محمد خلفان الصوافي كان قرار النائب العام الأسبوع الماضي، في شأن إحالة 94 متهماً إماراتياً إلى المحكمة الاتحادية العليا في قضية ما يُعرف بالتنظيم السري الذي استهدف نظام الحكم بالدولة، كاشفاً، دلالات عدة، إذ وضع حدّاً للذين استهوتهم مسألة توجيه النقد لدولة الإمارات، خاصة من المتعاطفين مع المتهمين، مستخدمين كل وسائل الإعلام الممكنة ووسائل التواصل الاجتماعي. ما فعله هؤلاء المتهمون حسب ما جاء في تفاصيل تصريح النائب العام، يمثل كارثة من أكثر من منطلق، لأنه لم يكن هناك إماراتي يمكنه أن يصدّق أن هناك مواطنين ينتمون لهذا البلد يريدون قلب نظام الحكم فيه مستعينين بالخارج، أو حتى العمل على زعزعة العلاقة بين الشعب والقيادة، وكأنهم لا يدركون مدى قوتها. إننا في دولة الإمارات لم نتعود الحديث عن قيادتنا بمفردات تدل على التفكير في الإساءة للقيادة. فالإماراتي عليه أن يطرح على نفسه تساؤلاً: ماذا قدمتُ أنا كمواطن للدولة وليس ماذا قدمت الدولة لي؟! كلنا يعرف ماذا قدَّمت الدولة لنا، وحتى المراقبين الخارجيين يعرفون. لقد اعتدنا الحديث عن خصوصية العلاقة بين الشعب والقيادة، وعن التعاضد، وعن المسافة الواحدة بين الحاكم والشعب، لذا فإن من الطبيعي أن يستنكر مواطنو الدولة، وحتى غيرهم ممن يعرفوننا، أن يكون من بين الإماراتيين من يفعل ذلك. الخطوة الإماراتية المتمثلة في إحالة قضية «أمن دولة» إلى محكمة مدنية، كانت خطوة ملفتة للمراقبين، ويجب أن تكون كذلك، على اعتبار أن مثل هذا النوع من القضايا عادة ما يُنظر سراً، أو تُشكَّل له محاكم خاصة، وفي أحسن الأحوال محكمة عسكرية. والنتيجة النهائية ربما تكون «معروفة مسبقاً»! في كل دول العالم، «تُكسر» في قضايا الأمن الوطني كل القوانين، وأحياناً تُنتهك حقوق الإنسان، بما في ذلك الدول المتحضرة، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة التي تفعل ذلك على مرأى من جمعيات حقوق الإنسان والرأي العام العالمي في سجن غوانتانامو. والخطوة التي اتخذتها دولة الإمارات معناها - لمن يريد أن يفهم - أن الدولة اختارت التعامل مع هذا الملف الشائك بما يستحقه من وضوح وشفافية. يدل الموقف الإماراتي الصريح والشفاف على أن الدولة لا تريد منح المغرضين فرصة إثارة اللغط الإعلامي، والتصدي لما يمارسه المتخرصون من «المحللين السياسيين» المعروفة اتجاهاتهم وأهدافهم، من «غمز» و«لمز» فيما يخص موقف دولة الإمارات في قضايا حقوق الإنسان. لقد حاول المغرضون استخدام الفروق الثقافية وعدم فهم الغرب لطبيعة مجتمع الإمارات في الإساءة إلى الملف الإنساني للدولة، وبدا ذلك واضحاً في «تمثيلية جنيف» التي لعب دور البطولة الزائفة فيها «متظاهرون» ضد الدولة لا يعرفون شيئاً عنها. والموقف الأخير من جانب الدولة يؤكد أنها تتعامل مع أي قضية كانت - بما فيها القضايا الحساسة - بأسلوب دولة المؤسسات، وهو نهج يُحسب لها بالطبع. المحكمة وحدها باتت صاحبة القرار في هذه القضية التي لا تخص الدولة وحدها، بل تخص مواطنيها جميعاً، فالاتهام يتعلق بمحاولة النيل من أمننا واستقرارنا جميعاً، وهو أمر لا نتسامح معه ولن نغفره لمن حاول القيام به. وإذا خرجنا من الجانب القضائي والأمني في القضية، سنجد أن الحكومة الإماراتية ركزت على الجانب الإنساني أيضاً - رغم عظم الكارثة - لكون المتهمين يحملون جنسية دولة الإمارات، وأن طريقة معالجة القضايا الداخلية لها خصوصيتها، وأن مسألة تأثرهم بالخارج وبالأيديولوجيا غير الصحيحة هي المشكلة. طال أمد القضية، كما أوضح النائب العام، نتيجة لصعوبات جمع المعلومات حول وقائع شائكة ومتداخلة، كذلك كان هناك حرص على التأكد التام والدقيق من صحة توجيه التهم، من أجل حفظ حقوق المتهمين الذين يبقون مواطنين إماراتيين تنظر الدولة إليهم بعين الرعاية على الرغم من خطورة ما اقترفته أيديهم، وتحفظ لهم كامل حقوقهم القانونية. من الناحية الموضوعية، فإن شفافية الحكم تصب في مصلحة كل أطراف القضية، حيث تقف الحكومة على أرض صلبة مستندة إلى الأدلة والبراهين، وإلى الأعراف والتقاليد الدولية التي لا تسمح بالمجازفة بمصالح الشعب بأكمله لحساب فئة قليلة «ضالة» وشاذة عن المجتمع، تبحث عن فرض مفاهيمها ورؤاها المنحرفة على حساب الوطن. لقد اختارت دولة الإمارات الطريق الأصعب، وفاجأت العالم برغبتها في المكاشفة والوضوح والشفافية حتى مع الذين يهددون أمن المجتمع والوطن. ويستند هذا الموقف الشجاع إلى يقين بامتلاك الأدلة والبراهين التي ستوضع أمام القضاء ليكون حكمه هو الفيصل في القضية. وبعدها لن نسمح بالتطاول، وعلى الذين تعوَّدوا أن يغرِّدوا خارج السرب الإماراتي أن يشعروا بالخجل. إن الشفافية ليست غريبة على الحكومة في أكثر القضايا تعقيداً، فهناك سوابق شتى تؤكد رسوخ الشفافية منهجاً وسلوكاً. وعلى الرغم من أن ذلك ربما كان يتعلق بملفات ومجالات قد تبدو مختلفة، فإنها لا تقل من حيث الحساسية والتأثير عن ملف القضية الحالية. وربما يفرض مثل هذا السلوك الشفاف مزيداً من التبعات والأعباء على الدولة، لكن القيادة تؤمن بأنه الأسلوب الأمثل في مواجهة التحديات. وإذا كانت دولة الإمارات قد انتهجت الشفافية والمكاشفة مبدأً لها في هذه القضية وسواها، فإنه يلزم التأكيد على أنها لن تترد في أمرين: الأول؛ هو عدم السماح بالتطاول على الحكم النهائي للقضاء، سواء من جانب «المتعاطفين» مع من تثبت إدانتهم أو «المتحولين» الذين تعودوا اتخاذ مواقفهم بناء على ما يقبضون من أموال. والثاني، هو المضي في تكريس «دولة القانون»، وإعلاء مبادئ العدالة التي تُعدُّ أساساً لتجربتها التنموية، وشرطاً لاستدامتها.