الأرقام المليونية للسلع المغشوشة التي كشفت عنها الهيئة العامة لحماية المستهلك في سلطنة عمان تؤشر إلى وجود حفنة أشرار من المفسدين الذين باعوا ضمائرهم للشيطان لاهثين خلف الثراء السريع من دون كوابح من قيم وأخلاق أو دين، كما أنها تطرح جملة من التساؤلات والملاحظات اللافتة . فقد كان معظم المضبوطات في محافظة العاصمة التي أصبحت تئن من وطأة هذه الجرائم الإنسانية البشعة، ما يدفع إلى التساؤل حول دور الأجهزة المعنية بالرقابة الصحية والتفتيش في بلدية مسقط التي تتفضل بالإعلان ما بين الحين والآخر عن بضع حملات هنا وهناك تسفر عن تحرير محاضر أو تحذيرات أو حتى حالات نادرة للاغلاق طوال سنوات عديدة مضت، بينما تتمكن هيئة "وليدة" من ضبط هذا الكم الهائل من السلع التي تحمل إلى الجميع موتاً بطيئاً في شحنات من الحبوب معروفة بسميتها "الفطرية" العالية اذا كانت منتهية الصلاحية، كما أن تأثيراتها التراكمية قد تؤدي إلى الإصابة بأمراض خطيرة . وثانياً، أين الجهات الرقابية المختصة في وزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه اذا كانت احدى الشركات قد اتخذت من مزرعة خاصة "وكراً" لها تمارس في ظلماته جرائم التلاعب في تواريخ الصلاحية لأكياس الأرز الذي يشكل وجبة أساسية على مائدة العمانيين والمقيمين اليومية لمدة عشرين عاما كانت من خلالها بؤرة تنفث سمومها في كل اتجاه؟ وثالثاً، إن وجود "مبيدات منتهية الصلاحية" يعني أن حجم الجريمة أضخم مما يتصور البعض، فهي لم تكتف بتسميم الغذاء القادم من خارج الحدود فحسب، وإنما عن نوايا استهداف الزراعة المحلية التي اشتهرت بها السلطنة منذ القدم، خاصة الخضراوات والفاكهة، وهو الأمر الذي يمكن أن يساعد المعنيين بوزارة الزراعة والثروة السمكية في الوصول إلى تفسيرات منطقية حول أسباب انتشار الآفات في نخيل التمور وأشجار الرمان والليمون وغيرها، فضلاً عن التأثيرات السلبية في الثروة الحيوانية بفعل الأدوية البيطرية المغشوشة هي الأخرى . رابعاً، إن إلقاء اللوم على عصابة من الوافدين الذين تم ضبطهم متلبسين باقتراف تلك الجرائم البشعة لا يعني أبداً أن غيرهم منزهون عن الخطأ، بل هم ضالعون سواء بالتواطؤ الفاعل أو الصمت أو التستر على هؤلاء الذين ما كان لهم أن يعملوا داخل السلطنة بمعزل عن مظلة المواطنين، ما يعني أن المساءلة يجب أن تمتد إلى كل المساهمين على قدر حصصهم في ارتكاب جريمة "التسميم الجماعي" ليس فقط لأبناء وطنهم، وإنما لكل من يعيش على هذه الأرض الطيبة التي نتمنى أن تلفظ تربتها كل جذور خبيثة عابثة بمقدراتها ومستقبلها . خامساً، إن إلقاء القبض على "المتلبسين" ليس كافياً، فحجم الجريمة يستوجب البحث عن الفاعل الأصلي سواء كان وكيلاً مستورداً أو موزعاً رئيساً داخل السلطنة أيا كان موقعه أو مكانته دون محاباة أو مواربة، وكذلك جهة التصدير حتى تطمئن القلوب بأن السلطنة - وربما غيرها من دول الخليج العربية - ليست هدفاً لجريمة منظمة من جانب جهة معينة أو جهات توافقت رؤاها وأهدافها، خاصة أنني لست من بين المنكرين لنظرية المؤامرة في حالات عديدة من بينها تلك التي نحن بصددها، وسادساً، لماذا "تعطل" إصدار قانون جديد لحماية المستهلك لمدة ستة عشر شهراً، بينما كان المفترض أن يواكب انشاء الهيئة العامة لحماية المستهلك باعتبارها تدشن مرحلة جديدة من المواجهة الفاعلة لجرائم الاحتكار والغش والتدليس والاحتيال والتلاعب بالأسعار، خاصة أن العقوبات الحالية لا ترقى إلى حد الردع لمثل هذه الوقائع التي تشكل جرائم "شروع في قتل" من المفترض أن يخضع مرتكبوها لعقوبات صارمة تجعل منهم عبرة لكل من يظن أن بإمكانه السير من دون عراقيل على طريق الثراء حتى وإن كان مفروشاً بأنات المرض والألم والمعاناة التي تحملها سموم القتل البطيء إلى أجساد الأبرياء . أخيراً، تحية واجبة للعاملين في الهيئة العامة لحماية المستهلك ورئيسهم د .سعيد الكعبي، ودعوة إلى الإعلان "الصريح" عن أسماء الشركات المتورطة وأصحابها ووكلائها، وربما "المتعاطفين" معهم أو المستفيدين منهم حتى تتساقط كل الأقنعة . [email protected]