عمّت ليبيا أجواء احتفالية هذا الأسبوع لمناسبة الذكرى الثانية للثورة على نظام العقيد القذافي . وكان لافتاً للغاية أن شعوراً عاماً إيجابياً كان يطغى على سلوك الليبيين أثناء الاحتفالات . الأمر الذي يشير إلى أن الليبيين لم يفقدوا بعدهم الإيمان بالثورة والتمسك بها كمحطة مفصلية في تاريخ ليبيا ومنعطف نحو عصر جديد بكل ما تحمله الكلمة من معنى . وتتجلى أهمية تلك الملامح الإيجابية المتفائلة بالنظر إلى ما تعانيه ليبيا من تحديات ومعضلات، كثير منها ورثته من عهد القذافي الذي استمر أربعة عقود، وبعضها مرتبط بمقتضيات مرحلة انتقالية قوامها بناء دولة جديدة، بما يعنيه ذلك من تجاذبات وصراعات داخلية وخارجية، فضلاً عن أزمة الموارد وعدالة التوزيع والتطلعات الاجتماعية، وغيرها من مشكلات، وظواهر تفرض نفسها لدى التوجه نحو بناء الدولة . عامان مرا على اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا . وقد احتفل الليبيون بهذه الذكرى مطلع الأسبوع الجاري، تسودهم آمال عريضة بليبيا جديدة مدنية ديمقراطية متحضرة ومتعايشة مع ذاتها وبيئتها المحيطة . لكن في غمرة الاحتفالات واستحضار ذكريات الثورة والحرب التي فرضها القذافي على الليبيين، هناك مخاوف وتحديات كثيرة نجمت عن تلك الفترة العصيبة وتنتظر التعاطي معها . ولعل هذه المقابلة بين التفاؤل بالمستقبل والمحاذير التي فرضها الواقع، تفرض على الليبيين، وكذلك من يتابع الشأن الليبي البحث عن محصلة تلك المعادلة الصعبة . إنجازات الثورة لم يكن بوسع أي متابع للشأن الليبي أن يتوقع قيام ثورة تطيح حكماً استمر أكثر من أربعة عقود بقيادة القذافي . وهذا هو أول وأعظم إنجازات الثورة الليبية، أنها تمكنت من إنهاء واحد من أعتى النظم الديكتاتورية وأكثرها استبداداً وقمعاً في التاريخ العربي، بل ربما في تاريخ الإنسانية . وبعد عامين من نشوب الثورة ضد القذافي، يمكن القول إن الثمن الذي دفعه الليبيون لهذا الإنجاز من حرب وشهداء، ثمن باهظ وضخم بضخامة الإنجاز ذاته . لكن المغزى الكامن في إطاحة القذافي أهم كثيراً من اختفائه هو شخصياً أو نهاية حكمه . ذلك أن نهاية هكذا جبروت يضع أي نظام حكم قادم في ليبيا أمام درس بالغ القسوة وعميق العظة، مفاده أن الكلمة الأخيرة للشعب وإن طال الأمد . المعنى أن المفهوم الديمقراطي البسيط "تداول السلطة"، الذي يجري تطبيقه بسلاسة وهدوء بل وروتينية في النظم الديمقراطية، هو مكافأة الشعب الليبي على الثمن الباهظ الذي دفعه لإزاحة القذافي . لذا ربما يكون لهذا المفهوم قيمة أعلى لدى الليبيين من غيرهم من شعوب الربيع العربي التي دفعت أثماناً أقل، باستثناء السوريين . ورغم أن رجال ورموز نظام القذافي لم يتم القضاء عليهم، لا سياسياً ولا قضائياً بشكل كامل، إلا أن شروع ليبيا الجديدة بعد ما يقرب من عامين في فتح ملفاتهم، خصوصاً بالمحاكمة والملاحقة القضائية، أمر يعطي إشارات إيجابية قوية لجهة بناء الدولة الجديدة على أسس مختلفة . ومن أبرز الخطوات في هذا المجال الدور الذي تقوم به هيئة النزاهة والمساءلة في الملاحقة السياسية لرموز القذافي ومنعهم من العمل العام، والشروع في محاكمة القيادات الكبيرة مثل السنوسي وسيف الإسلام . ولا بد من الإشارة إلى أن هذا التوجه يحظى برضا واسع لدى الليبيين الذين يعدونه أحد مؤشرات صدقية وفعالية الحكم الجديد في ليبيا بعد الثورة . وهو ما ينطبق أيضاً على التوجه الرسمي نحو بناء جيش نظامي وقوات أمن بشكل احترافي، بالتوازي مع جهود دمج الثوار المسلحين في الأجهزة الرسمية . الإنجاز الثاني الذي حققته الثورة الليبية بعد عامين، هو الشروع في "إقامة" دولة ليبية . إذ من العسير اعتبار أن ليبيا القذافي كانت دولة بالمعنى السليم، لذا فالليبيون ليسوا بصدد إعادة بناء للدولة وإنما البدء في بنائها من الأصل . فنظام القذافي كان قد تفنن في استحداث أشكال وهياكل ومسميات لا صلة لها بالدولة المعاصرة ولا حتى بدولة القبيلة التقليدية . ورغم أن هذا الوضع يمثل بذاته تحدياً حقيقياً وعبئاً على الليبيين، فإن إدراك هذا الوضع وضرورة التعامل معه ومن ثم الوصول إلى نقطة البداية يمثل بذاته خطوة مهمة ومتطلباً أساسياً يمكن البناء فوقه . وهنا تنبغي الإشارة إلى وجود خطة منهجية لبناء الدولة وفق التسلسل المنطقي، بدءاً بصياغة الدستور ثم إجراء انتخابات برلمانية ثم استكمال مؤسسات الدولة . أخذاً في الحسبان أن ثمة عقبات تواجه تنفيذ هذه المراحل بسرعة على النحو المأمول، خصوصاً ما يتعلق بالدستور الذي لم تحظ طريقة صياغته بعد بإجماع لدى الليبيين، ولاسيما في المنطقة الشرقية التي يدعو بعض أهلها إلى اعتماد الفيدرالية نظاماً للدولة في الدستور الجديد، لذا تم تعديل طريقة تشكيل لجنة صياغته لتصبح بالانتخاب المباشر . في المسار الاقتصادي، واجهت ليبيا أثناء فترة الحرب وبعدها مباشرة أزمة اقتصادية طاحنة نتيجة تعرض كثير من منشآت قطاع النفط للتدمير، وهو المورد الرئيس للدخل في ليبيا . بيد أن القطاع استعاد كثيراً من عافيته بعد أشهر قليلة من انتهاء الحرب ومقتل القذافي في 20 أكتوبر 2011 . فقد وصلت عائدات ليبيا من النفط والغاز إلى 4 .30 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من عام 2012 . نتيجة وصول الإنتاج النفطي إلى 4 .1 مليون برميل يومياً . ويجدر هنا التذكير بأن إنتاج النفط الليبي قبل الثورة كان يصل إلى 6 .1 مليون برميل يومياً . فضلاً عما تحقق داخلياً، حققت الثورة الليبية إعادة تعريف وتموضع للسياسة الليبية في محيطيها الإقليمي والعالمي . فمعروف ما كانت عليه السياسة الخارجية الليبية وتأسيس علاقاتها مع العالم وفق حسابات خاصة وذاتية تتعلق بالقذافي وشخصيته غريبة الأطوار متقلبة المزاج . تداعيات عهد القذافي مقابل الإنجازات التي حققتها الثورة الليبية، تفجرت حزمة من المشكلات والتحديات التي لم تترتب على الثورة بذاتها وإنما كانت نتاج الميراث الطويل لحكم القذافي . على رأس تلك التحديات والمشكلات الأعباء المصاحبة لبناء الدولة، التي تشمل فرض سيطرة السلطة على ربوع البلاد أمنياً وسياسياً وإدارياً . ولا بد من الإقرار بأن الملف الأمني يمثل أكبر التحديات وأخطرها، لأنه المدخل إلى التعاطي مع كل الملفات الأخرى . ونظراً لأن ليبيا القذافي لم تكن تملك جهاز أمن وطني بالمعنى التقليدي، كما أن القذافي فرض على الليبيين حرباً مفاجئة لم يكونوا مستعدين لها، فإن الوضع بعد الثورة أصبح معكوساً وبشكل غير تقليدي . إذ لا تملك الدولة قدرات ولا أدوات أمنية فعالة، بينما القدرات والأدوات موجودة لدى كيانات وتكوينات أخرى غير السلطات الرسمية . سواء لدى القبائل أو التنظيمات السياسية أو الجماعات الثورية التي تشكلت لمواجهة القذافي . ومن ثم أصبح الوضع الأمني الراهن إفرازاً منطقياً لفترة الحرب فضلاً عن التراكم السابق عليها . المشكلة الثانية التي تفجرت بعد الثورة، ولاتزال ليبيا تعانيها، هي التطلعات والتوجهات لبعض القوى والتكوينات الاجتماعية التي يمكن اعتبارها مواقف أو توجهات "غير قومية"، إذ تنزع إلى الحصول على خصوصية أو تمييز معين سواء جغرافيا أو قبلياً أو فئوياً . ويتصدر هذه التوجهات رغبة بعض سكان المنطقة الشرقية في التخلص من السيطرة المركزية، وإن تطلب الأمر الوصول إلى مرحلة متقدمة من الفيدرالية أو حتى الكونفيدرالية . وفي السياق ذاته تأتي بعض الدعوات من جانب القبائل القريبة من الحدود الشرقية والجنوبية، خصوصاً في الكفرة، حيث تتمركز جماعات من قبيلة التبو الأمازيغية التي تكرر من حين إلى آخر مطالب بالخروج من تحت لواء الدولة المركزية في ليبيا، بل دعت إلى تدخل دولي لما يصفه قادتها بعملية التصفية العرقية التي تتعرض لها القبيلة . على الرغم من أن كل المواجهات المسلحة التي خاضتها تلك القبيلة مع جاراتها من القبائل العربية المجاورة لها، كانت هي البادئة بها، فيما يشبه تعمداً لإثارة مشكلات ومواجهات مسلحة، ثم يتم توظيفها إعلامياً وتصويرها على أنها استهداف عرقي للأمازيغ ولتلك القبيلة تحديداً . الشاهد أن بعض المشكلات العالقة في التركيبة الاجتماعية والديموغرافية الليبية أخذت تفرض نفسها وتطفو على السطح في ليبيا ما بعد القذافي، سواء ظهرت في حجمها الحقيقي أو خضعت لمبالغة . ومن ثم فإن الذكرى الثانية لثورة ليبيا تحمل معها كثيراً من التفاؤل بعد الإنجاز التاريخي بإسقاط حكم القذافي والقضاء عليه شخصياً، لكنها في الوقت ذاته تأتي مصحوبة ببعض المحاذير والإشارات التي ربما يكون الليبيون منتبهين إليها بل ويعانون منها، بيد أن التحدي الحقيقي يتجاوز حدود إدراكها، ويتمثل في كيفية التعاطي معها بواقعية وفاعلية تساعد على تحقيق مزيد من الإنجازات بحلول الذكرى الثالثة للثورة . [email protected]