في أحد البرامج الفضائية المصرية لم يتورع أحد المنتسبين إلى تيار الإسلام السياسي عن وصف كل المتظاهرات في الميادين المصرية المختلفة ب "الصليبيات" و"العاريات"، وعندما رفض الضيف الآخر وهو ينتمي إلى شباب ثورة 25 يناير مثل هذه الأوصاف وقارع خصمه الحجة بالحجة لم يجد هذا المنتسب ما يفعله سوى صناعة المراكب الورقية ووضعها أمامه هازئاً بحجج الشباب، وبعدما احتدم الجدل وارتفعت الأصوات، وضع المنتسب حذاءه على الطاولة في مواجهة محدثه، وبخلاف المتوقع لم يغادر هذا المتمسح بالدين المكان في تحد واضح لمقدم البرنامج والطرف الآخر وأيضاً للمشاهدين وربما لقرنين من التنوير وأكثر من قرن على دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة . المشهد السابق لا يمكن اختزال قراءته في رصد التناقض بين خطاب الرجل الديني وسلوكه الفج، أو في الدفاع عن المتظاهرات، أو القول بخطر مثل هذه التصرفات على صورة الإسلام، ولكننا نعتقد أن الرسالة المراد توصيلها أخطر من ذلك بكثير: نحن موجودون وباقون وكل ما تقولونه أو تكتبونه أو تبدعونه أو حتى تفكرون فيه لا يستحق إلا "الحذاء"، مشهد يتجاوز في دلالته ما حدث مع تماثيل أبي العلاء المعري وطه حسين وأم كلثوم وفتاوى تكفير المعارضين وإباحة قتلهم ونبش قبور الموتى . لم يعد الصراع مقتصراً على محاكمة هذا المفكر، أو اغتيال هذا الباحث أو مصادرة أحد الكتب أو التظاهر لمنع عرض مسرحية، بل انتقل هذا الصراع بكوابيسه المزعجة، والأكثر ازعاجاً قادم لا محالة، إلى الفضائيات، ولا ينتمي البرنامج إلى إحدى فضائيات التكفير، حيث الوجوه المكفهرة المنفرة التي تبصر العالم بمنطق يرى كل جميل عورة وكل إبداع مخالفاً لتفسيراتهم للدين، وإنما عرض في فضائية معارضة تساند الثورة وتحاول بعد ضغط سلطة الإخوان عرض الرأي والرأي الآخر، ولم تعد الرسالة تحتمل التأويل أو المهادنة أو التبرير، فموقع أصحابها ليس المعارضة وإنما السلطة . إن الهدف من الرسالة القمع والتخويف وشغل العقل المصري وكل بلدان الربيع العربي وربما لسنوات طويلة مقبلة بآراء وأطروحات لا تنفع، العلم بها جهل، والجهل بها أيضاً علم، أفكار تجاوزتها أمم الأرض كلها، وحاولت النهضة العربية الحديثة التخلص منها . قيل الكثير في أسباب عودتها ولعل التفسير الأشهر هو الظلم الذي تعرضت له تلك الجماعات والذي بدأ في حقبة الستينات من القرن الماضي، الأمر الذي دفع سيد قطب لكتابه "معالم في الطريق" والذي اعتمدت عليه كل "أدبيات الظلام" في ما بعد، ولكن الذهنية ظلت كما هي خارج الأسوار واجترت الأفكار نفسها وتحاول نشرها وتطبيقها بقوة السلطة . ما يحدث الآن محاولة لاستنساخ أجواء العقد الأخير من القرن العشرين، في هذه الحقبة اغتيل فرج فودة، وحاول أحدهم اغتيال نجيب محفوظ، ونجح البعض في تفريق نصر أبوزيد عن زوجته، ورفعت دعاوى قضائية ضد كتب سعيد العشماوي وسيد القمني وحسن حنفي وخرجت مظاهرات حاشدة احتجاجاً على نشر رواية "وليمة لأعشاب البحر"، وشغلت الساحة الثقافية المصرية بقضايا من قبيل رضاع الكبير، وتورط كل المثقفين في جدل ذهني لم ينتج شيئاً له قيمة في النهاية، تصارع الجميع على أرضية التراث واستمدوا منه الشرعية ووقفت السلطة آنذاك ممسكة بالعصا من المنتصف، تنتصر لهذا الطرف في مرة، وتقمع الآخر في مرة أخرى، في معادلة تظهرها ديمقراطية وحكم بين الفرقاء وأيضاً للتغطية على فشل أي تنمية حقيقية وإغراق قطاع كبير من الرأي العام في قضايا لا تنفع . سلطة سكتت آنذاك عن مقولة المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين "طز في مصر"، بمنطق "التسامح" مع المعارضة فجاء أحد المنتسبين لتيار مساند للجماعة ومن موقع السلطة أو من خلال لعبة تبادل الأدوار بين الوجه والقناع ليضع "الحذاء" في وجه الثقافة وكل المدافعين عن حقوق المرأة . هو ليس منطق السلطة بأي حال، فالجماعة والتيارات الأخرى المتمسحة بالإسلام لم يصلوا بعد إلى مرحلة "التمكن" ومازالوا في طور "المغالبة" حيث تقف في طريقهم عقبتان رئيستان: الثقافة والمرأة، هم الآن في طريقهم لمحو ميراث بدأ مع رفاعة الطهطاوي، ذلك الأزهري الذي تشرب مبادئ عصر الأنوار الأوروبي وعاد ليدعو إلى العقل والعلم وتحرير المرأة، ولذلك تنضاف إلى العقبتين السابقتين، عقبة ثالثة متمثلة في الأزهر بوسطيته وتسامحه وانفتاحه على الآخرين، هي عقبات لا بد من تجاوزها حتى يتم "التمكن" الذي سيستغرق سنوات ينشغل فيها العقل المصري عن أية تنمية حقيقية لتعود البلاد إلى لحظة الحملة الفرنسية عندما كانت تعيش في ظلام مملوكي طويل . إن القفز على القرنين الماضيين هو النتيجة التي يسعى إليها تيار الإسلام السياسي، وبإمكان أحد الباحثين القيام بلعبة تماثلات تاريخية بين اللحظتين، وحتى لغة خطاب هذا التيار بمحمولاتها الدلالية وربما بألفاظها بإمكاننا أن نعثر على ظلال لها في تاريخ الجبرتي حينما كانت مصر جزءاً من الخلافة العثمانية، منغلقة ومنعزلة يقول حاكمها المملوكي الذي لا يعرف أي شيء عن العالم عندما أخبروه بنزول جنود "الفرنسيس" في الاسكندرية "والله لندوسهم بسنابك خيولنا"، ولم يلتفت أحدهم آنذاك لإحساس الأزهري حسن العطار بالانحطاط الذي وصلت إليه البلاد في مقولته الأشهر: "إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها" . إن ما منح ثورة 25 يناير الزخم والتأييد الداخلي والخارجي هو الشعور بتراجع مصر على المستويات كافة خلال العقود الماضية، تراجع أثر بالسلب على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وأيضاً على الدور والمكانة، تراجع حاولت الثقافة خلاله أن تبقي على بصيص من أمل ومسحة من جمال عبر الفيلم والأغنية والمسرحية والكتاب . . الخ، وهي المكونات التي يحاول البعض الآن تشويهها ومحوها، وإلحاقها بمنظومة التراجع مرة بالتكفير وأخرى بالقمع وثالثة بالإهانة، ولكن ستظل هناك آلاف الأصوات الحالمة بالتغيير والتجديد والمدركة تماماً أنه لم يبق لمصر إلا الثقافة كأداة للمقاومة تمنع الانكفاء والعودة إلى سبات القرون الوسطى .