بمرفقيه على طاولة الكتابة ويحدق خلال النافذة بالنهر، الجسر والتلال بخضرتها الندية على الضفة الاخرى.
كان يفكر بصديقه الذي ،في الحقيقة، كان قد فرّ الى روسيا قبل بضع سنوات مضت، لعدم رضاه بالفرص المتاحة في بلده. كان يديرعملا تجاريا في سان بيترسبيرغ الان، حيث ازدهر في مطلعه، لكنه بدأ ولوقت طويل يتدهور كما كان يشتكي عادة في زياراته التي زاد من ندرتها. كان ،اذن، يرهق نفسه هكذا بلا طائل في بلاد الغربة، اللحية الكثة غير المعهودة التي اطلقها لم تواري تماما الوجه الذي اعتاده جورج جيدا منذ الطفولة، وعلت بشرته صفرة حادة كانها تنذر بمرض مستتر. حسب روايته بالذات، لم يعد له اي اتصال منتظم بالمغتربين من مواطني بلده هنالك واي تواصل اجتماعي تقريبا مع العوائل الروسية، وهكذا، سلّم بان يبقى اعزبا.
ماذا بمقدور المرء ان يكتب لهكذا رجل انحرف بوضوح عن السكة، رجل يمكن للمرء ان يشفق عليه لكنه لا يستطيع مساعدته؛ هل ينصحه بالعودة الى دياره ليغرز نفسه، ويستانف صداقاته القديمة مرة اخرى – لم يكن هناك ما يعيقه – وان يعتمد عموما على مساعدة اصدقاءه؟ لكن ذلك كمن يقول له، وكلما كان الاسلوب وديا كان جارحا اكثر، بان جهوده قاطبة وللان قد اخفقت، عليه ان يكف نهائيا، ان يعود ليحدق به الجميع فاغري الشفاه لهذا الباذخ العائد، وان اصدقائه فقط ادرى بكل ما كان وبانه بالذات مجرد طفل كبير، ان يعمل بما ينصح به اصدقاءه ارباب اُسر ناجحين. وهل من المؤكد، اضافة، بان كل هذا الالم الذي يقترفه المرء بحقه سيحقق هدفه؟ ربما لا يمكن حتى اقناعه بالعودة ابدا- لقد ذكر بان صلته التجارية مع موطنه الام قد انقطعت الان- وحينها سيبقى غريبا يقبع في ارض اجنبية، محبطا لنصيحة اصدقاءه واكثر اغترابا عنهم مما مضى. لكن اذا اخذ بمشورتهم ولم يجد حينها موطئ قدم- ليس عبثا بالطبع، ولكن بفعل ما تمليه الظروف- لم يستطع ان يتواصل مع اصدقائه او بدونهم، انتابه شعور بالاهانة، لم يعد ممكنا الحديث بان له اصدقاء او وطن بعد الان، الم يكن من الاجدر له ان يظل هنالك في الخارج كما كان عليه؟ آخذين كل ذلك بعين الاعتبار، كيف يتسنى لاحد ان يجزم بانه سيحقق نجاحا في الحياة بوطنه؟
لهذه الاسباب، على افتراض ان هناك مَن يرغب ان يواظب على مراسلته، لا يمكن ان يوافيه المرء باي اخبار حقيقية كالتي يمكن البوح بها بصراحة لاكثر المعارف بعدا. لقد مضى على زيارته الاخيرة اكثر من ثلاثة أعوام، وعلل ذلك بعذر واهن بان الوضع السياسي في روسيا كان غامض للغاية بحيث لم يسمح لرجل اعمال صغير حتى باقصر غياب، بينما يبيح لمئات الالوف من الروس السفر بسلام الى الخارج. لكن وضع جورج الشخصي في الحياة قد تغير كثيرا اثناء السنوات الثلاث تلك. قبل سنتين توفت والدته، ومنذ ذلك الحين، اشترك مع والده السكن في الدارمعا، وتم بالطبع ابلاغ صديقه بذلك وعبر بدوره عن أسفه برسالة محبوكة بجفاف صارخ يدعو المرء بان يستنتج ان الاسى الذي يولده حدث كهذا لا يمكن ادراكه في بلد قصي. ومنذ ذلك التاريخ، على اي حال، انكب جورج وبعزم اكبر على تجارته واي شئ آخر على السواء.
ربما، عندما كانت والدته على قيد الحياة، اصرار والده على ما يرتئيه في كل ما يتعلق بالعمل التجاري قد عرقله من تطوير اي نشاط حقيقي خاص به. ربما منذ رحيلها اصبح والده اقل عدوانية رغم نشاطه المتواصل في العمل، ربما كان الامر يعود في الغالب الى مجرد ضربة حظ سعيدة طارئة- وهو في الواقع ارجح احتمال- لكن اثناء تلك السنتين، على اي حال، كانت التجارة قد ازدهرت بطريقة غير متوقعة اطلاقا، فتطلب مضاعفة العمالة، المبيعات تضاعفت خمس مرات، وكان المستقبل، دون ادنى شك، يبشر كذلك بآفاق اكبر.
لكن صديق جورج لم يكن على اطلاع وباي قدر لهذا التطور. في السنوات المبكرة، ربما ولآخر مرة في رسالة المواساة تلك، كان قد حاول اقناع جورج بالهجرة الى روسيا واسهب بشان فرص النجاح وبالتحديد في مجال عمل جورج التجاري. الارقام المقتبسة كانت مجهرية مقارنة بكثافة انشطة جورج الحالية. مع ذلك، امتنع عن ان يفصح لصديقه بازدهار تجارته، واذا كان له ذلك الان فسيبدو الامرغريب بالتاكيد. وهكذا اقتصر جورج على ان يخص صديقه باخبار تافهة من قبيل ما تمليه الذاكرة عفويا حين يجتر المرء الاشياء بكسل في يوم أحد هادئ. كل ما كان يرغب به هو ألا يفسد صورة ديار الوطن التي شيدها صديقه بالشكل الذي يألفه خلال الفترة الطويلة الفاصلة. وصادف ان جورج كان قد ابلغ صديقه، في ثلاث مرات ورسائل ثلاث منفصلة ولحد ما متباعدة الزمن، عن خطوبة رجل عاد لفتاة عادية بنفس المقدار لحين ان صديقه أخذ بالفعل، وبالضد من نواياه تماما، يبدي اهتماما لهذا الحدث اللافت.
وهكذا، فضل جورج الكتابة عن اشياء كهذه بدلا من ان يعترف بانه هو بالذات قد خطب قبل شهر فرولين فريدا براندنفيلد، فتاة من عائلة موسرة. كان غالبا ما يتحدث مع خطيبته عن صديقه هذا والعلاقة الغريبة التي توطدت بينهما اثناء مراسلاتهما. "اذن، سوف لن يحضر لحفل زواجنا،" قالت، "رغم انه من حقي ان اتعرف على جميع اصدقاءك." "لا اريد ان اتعبه،" اجاب جورج، "لا تسيئي فهمي، ربما يحضر، على الاقل، هذا ما اعتقده. لكن سيجد بانه مضطرا على ذلك وهذا سيألمه، ربما سيحسدني ويكون ساخطا بالتاكيد دون ان يكون قادرا على عمل شئ بشان سخطه هذا، ثم يمضي ثانية وحيدا، وحيدا- أتدركين ما يعني ذلك؟" "نعم، لكن أليس له ان يسمع بخطوبتنا بشكل أو آخر؟" "لا استطيع منع ذلك بالطبع، لكنه من غير المعقول نظرا لاسلوب حياته الخاص." "ما دام اصدقاءك على هذه الشاكلة، جورج، ما كان ينبغي عليك ان تخطب ابدا." "حسنا، كلانا يلام على ذلك؛ لكني لن احيد عن هذا الواقع وباي شكل الان." وحينما كانت تشهق تحت قبلاته، أثارت: "مع ذلك، انني مستاءة،" تصور بان مصارحة صديقه بالخبر لن يؤدي به عمليا الى متاعب تذكر. "هكذا رجل أنا وينبغي عليه ان يتخذني على علاتي،" قال يحاكي نفسه. "لا استطيع ان اصمم ذاتي على مقاس آخر يجعلني صديقا مناسبا له على نحو امثل."
وقد اخبر صديقه بالفعل، في رسالته المستفيضة التي كان يكتبها صباح يوم الاحد ذاك، عن خطوبته بهذه الكلمات: "تحفظت على افضل خبر الى النهاية. لقد تمت خطوبتي على فرولين فريدا، فتاة من عائلة موسرة، حيث جاءت لتعيش هنا فقط وذلك بعد مغادرتك بفترة طويلة، ولذا اعتقد بانك لم تتعرف عليها. سيكون هناك متسع من الوقت لاحدثك عنها كثيرا في فرصة اخرى. دعني فقط ان اقول اليوم باني سعيد جدا، واخصك بالذات ان الاختلاف الوحيد في علاقتنا انك ستحظى بدلا من صديق عادي تماما صديقا سعيدا الان. بالاضافة، ستنال في خطيبتي، التي تبعث لك تحياتها الدافئة وستراسلك شخصيا عن قريب، صديقا حقيقيا من الجنس الآخر، وهذا ليس بشان تافه لرجل اعزب. أنا ادرك بان هنالك اسبابا كثيرة تمنعك من السفر لزيارتنا ، لكن اليس حفل زفافنا بالضبط الفرصة المناسبة لتضرب بكل العراقيل عرض الحائط؟ بغض النظر، مع ذلك تصرف كما يريحك دون اعتبارات اخرى غير مصلحتك انت بالذات."
كان جورج، والرسالة هذه في يده، جالسا عند طاولة الكتابة لوقت طويل، وجهه مستديرا نحو النافذة. بالكاد استجاب بابتسامة شاردة، لتحية لوح بها من قارعة الطريق عابر من معارفه.
أخيرا، وضع الرسالة في جيبه وغادر غرفته عبر رواق صغير الى غرفة والده التي لم يخطو بداخلها لشهور. لم يكن هناك اي حاجة لدخولها ما دام يشاهد والده يوميا اثناء العمل، يتناولان وجبة الغداء في المطعم معا؛ في المساء، نعم، كلاهما يتصرف كما يحلو له، بل حتى اثناء ذلك، ما لم يغادر جورج- كما غالبا ما يحدث- مع اصدقاءه او حديثا لزيارة خطيبته، يجلسان عادة لوهلة، كل مع صحيفته في غرفة جلوسهما المشتركة.
تفاجأ جورج بعتمة غرفة والده حتى في صباح مشمس كهذا. وما ضاعف في ذلك ايضا كان ظل الجدار الشاهق المطل على الجانب الآخر من الباحة الضيقة. كان والده جالسا في زاوية عند النافذة ملازما اشياءاً تذكره بوالدة جورج الراحلة، يقرا صحيفة ويمسك بها على طرف واحد من عينيه كاجراء ليتغلب على عاهة في بصره. على الطاولة كانت تركن بقايا فطوره الذي عزف عن تناول معظمه.
"آ، جورج،" قال والده ونهض للقائه في الحال. جلبابه الثقيل تارجح مشرعا وهو يسير، حواشيه المتدلية تموج فيما حوله.- "ما زال والدي رجلا جبارا،" قال جورج يحدث نفسه.
"الظلمة لا تحتمل هنا،" قال بصوت عال.
"نعم، انها مظلمة بما فيه الكفاية،" اجاب والده.
وأوصدت النافذة ايضا؟"
"افضلها كذلك."
"حسنا؛ انها اكثر دفئً خارج الدار،" قال جورج كانه يواصل ملاحظته السابقة، ثم جلس.
ازال والده اطباق الفطور ووضعها جانبا فوق الخزانة.
"كنت اود، في الحقيقة، ان اخبرك فقط،" مضى جورج يتحدث وهو يتابع مشتتا حركات والده، "باني سارسل الان خبر خطوبتي الى سان بيترسبيرغ." استل الرسالة قليلا من داخل جيبه لكنه تخلى عنها في الحال ثانية.
"الى سان بيترسبيرغ؟" تساءل والده.
"الى صديقي هناك،" قال جورج محاولا لقاء عين والده.- كم يختلف كليا اثناء ساعات العمل، كان يفكر، كيف يجلس هنا راسخا مشدود الذراعين.
"اوه، نعم. الى صديقك،" قال والده بتوكيد غامض.
"كما تعلم، أبتاه، لم ابغ ان اخبره عن خطوبتي في البداية. مراعاة له فقط، كان السبب الوحيد. كما تعرف فهو رجل صعب. فكرت بان يقوم احدا ما بتبليغه عن خطوبتي، لكن ذلك من غير الممكن رغم كونه هكذا كائن متوحد- لم يكن بمقدوري منع ذلك- لكنني لم اكن على استعداد لابوح له شخصيا بالخبر ابدا."
"والان قد غيرت رايك؟" تساءل والده وهو يضع صحيفته الهائلة على عتبة النافذة ونظاراته فوقها فغطى عليهما تماما بكف واحدة فقط.
"نعم، لقد تقصيت الامر. فلو كان صديقا حميما لي، تساءلت، سعادتي بالخطوبة يجب ان تسعده ايضا. لذلك، فلن اتاخرعن مصارحته بعد الان. لكن اردت ان اخبرك اولا قبل ان ابعث بالرسالة."
"جورج،" قال والده، يطيل شفتي فمه عديم الاسنان، اصغ الي! لقد حضرت هنا بشان هذا الموضوع لتتحدث عنه معي. بلا شك، ذلك يشرفك، لكنه تفاهة، بل اسوا من التفاهة اذا لم توافيني بالحقيقة كلها. لا ارغب اثارة امورا لا ينبغي ذكرها هنا. منذ رحيل امنا العزيزة واشياء معينة غير سليمة قد أُقتُرفتْ. ربما سياتي وقت للافصاح عنها وربما اسرع مما نتصور. هنالك اكثر من امر لست على اطلاع به في المتجر، ربما لا يتم من وراء ظهري- لن اقول بانه يتم وراء ظهري- لم اعد الان بمستوى الاشياء، ذاكرتي تخذلني، لم اعد استطيع التمييز بين كل هذه الامور. ذلك مسار الطبيعة في المقام الاول، رحيل امنا العزيزة ثانيا كان وقعه اشد علي مقارنة بك.- لكن ما دام حديثنا يدور حوله، بشان هذه الرسالة، اتوسل اليك، جورج، لا تخدعني. انه امر تافه، لا يستحق الذكر، ولذا لا تخدعني. هل لديك حقا هذا الصديق في سان بيترسبيرغ؟"
نهض جورج خجلا. "لا تبالي باصدقائي. ألف صديق، بالنسبة لي، لن يعوض عن والدي. أتدري بماذا افكر؟ انك لم تعد تهتم بنفسك كما ينبغي. لكن الشيخوخة تتطلب العناية. لا استطيع بدونك القيام بعمل المتجر، انت ادرى بذلك جيدا، واذا كان يضر بصحتك فاني على استعداد لغلقه غدا والى الابد. واذا لم يف ذلك، ينبغي علينا ان نعمل على تغيير اسلوب حياتك؛ تغييرا جذريا. تجلس هنا في الظلمة وغرفة الجلوس تطفح بالضياء، تتناول مجرد لقمة من فطورك بدلا من تعزيز قواك كما يجب. تجلس قرب نافذة موصدة بينما الهواء سيطيب لك كثيرا. كلا، أبتاه! سوف اتصل بالطبيب وناخذ بتعليماته حرفيا. سنقوم بتغييرغرفتك، يمكنك ان تنتقل الى غرفة الصدارة وانتقل انا لهذه. سوف لن تشعر بالتغيير، ستصطحب معك ايضا اشياءك كلها. لكن يوجد متسع من الوقت لذلك، سأعد السرير الان لترقد قليلا. انا واثق من حاجتك الى الراحة. تعال، اساعدك في خلع اشياءك، سترى بانني قادر على ذلك، ام تحبذ ان تنتقل الى غرفة الصدارة حالا حيث تستلقي على سريري في الوقت الحاضر. ذلك ترتيب معقول جدا."
وقف جورج قريبا بجانب والده، الذي ترك راسه بشعره الفضي الاشعث يغص بصدره.
"جورج،" قال والده بصوت منخفض، دون حركة تذكر.
انحنى جورج جانب والده في الحال، شاهد في وجهه المرهق مقلتاه، متضخمتان تعاينه بتركيز من زاويتي العينين.
"لا يوجد لديك صديق في سان بيترسبيرغ. كنت مخاتلا دائما، ولم ترتد حتى عن مخادعتي. كيف يتسنى ان يكون لك صديقا هنالك! لا اصدق ذلك."
"عُد قليلا الى الوراء فقط، أبتاه،" قال جورج ثم رفع والده من الكرسي، ازاح عنه جلبابه وهو يقف بوهن على قدميه، "ستمر قريبا ثلاثة اعوام منذ حضور صديقي لزيارتنا في آخر مرة. اتذكّر بانك لم توده كثيرا. في مناسبتين اثنتين لم اشأ ان تراه، رغم انه كان بالفعل يجلس معي في غرفتي. اتفهّمُ جيدا نفورك منه،- صديقي لديه اطوراه الغريبة. لكن، فيما بعد، بداتَ تستحسن مجاملته. كنتُ فخورا لانك اصغيت اليه، اومأت له وطرحت اسئلة عليه. اذا رجعت بذاكرتك، ستتذكر لا محالة. فقد اعتاد ان يخبرنا عن اكثر الحكايات غرابة بشان الثورة الروسية. مثلا، عندما كان في رحلة عمل الى كييف، حيث صادفته اعمال شغب، فشاهد في الطريق قسيسا على شرفة وقد قطع على راحته صليبا غليظا من الدم، ثم شرع ذراعه عاليا يناشد الغوغاء. لقد تلوت انت بالذات تلك القصة مرة او مرتين منذ ذلك الحين."
في الاثناء، اجلسه جورج بنجاح ثانية وبتأن نزع عنه سروال النوم الصوفي الذي ارتداه فوق ثوبه القطني ثم جواربه. مظهر لباسه الداخلي الملوث بشكل خاص دفعه بان يؤنب نفسه لاهماله هذا. كان ينبغي ضمن مسؤولياته ان يتاكد من تجهيز والده باحتياط من ملابس داخلية نظيفة. لم يتطرق مباشرة مع عروس المستقبل بعد بشان الترتيبات الخاصة بوضع والده، لانهما سلما بانه سيمضي بمفرده في الدار القديمة.لكنه الان اقدم على قرار سريع حازم، وذلك بان يصطحبه كذلك الى محل سكناه القادم. بعد معاينة دقيقة، بدا وكأن الرعاية التي قصدها باطراء والده هناك قد تاتي بعد فوات الاوان.
حمل والده بذراعيه الى السرير. احساس مفزع انتابه، حين لاحظ بعد بضع خطوات ان الوالد كان يداعب سلسلة ساعته على صدره. لم يكن بمقدوره ان يودعه السرير للحظة، حيث كان عاقدا على ملازمة سلسلة الساعة هذه باصرار.
لكن بمجرد ان اودعه السرير، بدا كل شئ على ما يرام. تلفع بالاغطية جيدا، بل سحبها اكثر من المعتاد ليغطي بها كتفيه. ابصر جورج بنظرة معادية.
"بدات تستذكر صديقي، اليس كذلك؟" تساءل جورج باماءة مشجعا.
"هل انا مكسو جيدا الان؟" سال والده، كانه غير قادر على ملاحظة ان كانت قدميه مغطاة بما فيه الكفاية.
"اراك قد بدات تنعم بالدف على السرير،" قال جورج، ثم طوى باحكام اكثر اطراف الاغطية فيما حوله.
"هل انا مكسو جيدا؟" سال الاب مرة اخرى، وبدا عازما على جواب بشكل غريب.
"لا تقلق، انك مكسو جيدا."
"كلا!" زعق والده مقاطعا الاجابة، قذف الاغطية بقوة جعلتها تتطاير جميعا للحظة ثم وثب منتصبا فوق السرير. ذراع واحدة فقط لامست السقف قليلا لتسنده.
"أردت ان تغطي علي، انا ادرك ذلك يا سليلي الشاب، لكن الوقت لم يحن بعد. حتى لو كانت هذه كل ما تبقى من قواي فانها كفيلة بك، بل اكثر مما تقوى عليه. طبعا، انا اعرف صديقك.لو تسنى لكان ابنا لي يحتفي به قلبي. لهذا السبب كنتَ تعبث به زيفا كل تلك السنوات. والا لماذا؟ اتعتقد باني لم اتاسف له؟ لذلك تقفل عليك مكتبك- الرئيس مشغول، لا يجوز ازعاجه- لمجرد ان تقوم بكتابة رسائل الكذب التافهة الى روسيا. شكرا لفضله، لا يحتاج الاب لمن يلقنه كيف يرى خلال ابنه. والان، بعد ان حسبت بانك طرحته ارضا، تحتك تماما كي تقعد بمؤخرتك عليه ثم تجلس فوقه حتى لا يقوى على الحركة، حينها يقرر ولدي النجيب ان يعقد قرانه."
حدق جورج بالغول الذي استحضره والده. صديقه في سان بيترسبيرغ، الذي ظهر فجاة بان والده على معرفة جيدة به، اثار مخيلته كما لم تثر من قبل ابدا. هائما في اصقاع روسيا الشاسعة شاهده ، جانب بوابة مستودع مسلوبا فارغا شاهده، وسط هشيم زجاج معروضاته، بقايا سلعه المحطمة، مواقد الغاز المتهاوية، كان واقفا هكذا بلا حول. لماذا كان عليه ان يرحل بعيدا؟
"لكن، قم بمساعدتي !" صاح والده، وجورج، شارد الذهن تقريبا، اسرع نحو السرير ليعيد الاشياء محلها، مع ذلك توقف بمنتصف الطريق.
"لانها رفعت تنورتها قليلا،" بدأ والده العزف، "لانها رفعت تنورتها هكذا، المخلوقة الفاضحة،" وهو يقلدها، رفع رداءه عاليا بحيث تسنى ملاحظة الندب على فخذه من اصابة ايام الحرب، "لانها رفعت تنانيرها هكذا ثم هكذا تجاوبت معها، ولكي تختلي بها على راحتك، اهنت ذكرى والدتك، خنت صديقك، اقحمت والدك في السرير كي لا يقوى على الحركة. لكنه يستطيع الحركة، الا ترى؟"
نهض بمفرده واقفا، ثم ركل ساقيه. كان يتوهج ألقا ببصيرته.
تكور جورج في زاوية، ابعد ما يمكن عن والده. كان في الماضي قد عقد على ان يراقب بحذر شديد اي حركة تذكر كي لا يفاجأ بضربة غير محسوبة، انقضاض من الخلف او من اعلى. في هذه اللحظة بالذات، استحضر قراره المنسي هذا وتغافل عنه ثانية كامرئ يقحم خيطا قصيرا خلال خرم ابرة.
"لكن الغدر بصديقك لم يتم في النهاية!" صاح والده، مؤكدا بطعنات من سبابته."كنتُ على الفور ممثلا عنه هنا."
"ايها المهرج!" لم يستطع جورج مقاومة الردع بالمثل، وفي الحال ادرك الضرر الذي اقترفه ثم، عيناه تجولان في رأسه، شدّ على لسانه يكبحه، لكن بعد فوات الاوان، فاستشرى الالم حتى اوهن ركبتيه.
"نعم، كنت بالطبع امثل في ملهاة! ملهاة! تعبير جيد! اي سلوى تبقت لارمل عادي كبيرالسن؟ قل لي- وبينما تجيبني، كن نجلي الحي بغض النظر- ماذا تبقى لي، في غرفتي الخلفية، مبتل بعمالة غير مخلصة، هرما حد النخاع؟ وابني يجوب العالم مختالا، يُجهزعلى عقود صفقات انجزتها انا بنفسي، منتشيا بمرح المنتصر ويتشامخ بعيدا عن والده بوجه مطبق لرجل اعمال محترم! اتعتقد باني لم اكن لك حبا، أنا الذي انجبتك؟"
سيترنح الان على جبهته، فكر جورج، ماذا لو تهاوى، ثم تهشم! مرت هذه الكلمات همسا في ذهنه.
مال والده الى الامام لكنه لم يتهاوى. لأن جورج لم يدن منه، كما توقع، اعتدل بنفسه ثانية.
"ابق حيث انت، لست بحاجة اليك! تظن ان لديك القدرة الكافية لتدنو، بينما اجدك تلازم مكانك طوعا. دعك من الثقة هذه! لا ازال انا الاقوى. بمفردي، ربما كنتُ على شفى اليأس، لكن والدتك منحتني الكثير من قواها، فاقمت رباطا حسنا مع صديقك وزبائنك معي هنا في جيبي!"
"لديه جيوب حتى في رداء قميصه!" قال جورج مع نفسه، وتصور بانه يستطيع مع هذه الملاحظة ان يجعله شخصية مستحيلة امام العالم اجمع. فكر هكذا للحظة واحدة فقط، لانه دائما ما يعود على نسيان كل شئ هناك.
"خذ عروسك بذراعك وحاول ان تعترض طريقي! سوف اكتسحها من جنبك هذا، ولن تعرف كيف!"
قطّب جورج حاجبيه غير مصدقا؛ أومأ والده نحو زاوية جورج توكيدا على حقيقة كلماته فقط.
"كم كنتَ مسليا اليوم، تاتي لتسالني إن كان ينبغي عليك ان تصارح صديقك بشان خطوبتك. انه يعلم ذلك مسبقا، ايها الصبي الغبي، يعرف كل شئ! كنتُ اراسله لانك نسيت ان تحجب عني ادوات الكتابة. لهذا السبب لم يحضر لسنوات، انه على علم بكل شئ اكثر منك. بيده اليسرى يرمي برسائلك دون قراءتها، بينما يحمل بيده اليمنى رسائلي ليقرأها حتى النهاية!"
اثناء حماسته، شرع ذراعه عاليا فوق راسه. "يعرف كل شئ افضل الف مرة!" صاح.
"عشرة آلاف مرة!" قال جورج يستهزأ بوالده، لكن الكلمات ارتدت في فمه الى جد قاتل.
"انتظرتك اعواما لتاتيني بسؤال كهذا! اتعتقد باني افكر باي شان آخر؟ اتعتقد اني اقرأ جرائدي؟ انظر!" ثم حذف بصفحة نحو جورج كان قد حملها بشكل ما معه الى السرير. طبعة قديمة لم يكن جورج على اطلاع بها من قبل ابدا.
"كم استغرقتَ كي تصل سن الرشد! والدتك وافاها الاجل، لم تحفل برؤية اليوم السعيد، صديقك يتمزق في روسيا، بل قبل ثلاث سنوات مضت علته صُفرة كافية للاستغناء عنه، وماذا بصددي، فكما ترى الوضع الذي انا فيه. في رأسك عينان لذلك!"
"اذن، كنت في انتظاري تترصدني!" صاح جورج.
قال والده بشفقة يرتجل: "على ما اظن، اردت ان تفصح بذلك مبكرا. لكنه لا يهم الان." وبصوت صاخب: "والان تدرك ما كان يوجد هنالك في العالم بالاضافة اليك، وان كل ما تعرفه لحد الان يعنيك انت بالذات! طفل برئ كنتَ، نعم حقا، لكن مع ذلك كنت بحق انسانا شيطانا ايضا!- وعليه اصغ: احكم عليك الان بالموت غرقا!"
انتاب جورج احساسا يحثه بمغادرة الغرفة حالا، صدى ارتطام والده على السرير خلْفه كان لا يزال يتردد في اذنيه اثناء فراره. على السلم الذي اندفع ينحدر به، اصطدم بخادمته اثناء صعودها السلالم لتقوم بالتنظيف الصباحي للغرفة. "يا يسوع المسيح!" صاحت، ثم بمئزرها غطت على وجهها، لكنه كان حينها قد اختفى، مجتازا الباب الامامي اندفع، عبر الطريق العام، مساقا نحو وجهة الماء كان. في الحال، كان قد قبض على الاعمدة كجائع يتشبث برغيف. اخذ يارجح جسده- كما كان في مرة ايام شبابه لاعب الجمباز المتميز ذاك، مفخرة والديه. بقبضة يعتريها الوهن، كان لا يزال متشبثا، عندما استطلع بين الاعمدة حركة مرور الحافلات التي ستطغي وبسهولة على دوي سقوطه، تلا بصوت منخفض: "الوالدان العزيزان، لقد احببتكما دائما، رغم ذلك،" ثم اطلق قبضته وسقط.
في اللحظة الحرجة هذه، تدفق عبر الجسر سيل من حركة مرور لامتناهية .
أمريكا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.