الهجرة ليست يومًا عابرًا، بل تاريخًا فاصلًا بين الشرك والتوحيد، بين العبودية والحرية، بين العنصرية والمساواة، بين القبيلة والدولة، بين الهمجية والنظام، بين الظلم والعدل، بين الاستبداد والشورى، بين التطرف والوسطية، بين الغلو والإنصاف، بين الشح والإيثار، بين الأمية والعلم، بين الذل والعزة، بين البداوة والمدنية، بين الغلظة والرحمة، وبين التخلف والحضارة. ولكل هذه المعاني شاهدٌ ودليلٌ في الأقوال والأفعال والأحداث والعبر، من غار التوكّل: "لا تحزن إن الله معنا"، إلى "دعوها فإنها مأمورة". إلى اختيارِ قاعدتي المجتمع الجديد: المسجد والمواخاة، مرورًا بحادثة سراقة بدلالاتها المبشِّرة، المسافِرة عبر الزمن إلى ترك المكان الظالم أهلُه (قريش)، حيث التعصُّب والاستعلاء والشرك والعنصرية ووأد البنات، إلى يثرب حيث مدينة النور والتعايش والأخوّة والتضحية وقاعدة الدولة والجهاد. لقد كانت الهجرة أكثر من دلالة، أهمها: الهروب من المكان والقبيلة التي حاولت تمييع رسالة الحرية وتمييع قيم المساواة عبر المساومة والإغراء وشراء المبادئ، بأن يكون محمدًا ملكًا لا رسولًا، ينحاز إلى علية القوم ويدع الضعفاء، إلى مغادرة فكرة: "أن يكون الأمر لنا من بعدك"، كما هو شرط بعض القبائل التي قابلها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة. لقد كانت المدينة (يثرب) وحدها دوحة الإسلام كرسالة، وليس ملكًا كمَغرم لا مغنم، حيث ارتفع شعارهم: "نحميك ما نحمي به أنفسنا وأولادنا، شرط الجنة ولا شيء غير الجنة". إنها شفافية الإيمان، ونور اليقين، ومهمة نشر الرحمة للعالمين، والوسطية بين الأمم. فبين قريش ببطونها، ويثرب بأفخاذها، تكمن المعاني، ويتجلّى الفارق العظيم للرسالة بين النور والظلام. ولهذه المعاني كلها، اختار الفاروق هذا اليوم تاريخًا للمسلمين والرسالة، لما لها من معانٍ تكشف الأدعياء، وتُعري النفاق، وتجلد الشرك، وتُصلب المتسلقين من الأدعياء الذين يتجرّأون على مصادرة (الرسالة العالمية بقيمها) كإرثٍ سُلاليٍّ خاص، والكذب على رسول العالمين، ومحاولة تقديمه كمؤسس لملكٍ أُسَريٍّ، عبر خرافة الولاية، وهذيان الوصاية، بما يناقض نور الإسلام ومقاصد الرسالة والرسول، صلى الله عليه وسلم، في يوم هجرته المليئة بحقائق الدعوة، وقيم الحرية والمساواة والعدالة، العابر بنورها آفاق الزمان والمكان.