تونس تعيد طرح السؤالبقينا حتى الأمس نظن أن الربيع العربي طرح سؤال أولوية الداخل على كل ما عداه. الا صوت يعلو فوق صوت المعركةب كان حيلة المستبدين لكي نصمت ويحكمون حسب الفكر السائد اليوم. كان المستبدون يستعملون العدو قميص عثمان لكي يستبدوا ويستأثروا بالسلطة لا أكثر. فكان الربيع العربي جواباً على المستبدين لكي يعيد صياغة الاسئلة ويعيد ترتيب أولوياتها. جواب الربيع العربي كان نريد الحرية في الداخل ، أي أنه قلب المعادلة وعلى نحو ميكانيكي، آلي، وتحولت الآية الى: 'لا صوت يعلو فوق صوت الحرية'. سجل أنصار هذا الصوت نصراً لا جدال فيه. نجح بداية في إسقاط الإستبداد وبمدة قياسية ثم نجح في ارساء الديمقراطية والتنافس بواسطة صندوق الاقتراع. وقل أن عدو الأمس تحول فجأة الى حليف أو على الأقل الى داعم لهذه المسيرة الديمقراطية. وبغض النظر عن السرعة القياسية التي تم فيها القضاء على الإستبداد في مصر وتونس يبقى أن بن علي ومبارك قد رحلا وتكلمت صندوقة الإقتراع لأول مرة منذ زمن طويل. تكلمت الصندوقة وأتت بنخب جديدة الى السلطة قيل أنها الوحيدة المنظمة في طول العالم العربي وعرضه. وقيل ان الوقت سيكفل التداول على السلطة طالما أننا صرنا في حقبة الحرية. ومع الوقت تبين أن من ربح الإنتخابات في الدول التي جرت فيها حتى الآن هو، صدفة أم لا: تيارات الإخوان المسلمون الذين لم يقولوا برنامج حكمهم بعدُ رغم مرور سنتين على الثورة. لكن لا الإنتخابات ولا الحرية الموعودة ولا النخب الجديدة الجماهيرية استطاعوا أن يوقفوا استمرار الإحتجاجات والإنتفاضات الشعبية العارمة في الساحات والميادين. المنطق يدفعنا إذاً الى الإعتراف بأن تفسير 'الحرية' لم يكن كافيا لشرح كل أهداف الإنتفاضات الشعبية التي تريد ربما أشياء اخرى الى الحرية. الربيع العربي بدأ دورانه من تونس والى تونس عاد الدوران من جديد. من تونس التي فجر انتفاضتها الأولى البوعزيزي تبدو اليوم بمواجهة مع انتفاضة نتجت عن اغتيال شكري بلعيد المحامي والمناضل اليساري. هذا الاغتيال الذي فضح عجز القوى الإخوانية عن تقديم برنامج سياسي وتنموي وتحرري رغم انتصارهم في الإنتخابات الديمقراطية. حصر الموضوع بالتخلص من الإستبداد لم يستطع، أيا كان رأينا الشخصي، تجاوز طموحات الناس ومشاكلهم الفعلية. 'فإذا عدتم عدنا'، وبما أن الأزمات لم تذهب بل تعمقت عادت الحشود الى ميادين مصر وتونس واليمن. ما يجري في تونس اليوم يرتدي أهمية استثنائية. ليس فقط لأنها البداية بل المؤشر. تونس تشي على ما يبدو قبل غيرها بما يعتمل في عالمنا العربي من مشاكل.المسألة ليست إذا محصورة بشكل الحكم بل بمجموعة من الكوابح تمنع هذا المجتمع من الإنطلاق والتحرر. تونس قالت منذ البداية انها تريد الشغل اولاً ولم تجد من يصغي. نادت بالحرية فأتوها ببرنامج سطحي قروسطي وبقيت حتى اليوم وبعد سنتين على الثورة بدون دستور وبدون موعد للإنتخابات التشريعية. قالت بالكرامة الوطنية فأتوها بمساعدات قطر وبمتابعة الخضوع للبنك والصندوق الدوليين بما يتضمن ذلك من سياسات إقتصادية ومالية تعزز البطالة والتفكك الإقتصادي المحلي والعربي. تونس تقول لنا اليوم أن العودة إلى إغتيال القادة دليل إضافي على فشل السياسات الجديدة في التصدي للمعضلة الأساس. ومن هنا فإن الأزمة التي فجرها إغتيال بلعيد تتعدى مأزق الفئات الحاكمة هناك الذي انفجر غداة الإغتيال. العودة الى سياسة الإغتيالات والقمع والإرهاب ليس صدفة في هكذا وضع وهو أصلا لم يكن صدفة في النظام الذي سبق. الإستبداد شكل حكم تلجا الفئات الحاكمة اليه في كل مرة تكون سياساتها عاجزة وأقلوية وغير مقنعة. فهو ليس معطى ابدياً أو 'طبيعياً' لدى بعض الشعوب دون غيرها. أما اغتيال شكري بلعيد اليوم بالذات فهو مؤشر آخر على المراقب السياسي ان يتابعه جيداً من الآن فصاعداً. بعد فشل التيار الإخواني في كل من مصر وتونس في إرساء حكم مقنع وإعادة الإستقرار الى البلاد يبدو اننا بصدد صعود قوى جديدة تتميز بالواقعية جسّدها الشهيد شكري بلعيد بُعيد نجاحه في تجربة التوحد في تحالف الجبهة الشعبية. وما الجموع الشعبية الهائلة التي زحفت في وداع بلعيد إلا ترجمة لعمق انغراس هذا التيار في المجتمع التونسي ومدى أهميته التمثيلية. المسألة تتعدى، أغلب الظن، شكلية تداول السطة وهي ليست حتما قصة أدوار بل تطابق العرض السياسي مع طموحات الناس كما تتبدى من خلال التظاهرات المستمرة والمتصاعدة منذ سنتين.إن الطرح -البلعيدي- إذا جاز القول هو طرح يساري جديد يرى الى الحرية في الداخل من خلال التحرر الوطني ومن خلال ايجاد إقتصاد وطني متحرر من قيود الليبرالية العالمية يتيح خلق فرص العمل للمهمشين الكثر في مجمتعاتنا. الجديد في الطرح البلعيدي أنه ربط بين الديمقراطية وبين التحرر الوطني والاقتصادي فقدم رؤية للخروج من المأزق العميق الذي تواجهه مجتمعاتنا بأبعاده المتعددة. فهل جاء عصر اليسار العربي وبهذه السرعة؟ سؤال أعاد الناس اكتشافه حين اكتشفوا شكري بلعيد يوم اغتياله ويوم خرجت الجموع التونسية وقلوب الكثير من العرب الخائفين على مصيرهم ومستقبلهم من نظام ليبرالية الإسلام الذي لا يملك إلا إعادة إنتاج النظام السابق مع مسحة قمع دينية تتوسل الرب عماداً لخياراتها البشرية. المجتمع العربي يعاني من مأزق مركب لا تختصره شعارات العداء للغرب والخارج وحدها كما لا يمكن اختصاره بالحرية والديمقراطية وكأنه في جزيرة نائية. أهمية العرض البلعيدي هو في جوابه على هذه المعضلة المركبة وفي نجاحه بإقناع الجمهور التونسي ثم العربي به.