ظل لكثير من الوقت هذا الصندوق الساحر مصدراً من مصادر المتعة والترفيه والإلهام، بل والتثقيف إلى أن أطل علينا العالم بتكنولوجياته، فاندثر الراديو وقل عدد مستمعيه، اللهم إلا القليل الذين لا يزالون يحتفظون بذكريات عدة مع هذا الزمن الجميل الذي كان يجتمع فيه أفراد الأسرة الواحدة أمام مائدة الإفطار في رمضان مع هذا الجهاز الساحر ليستمعوا إلى المسلسل أو يجتمعوا أول خميس من كل شهر ليطربوا بصوت الست أم كلثوم . قبل هذا الوقت بكثير وقبل إنشاء الإذاعة المصرية الحكومية أي سنة 1934 كانت هناك العشرات من المحطات الإذاعية منتشرة في كل محافظات مصر تقريباً، وكانت تعرف ب "المحطات الأهلية"، وكان معظمها مملوكاً لشركات الأسطوانات الغنائية والموسيقية، وكان الهدف من إنشائها إذاعة الأغاني والدعاية للأسطوانات، ولكن التركيز الفعلي كان قائماً على فقرة ما يطلبه المستمعون، فكان يدفع كل مواطن عشرة قروش ليكون له الحق في الاشتراك بمحطة إذاعية، وطلب الاستماع إلى أغنية يهديها إلى من يحب، أو يطلب برنامجاً ثقافياً أو قطعة موسيقية . كل ذلك كان يتم بعيداً عن أعين الرقابة، لذلك كانت تحدث تجاوزات، ووفقاً للزمن الذي وجدت فيه الإذاعة والأسطوانات كانت تعد طلبات المستمعين في جزء منها كنوع من الخروج على التقاليد . من هنا بدأت الحكومة التفكير عملياً في إنشاء إذاعة حكومية تساعد على نشر الوعي والثقافة، وتنهض بمستوى الشعب الفكري وترتقي بالفنون بكافة أنواعها، خاصة الشعر القومي لبث روح التضامن والانتماء الوطني بين أفراد الشعب، وتثقيف الأوساط الشعبية والعمل على محو الأمية . وإذا كان الدور الذي تلعبه الإذاعة وقت السلم يعتبر إيجابياً، فإن لها وقت الحرب دوراً أخطر، حيث يصبح جزءاً من الخطة الحربية وانتشار رسالتها بسرعة البرق . تعاقدت الحكومة وقت إنشائها مع شركة "ماركوني" لإدارة الإذاعة تحت إشراف الحكومة المصرية، وتشكلت لجنة تسمى بلجنة البرامج وتكونت من خمسة أعضاء، ثلاثة يمثلون الحكومة المصرية من بينهم رئيس اللجنة، واثنان يمثلان الحكومة البريطانية . كان لهذه اللجنة بعض المقترحات منها: أن يكون أبو الهول "رمز الصمت في العالم" شعار الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، وباعتبار أن مصر شهيرة بالأهرامات وأبو الهول، فقد أخذت جريدة الأهرام شعار "الأهرام" لها ليبقى "أبو الهول" للإذاعة . من المقترحات أيضاً، أن تبقى الأغاني الشرقية ذات التخت والأغاني الطويلة المكررة هي المسيطرة . ولقد أرسلت اللجنة توصياتها لشركة "ماركوني" وتنص على تحديد أجر الأغنية بحسب مدتها وكان المقصود به "الحساب بالدقيقة"، ليتبارى المطربون في الإطالة والتكرار في أغانيهم، أيضاً التخوف من انضمام مصر إلى اتفاقات حقوق المؤلف العالمية ليبقى أصحاب الأفكار غير قادرين على الإجادة لأنه لا حقوق لهم، كذلك وضع قانون المطبوعات والرقابة المملوء بالمحظورات بحيث يضيق الخناق على المؤلف، وتفضيل صاحب الموهبة الصوتية عن صانع الفكر، سواء كان مؤلفاً أو موسيقياً . اعتبر سعيد باشا لطفي أول رئيس للإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، التي تم افتتاحها في 31 مايو/أيار ،1934 وقد بدأ الاحتفال في الخامسة والربع عصراً، وألقى كلمة الافتتاح إبراهيم فهمي كريم باشا وزير المواصلات، ثم تبعتها كلمة محمود شاكر محمد بك المدير العام لمصلحة سكك حديد وتلغرافات وتليفونات الحكومة المصرية . كانت البرامج الإذاعية تذاع مباشرة على الهواء فيما عدا البرامج الإخبارية، فمثلا التمثيليات كان تمثيلها وإخراجها بما في ذلك الاستعانة بالمؤثرات الصوتية، يتم على الهواء مباشرة، لذا كثيراً ما كانت تقابل العاملين صعوبات جمة، لأن أي خطأ يحدث كان من المستحيل تداركه، والتوقف عن البث، وهذا بالطبع ينطبق على كافة البرامج . كان لكل مادة من مواد البرنامج اليومي استوديو خاص يتفق مع طبيعته، فالفرق الموسيقية والاوركسترا مخصص لها "استوديو 1" أما الفرق الغنائية والتمثيليات وتلاوات القرآن الكريم فكان لها "استديو 2" وهكذا . . بثت الإذاعة المصرية على موجة متوسطة مع محطات تقوية في بعض المحافظات، ولم تصل إلى العالم العربي، فقامت باستئجار موجة قصيرة من شركة "تلغراف ماركوني" ومقرها مبنى الإذاعة بشارع علوي ومحطة إرسالها في المعادي، فأتاحت إذاعة برامج استمع من خلالها العالم العربي إلى صوت مصر، التي بدأت من هنا تأكيد دورها الإعلامي . عام 1936 بدأت شركة "ماركوني" التفكير في إدماج نظام التسجيلات على أشرطة، وتم بالفعل استيراد أجهزة ضخمة من انجلترا مصنوعة من الصلب، يزيد قطرها على نصف متر ويلف عليها شريط من الصلب طوله يزيد على ستين ياردة، وكانت هذه الأشرطة كبيرة الحجم ثقيلة الوزن، ومن هنا احتاج الأمر إلى أن يقوم بهذا العمل فنيون مفتولو العضلات، حتى يتمكنوا من استخدام هذه الأشرطة وإدارتها، وكانت مدة الشريط نصف ساعة ويستغرق نصف المدة عند إرجاعه، وفي حالة قطع الشريط يتم لحامه بالقصدير . أصبحت الإذاعة مصرية بالكامل عام 1947 لاعتبارات عدة، منها ما تفرضه الكرامة الإنسانية من ضرورة "تمصير" كل المرافق الأساسية في الدولة، وفي مقدمتها الإذاعة لأنها مرآة الشعب وانعكاساً لآماله، وقد تم "التمصير" في عهد سعيد باشا لطفي، ومن بعده تسلم الراية محمد بك قاسم في 22 ديسمبر/كانون الأول 1947 . مخترع الراديو ينقذ السفينة جويلمو ماركوني هو مخترع الراديو، ولد في مدينة بولونيا بإيطاليا لأسرة غنية، تعلّم في بيته وتأثر بتجارب هارتس التي أثبتت وجود موجات غير مرئية كهرومغناطيسية، وهذه الموجات تتحرك في الهواء بسرعة الضوء . آمن ماركوني أنه يمكن استخدامها في إرسال إشارات صوتية لمسافات بعيدة دون الحاجة إلى أسلاك، وعام 1895 نجح في اختراع جهاز خاص يستطيع إرسال رسائل إلى السفن في المحيط، وكان الجهاز سبباً في إنقاذ عدد من ركاب سفينة ريبيلك سنة ،1909 وفي نفس السنة حصل ماركوني على جائزة نوبل، وظل يحلم بنقل الصوت عبر مسافات هائلة، لكن ذلك لم يتحقق إلا عام ،1915 ولم يعرف العالم الإذاعة على نطاق تجاري واسع إلا عام 1920 .