هناك قصة شهيرة تروى حول سيدة الغناء العربي "أم كلثوم" حين رأت توفيق الحكيم صامتاً شارداً في حفل ما، فسألت عنه، ولم تكن تعرفه إلا قارئة له، فقالوا لها هذا توفيق الحكيم، فردت بخفة الدم التي تتميز بها: معقول؟ لكن من الذي يكتب له؟ ولذا وجد العرب أن فكرة وجود وادي عبقر مصدراً للإلهام هي المفسر لحالة الإبداع النادرة لشعرائهم . . وحول الطقوس العجيبة للكتاب نتوقف أمام المحطات التالية . يقول "لورانس داريل" في "بالتازار" أحد أجزاء رباعية الإسكندرية "إنني أكتب ببطء شديد، متحملاً الكثير من العناء، وأكون سجين الروح كما هي الحال مع جميع الكتاب، وما أشبهني بسفينة في قارورة، تبحر إلى لا مكان" لكن الكاتب نفسه يخبرنا برأي عجيب في مسألة دافعية الكتابة، يقول إنه يكتب كلما أفلس، وهو يكتب الرواية في أسابيع عدة، ولذلك يصف إحساسه بعد الكتابة قائلاً: "إنني أعاني غثياناً مقيتاً بسبب كتبي، وأستعمل "غثياناً" بالمعنى المحسوس الصرف، ولربما بدا هذا ضرباً من السذاجة أو البله، ولكن الواقع أنني أكتب بسرعة مذهلة" . هكذا يصل الكاتب الغربي بشجاعته إلى أقصاها، سنجد مثلاً الشاعر الأمريكي إدغار آلن بو يضع قطاً على كتفه أثناء الكتابة، ومن غرائب طقوس الكتابة ما ورد عن الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن أنه كان يضع على مكتبه عندما يكتب عقرباً في قارورة، وهو يغرس إبرته نافثاً سُمه في تفاحة، ومثله كان جان كوكتو الذي كان لا يكتب إلا بعد أن يضع على منضدته كأساً مقلوبة على عقرب حي، أما غوته (1749 1832) شاعر ألمانيا الشهير، فكان يضع أمامه طبقاً فيه تفاح متعفن، وألدوس هكسلي لما ضعف بصره ولم يعد يرى شيئاً، غمسَ أنفه في الحبر وكتب به، وهو أول وآخر من فعل ذلك إلى اليوم . مكان الكتابة تذكر الروائية الكويتية ليلى العثمان أنه "ليس من مكان يهيئها ويريحها مثل بيتها وعلى مكتبها، لأنه المكان الوحيد الذي تترك أوراقها عليه مفرودة من دون أن تضطر أن تلملمها، أقلامها الرصاص مبرية وجاهزة، لذا تباشر الكتابة من حيث انتهت" . ويذكر الكاتب السوداني الدكتور أمير تاج السر "أنه منذ ثلاثة عشر عاماً وهو يكتب على الحاسب لأن به إيحاءات ويساعده على الكتابة بصورة مدهشة، وأنه في العادة يشرب الشاي والقهوة أثناء الكتابة"، وسيدهش قارئ أمير تاج السر حين يقرأ تصريحه بأنه يتمنى لو لم يكن كاتباً، فحين تأتيه الكتابة تحدث لديه دوامة وصراع، وقد يصاب بالاكتئاب، ويأكل قليلاً ويصمت معظم الوقت . أما الروائي الراحل خيري شلبي، فقد كان يذهب إلى المقابر خصيصاً للكتابة لأنه كان يعاني ازدحام المنزل بالأطفال، وكان دائماً يبحث عن مكان مناسب، وذات يوم تعطلت سيارته في مكان قريب من المقابر، وفي انتظار من يصلح السيارة، أخرج ورقة وقلما وبدأ يكتب، وصار كلما أراد الهدوء جاء إلى هذا المكان القريب من المقابر، حتى كبر الأبناء، وصار "البيت هو المكان المفضل لديه" . كان خيري شلبي غريب الأطوار أثناء الكتابة، حيث يتحول إلى شخص لا يُطاق، وكثيراً ما كانت زوجته تنصحه بأن يكتب من داخل سرداب، لا يرى أحداً ولا أحد يراه، لذلك أقام فعلاً في مقبرة خاصة بأسرة منقرضة منذ القرن الثامن عشر، وأنجز ثلاثاً من أهم رواياته الطويلة "الشطار"، "الأمالي"، "موال البيات والنوم" . مفاجأة هل تفاجئ الكتابة الكاتب في لحظة مباشرة، أم أنها تتويج للحظة معاناة فكرية وشقاء فني يصل بالمبدع إلى لحظة الدفع بأدبه؟ كيف يبرق العمل إذاً في عقل كاتبه؟ يرى الكاتب المصري فؤاد حجازي أن فكرة القصة تأتي أثناء القراءة أو غير ذلك، فتظل مختزنة تتشكّل عبر اللحظات والمعايشة، حتى تأتي لحظة الكتابة، وقد تتغير القصة وقد تكون نقلاً مجرداً من العقل إلى الورق مع حرفيات الكتابة بالطبع، حتى تأتي لحظة المراجعة، فتعطي للعمل صورته النهائية، لكنه لا يكتب القصة دفعة واحدة . ويؤكد القاص سعيد الكفراوي أن القصة الآن نوع من الوعي باكتشاف أن الإنسان وحيد بدرجة مرعبة، ثم يتساءل، رداً على سؤال كيف تبدأ حالة كتابة القصة القصيرة؟: لماذا ينفجر موضوع القصة، إذا كان لها موضوع في المخيلة كنافورة النار؟ هنا يقف الكاتب في مفترق الطرق، ويبحث في مخيلته وذكرياته، يحاول اختيار لغته، ثم تبدأ عملية الكتابة التي قد تستمر في مسارها، وقد لا تستمر وتفرض شكلاً جديداً . يرى الروائي إدوار الخراط أنه عاش وهم أنه ملتزم بتقاليد جنس أدبي هو القصة القصيرة، كان ذلك في فترة مبكرة في عام ،1955 حيث اكتشف في مجموعته القصصية "حيطان عالية" ما سمّاه النفس الروائي، ليصل إلى تحديد مهم هو أن الفارق بين القصة القصيرة والرواية غير موجود . ويؤكد فؤاد حجازي أنه يكتب صباحاً في أكثر الأحيان، حيث يخلو البيت ويستطيع التفرغ، يكتب في صالة الشقة، على منضدة كبيرة الحجم، يكون بجواره عدد من الكتب والصحف وغيرها، تظل فترة تبييض العمل أكثرها صعوبة، فهي لحظة الولادة الحقيقية التي تصافح القارئ . أما إبراهيم عبد المجيد فالقصة لديه "تبدأ من مشهد أراه، أو حكاية تستدعي حالات روحية عذبة أو معذبة، فجأة أكتشف أنني ما خلقت للسكون أو الكسل، أصرخ: أريد أن أكتب، أريد أن أكتب . في كل الأحوال أنا لا أبدأ الكتابة إرادياً، ولا أبدأ الكتابة إلا بعد الكتابة الشفهية إن جاز التعبير" . ثم يصف "عبد المجيد" طقوسه الغريبة في الكتابة حيث يكتب نصه داخلياً، ثم يختار وقتاً موغلاً في الليل، ويكتبها دفعة واحدة، باستثناء النهاية التي يؤجلها يوماً أو بعض يوم وهذا يحدث غالباً مع القصة القصيرة . الدكتور شاكر عبد الحميد الذي أجرى حوارات عدة مع الأدباء حول لحظات إبداعهم يقول: "مع لحظة الولادة الإبداعية، ثمة معانٍ مشوشة في الذهن، تكتسي ألفاظا بمثابة شهادات ميلاد لهذه المعاني، ويسبق ذلك ما يسميه النفسيون "الكلام الذاتي بلا صوت" "ثم هناك جهد شعوري لاختيار اللفظ ووضعه في موضعه المناسب، وفي هذا السياق هناك وثبات لا إرادية تخضع للإلهام المباشر، وهناك كتاب يفجؤهم الإلهام كاملاً، ثم تأتي خبرة الكتابة لتنسيق ما كتب، منهم كولردج وألفونس دوديه وغيرهما" . لحظة غرام لكتابنا حالات غرام بما يكتبون، وكثيرا ما يقع المبدع في هوى عمله، وهو ما يبوح به لنا فؤاد حجازي قائلا: "أثناء حرب 1967م وبعد إصابتي أخذت أزحف حتى احتميت أسفل شاحنة دبابات، وقتها كنت بين الحياة والموت، فكرت في ما كتبته ولم أنشره، أحزنني أن يضيع ما أردت قوله من دون أن يشاركني فيه الناس، ومن هنا كانت فكرة النشر الشعبي بعد العودة من الأسر" . أما القاص والروائي قاسم مسعد عليوة فيؤكد: "في مراهقتي وشبابي كنت أكتب حيثما تأتيني الرغبة في الكتابة، معي القلم والورق باستمرار، وإذا أعوزني القلم واستحكمت الفكرة كتبت بأظافري أو بدبوس الإبرة أو بأي جسم صلب، وإذا ما افتقدت الورق التقطت أي شيء يصلح للكتابة عليه . كتبتُ مثلاً على المناديل الورقية، وعلى الكارتون وعلب السجائر والكبريت بعد تفكيكها، بل على رقائق البلاستيك، وعلى كفيّ، ولم يحدث أن مارستُ طقوساً ذات شأن قبل أو أثناء الكتابة، فقط استبدلتُ لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر بالقلم الذي بات استخدامي له قليلاً، ومن ثم لم أعد أمارس الكتابة وأنا مستلق على السرير".