حتى لحظة اضطراره للهرب من مقر حكمه في "بيت العزيزية" في طرابلس وإعلان سقوط نظامه في اغسطس 2011 ، كان معمر القذافي أقدم الحكام على كرسي الحكم في العالم العربي، يليه السلطان قابوس، سلطان عمان، الذي هو اليوم الأقدم. لكن الفرق بين القذافي وقابوس هو أن الثاني ينتمي لنظام حكم ملكي يُتوراث فيه الحكم، فيما كان الأول ينتمي لنظام جمهوري أو جماهيري يفترض فيه تداول السلطة. حكم القذافي ليبيا منذ سبتمبر 1969 إثر انقلاب عسكري قاده ضد الملك إدريس السنوسي وبقي يحكم البلاد بمسميات وشعارات مختلفة على مدى 42 عاما. لقد أسقط القذافي نظاما ملكيا ليقيم مكانه نظاما ملكيا آخر وإن باسم "الجمهورية" و"سلطة الشعب". فتح القذافي ليبيا على خياله الخاص وتصوراته الخاصه للحكم، فتارة رئيسا حتى 1977، وتارة قائدا للثورة وتارة ثالثة ملك ملوك أفريقيا، ورابعة رئيس الولاياتالمتحدة الإفريقية، ومن "النظرية العالمية الثالثة" إلى " الديموقراطية المباشرة" إلى "حكم الشعب للشعب". زرتُ ليبيا في مايو 2009 لإجراء حوار تلفزيوني مع العقيد القذافي، والتقيته في مقر حكمه في باب العزيزية. بدا لي القذافي للوهلة الأولى خليطا مركبا من "جنرال" معزول خاض حروبا كثيرة في الحلم، وكان كلما أوشك على تحقيق النصر ينهض من نومه محبطا، عاقدا العزم على تحقيق النصر في حلم الليلة التالية، حتى حل يوم ال20 من أكتوبر2011 ليصحو بعد فوات الآوان على رصاص قاتليه من ثوار ليبيا. لم يكن القذافي شخصا عاديا. هذا انطباع شخصي بالضرورة، ليس شخصيا عاديا من يتمكن من البقاء في الحكم 42 عاما وينجو من أكثر من محاولة اغتيال وأكثر من محاولة انقلاب والأكثر من ذلك أنه كان على خصومة شبه مفتوحة مع كثير من دول العالم بما فيها بعض الدول العربية، لكنه كان شخصا عاديا بالمرة حين تعلق الأمر برفض شعبي معلن، بدأ في 14 فبراير 2011 باحتجاجات محدودة في بنيغازي ثم تحولت، بفضل رياح الثورتين في تونس ومصر، إلى تمرد شعبي تطور إلى ثورة بدأت سلمية ثم أصبحت مسلحة اسقطته وحكمه. والحكمة هنا تقول"إذا تمرد عليك أهل بيتك، فلا أهل لك ولا بيت"، الحكمة التي لم يتفطن لها القذافي، كما لم يتفطن لها ولا يتفطن لها كثيرون. كان الحوار، في مجمله، حول تصوراته للمرحلة الراهنة آنذاك في المنطقة العربية وما إذا كانت هذه المنطقة ستشهد كغيرها من مناطق العالم تحولا ديموقراطيا جديا. اعتبر القذافي أن الجماهير العربية ستتحرك، دون شك، وقال إن "الحكام العرب خائفون من الشعوب، وإن الشعوب ستزحف على عروش الحكام". هل استشعر القذافي الرياح تتحرك خلف شجر الصحراء ومن ورائها "الشعب" زاحفا عليه وعلى مقر حكمه المُحصن "باب العزيزية؟" لقد قضى القذافي مقتولا ومسحولا وخلّف وراءه "تركة ثقيلة"، فلا مؤسسات دولة، تشريعية وقضائية وتنفيذية متماسكة، يمكن للقادمين الجدد إلى الحكم البناء عليها. ولا جيش موحد ولا جهاز أمن يمكن الاعتماد عليهما في حفظ الأمن وحماية الدولة والمواطنيين، وفوق ذلك سجل ثقيل من انتهالكات حقوق الإنسان "التعذيب والقتل الجماعي والإخفاء القسري" وخصوصا ما يعرف بمذبحة أبو سليم. واجه الحكومة الليبية الجديدة التي يرأسها الحقوقي البارز والمعارض السابق علي زيدان، تحديات كثيرة أخطرها وأكثرها صعوبة هو إرساء ثقافة حقوق الإنسان وإنهاء ملف الانتهاكات في عهد القذافي. وقد اعتبرت منظمة هيومان رايتس ووتش في التقرير الذي أصدرته عام 2013 أن"ليبيا مازالت تعاني من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والوفاة أثناء الاحتجاز"، وقد طالبت المنظمة الحكومة الليبية بإرساء سيادة القانون بعد أكثر من 40 سنة من الدكتاتورية والقمع. في الحالة الليبية لا يمكن الكلام عن إعادة البناء، إنما عن بناء الدولة الحديثة من الصفر، وهوالتحدي الكبير الذي يواجه حكومة الرئيس زيدان ويواجه المؤتمر الوطني العام "البرلمان"، والسؤال الذي ما فتئ يردده السياسيون والنخب الليبية هو عن نقطة البداية في هذا البناء: هل من صياغة دستور يكفل حقوق مواطنة متساوية لجميع الليبيين ويؤسس لدولة القانون، أم أن الأولوية هي ضبط الأمن، وضبط الحدود وما يقال عن فوضى السلاح، أم هي معالجة دعوات الفدرلة وإعادة النظر في مفهوم مركزية ولامركزية الجهاز الإداري للدولة، أم معالجة الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة لعموم الليبين في بلد يعد من بين منتجي النفط الأساسيين في العالم، أم من ما بات يوصف بالفساد المتفشي في الدولة والاتهامات التي وجهها رئيس المؤتمر الوطني "البرلمان" محمد المقيرف إلى رئيس الحكومة السابق عبدالرحيم الكييب بصرف 5 مليارات دولار لتأثيت مكاتب الحكومة في غضون أشهر! تركة ثقيلة ومعقدة دون شك خلفها القذافي وارءه، فهل بمقدور الحكومة الليبية الحالية "المؤقتة" والحكومات القادمة، تفكيكها وإيجاد الحلول المطلوبة؟ هذه الأسئلة والقضايا ستتم مناقشتها مع رئيس الحكومة الليبية علي زيدان في حوار حصري مع برنامج عين على الديموقراطية يوم الجمعة 15 فبراير، على الساعة 2:10 بعد الظهر بتوقيت غرينتش.