حر أنت في أن تختار خطك الفني يا أيها المطرب، وأن تعلن على الملأ حبك لوطنك ولهجتك إلى درجة التباهي بهما، ورفضك الغناء إلا بما نطق به لسانك منذ ولدت . فلك كل الاحترام على مشاعرك الوطنية، وعلى افتخارك بانتمائك، أياً تكن هويتك . هذه المشاعر وهذا الالتزام، قد يميزانك عن غيرك لكنهما لا يعيبان الآخر الذي رأى في الفن هوية عالمية، واختار أن يغني بلهجات ولغات متنوعة، سواء حباً بالتنوع، أو حباً بالانتشار والتقرب من الجمهور في مختلف أنحاء العالم، لأن من حقه أن يحلم بالتحليق عالياً، ولو وصل بحلمه إلى النجوم . حرّ أنت في رسم طريقك وصورتك، لكنك لست حراً في اتهام زميل لك بالخيانة الوطنية، لمجرد أنه سار في طريق مختلف، ولبس العباءة العربية، وحلم بالوصول إلى عالم أوسع فغنى لجمهور أكبر . وتمهّل يا أيها الآتي من زمن الفن الجميل، فكل "عباقرة الفن" في العالم لم يسمحوا لأنفسهم باتهام أحد بالخيانة، لأنه ألّف قطعة موسيقية لمغن من غير جنسيته، أو غنى كلمات لمؤلف غريب عن بلده . أوَ ليست الأغنية جسداً لا يكتمل إلا باكتمال كل أعضائه؟ فهل الكلمات وحدها هي التي تحدد هوية الأغنية وتنسبها إلى بلد دون الآخر؟ ماذا عن اللحن؟ هل يمكننا القول إن أي كلمات عربية مركبة على لحن غربي صرف، يصبغها بصبغة البلد العربي فتحمل هويته؟ في واقعة المعركة الجديدة (أو المتجددة لأنها ليست الأولى من نوعها) التي فتحها الفنان ملحم بركات على كثير من الفنانين اللبنانيين متهماً إياهم بالخيانة لأنهم يغنون باللهجة المصرية، بينما هو متمسك باللبنانية و"مستغن عن مصر وجمهورها"، تستوقفنا أكثر من مفارقة، من دون أن نغرق في الجدل الطويل الذي أحدثه هذا التصريح وردود بعض الفنانين عليه، ومنهم الفنانة أحلام التي اعتبرت أن الكلام موجه للفن الخليجي، علماً بأن ما تم تناقله عن لسان بركات، هو تهجمه على من غنوا باللهجة المصرية تحديداً، وقد ذكر مجموعة منهم بالاسم . معروف عن بركات، ومثله نجوى كرم ووائل كفوري، تمسكهم بالغناء باللهجة اللبنانية فقط، ونحترمهم على هذا الاختيار الذي حددوا فيه هويتهم الفنية التي لا تنتقص من هوية الآخرين، أو تقلل من قدر من اختار اللون البدوي أو الخليجي أو المصري وغيره . والمفروض أيضاً أن نحترم قرار أي منهم العدول عن رأيه في أي وقت، وقراره الغناء بلهجة أخرى مثلما فعل مرة واحدة وائل كفوري حين غنى "تبكي الطيور" التي أحبها الناس واعتبروها إضافة إلى رصيد كفوري، وأظهرت قدرات وطاقات صوته وقد غنى فيها الخليجي بلهجة أقرب إلى الفصحى أو ما يعرف باللهجة البيضاء . ومعروف أيضاً أن ملحم بركات غنى في الماضي "إفيفا إسبانيا" وهي مقتبسة عن أغنية بلجيكية مشهورة بنفس اللحن، فهل تعريب الألحان الأجنبية مسموح والانفتاح على اللهجات العربية محرّم؟ وهل هوية الأغنية في كلماتها فقط، أم أنها كلمة ولحن وجسد فني متكامل؟ أليس الغناء جمالاً؟ وهل للجمال هوية واحدة في هذا العالم؟ ثم نستغرب كيف للفن أن يكون متعصباً وأن يحرض على الكره ويثير النعرات والعصبية بين الشعوب؟ فهل الآن هو الوقت المناسب لتلك "الحروب الصغيرة" والاتهامات الكبيرة ب"الخيانة" لمجرد الغناء بلهجة أخرى؟ كأن بعض الفنانين ينفصل عن الواقع حين يدخل في متاهات ضيقة تقلل من حجمه وتغضب منه جمهوراً كبيراً هو بحاجة إليه، سواء اعترف بذلك أم لم يعترف، لأن الفنان لا قيمة له بلا جمهور، كما أن الحاكم لا قيمة له بلا شعب . فعلاً، لم يكن ينقص العالم العربي الغارق في همومه السياسية والاجتماعية، سوى تعمّد البعض إثارة النعرات من باب الفن، وخلق معارك وحروب متطرفة متعصبة، وأقل ما يقال عنها إنها "غير مسؤولة" . في ظل هذه الأجواء والمعاناة والقهر، تستغرب أن يأتي من يصارع الهواء كي "يتسلى" ببعض التصريحات وبالناس، فيخلق نوعاً من "الجعجعة" كي يلفت الأنظار إليه . تلك السهام "العنصرية" تصيب كثيرين من رموزنا الجميلة، أولهم الصوت الملائكي الفيروزي، لأنه أجمل من غنى ل "شط اسكندرية"، وغنى عبد الوهاب، بل إننا في طفولتنا عرفنا سيد درويش من خلال فيروز التي كنا نسمعها في الصباح تشدو عبر الإذاعات "الحلوة دي"، وكنا نحسبها لها قبل أن نعرف أن الأصل يعود للمبدع سيد درويش، وأن فيروز أعادت إحياءه من خلال تلك الأغنية، وهي التي غنت له أيضاً "أهو دا اللي صار" و"زوروني" . هل فريد الأطرش السوري الأصل خائن؟ نور الهدى وصباح؟ هل خانت لبنان ماجدة الرومي حين غنت لعبد الحليم حافظ وبدايتها كانت مع يوسف شاهين في فيلم مصري؟ وهل خان مصرَ المخرجون والممثلون حين حملوا كاميراتهم وجاؤوا إلى لبنان وصوروا أجمل الأفلام، ومنهم من سكن هناك وتملّك فأصبح وطنه الثاني؟ الفن عالمي، ولا يحق لأحد أن يحلله على هذا ويحرمه على ذاك . إنه لغة السلام المشتركة الوحيدة التي تحلق بلا أجنحة فوق كل دول العالم، وتعبر القارات بلا جواز سفر . فأي زمن هذا الذي بتنا نجزئ فيه الأغاني ونصنفها هويات وانتماءات؟ وقد استسهل البعض لفظ "الخيانة الوطنية" فهان عليه كل أهل الفن وأوطانهم . [email protected]