عندما نبدأ الكتابة في غير الشعر تكون الأحكام المسبقة حصان الإبداع، ولإثبات العكس علينا أن ننهي ما نكتب في مجموعة من المعطيات تقود إلى نتائج معينة، فما الهمّ الذي يسيطر على القلم ليعطي منتجه الإبداعي أو السردي أو حتى يرسم وجهة نظره، الذي ينقله إلى الورق ومن ثم إلى المجتمع؟ والذي يطلع عليه بدوره فيصيغ مفاهيمه على ما يجمع من فكر وخبرات، لكن يبقى ضمير الكاتب اللغوي والاجتماعي المحرك والمؤثر، إن ضميراً كضمير المتكلم "أنا" كما هو الحال في "نحن" وما تقبله أدوات القصة القصيرة، قد يصبح فجاً غير محبذ في السرد الروائي الطويل، ولا يقبل في المقال . أدوات الكاتب هي ما يصنعه من خلال التجربة والمعرفة والاطلاع ولاشك، لكن البصمة الحقيقية هي تلك التي يضعها من خلال "طعم" بيئته، فلا يمكن أن تكون المفردات والمعاني والوصف لبيئة لم يعلم عنها الكاتب إلا من قراءاته أو المرويات عليه، فخبرة المعايشة والمشاهدة هي ما ينمي الخيال وخصب أرض الفكر لتثمر الإبداع، ثم تأتي بالإقناع، فالقارئ في حاجة إلى خيال الكاتب لكنه في حاجة أيضاً إلى واقعيته ودقة وصفه، في مزج يولد المعادلة التي تصنع المتعة، فهو في النهاية لا يستمع إلى نشرة أخبار، لكنه يحتاج إلى إمتاع ومؤانسة . في كل مكان في العالم يوجد مقاه، وتلك المقاهي يتجمع فيها الناس على اختلاف صنوفهم فماذا يميز مقهى في باريس مثلاً عن آخر في "كي وست" في ولاية فلوريدا مطل على البحر بآخر في زقاق ضيق في خان الخليلي في مصر، وآخر في الشارقة مطل على الرولة في سنوات في زمن ما مثلاً من القرن الماضي، قد يكون "جان بول سارتر" هو ما يميز مقهى فلور الباريسي، بينما أرنست هيمنجواي كان يميز مقهى "سلوبي جو" في ال"كي ويست"، أو المقهى الباريسي "لي دو ماغو" مقهى الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي نعرف عن ميسي لاعب الكرة أكثر مما نعرف عنه، ومقهى الفيشاوي في الحسين ونجيب محفوظ، لكن هذه المقاهي لم تكن مكاناً لتجمّع الكتّاب والمفكرين وحسب، وإنما أيضاً هي مادة إبداعية وأدوات للإبداع، فمجلة الثقافة الجديدة التي ترأسها رمسيس يونان وليدة مقهى ريش و"لو دي ماغو" كتب عنه هيمنجواي في كثير من إبداعه الأدبي، الحالة الإبداعية شديدة التأثر بمحيطها تعبر عنه، لذا فإن صناعة الإبداع تلقائية بالمكان الذي تولد فيه وهذا ما لا أستوعبه عن مطر طول العام، أو رحلة في قطار في الربع الخالي في قلب الجزيرة العربية مثلاً . إغراق المكانية في روايات محفوظ أو في "طوق الحمامة" لرجاء عالم، ليس إلا بناء من حجر البيئة وإمكاناتها، لذا فعندما ذكرت المقهى في الشارقة لم أكن أرمي إلى أنه من المقاهي التي جلس عليها أحد من أساطين الفكر أو حملة نوبل، بقدر ما كنت أعني أنه مقهى يضج بالحياة والأمثلة والمادة الخام لروايات وأفكار إبداعية يستلهم منها الإبداع . في فترة الستينات من القرن الماضي كان هناك مقهى على بعد خطوات من شجرة الرولة تتناثر كراسيه وطاولاته الخشبية حوله في ظلال شجرة لوز، رواد هذا المقهى هم في العادة من العابرين الذين ينتظرون سيارة أجرة تقلهم إلى مدن أخرى، يستريحون وتدور بينهم أحاديث الغرباء، يأتي إلى هذا المقهى أيضاً رجل يضع مذياعا على كتفه يستمع إلى نشرات الأخبار . لا توجد حكاية تروى عن هؤلاء الرجال سوى أن كل أحاديث وأخبار المدن تتجمع هنا، ويوجد عند محطة تكسي أخرى مقهى آخر يشبهه . وعند سوق السمك واحد آخر . [email protected]