للكلمة رنينٌ ومعنى وظلالٌ تصاحبها، وللأفرادِ والجماعاتِ تاريخٌ مع الكلمة، أو صورة لها في الذهن تتحكّم بردود أفعالهم حين تُنطق أو تُقرأ . وحين تندرج الكلمة ذاتها في سياقِ جملةٍ، أي حين تنتظم بتعبير عبد القاهر الجرجاني، تتبدل أحوالها لأنها تدخل في علاقة . يخفت أو يعلو الرنين، يتغير المعنى، ويتعدد الظل . لا تعود كما كانت . يشبه هذا التحول ما يحدث في عالم الجسيمات النووية، تعرض نفسها في حالة الضوء موجة بعد أن كانت مجرد جسيم . هي الاثنان معاً، ولكنها تظهر وجهاً من وجهيها (كجسيم) تحت عيني مراقب، وتظهر وجهاً آخر (كضوء) تحت عين المراقب ذاته إن غير أداة النظر . الكلمة هي هذا الجسيم، حين تنفرد، وهي موجة الضوء هذه حين تنتظم في سياق . السياقُ يخرجها من حالٍ إلى حال . ولكن من يكشف عن وجهها الآخر ليس مجردَ مراقبٍ، بل فاعل نسميه في لغتنا الشائعة "الشاعر"، ونسمي نظم الكلام الذي يحدثه "الشعرية" . بالطبع، قد لا يكون القائلُ شاعراً دائماً يسعى إلى تحويل الجسيمات إلى موجات، بل قد يكون أي إنسان تعلم النطق والكتابة والقراءة، ولا يسعى إلى أبعد من التعبير عن أفكاره، أي لا يعنيه الكلام إلا في حالته الجسيمية تطلباً للدقة إن كان عالماً أو تطلباً للوضوح إن كان ناقلاً للأخبار . معنى هذا أن ليس كل كلام منظوم ذي سياق يمكن أن يعد شعرياً حتى لو زعم صاحبه أن هذه هي غايته، أو حتى لو عقد له كما هو شائع وزناً وقافية . الشعرية، بتعبير "يحيى بن المنجم" أبعد مراماً وأعز انتظاماً . قد تكون هنا أو هناك، وقد لا تكون . *** في تجربة اكتشاف الشعرية في أي مكان تجلت فيه، ردّدتُ بضع كلماتٍ على مسامع صديق، وسألته عن صدى هذه الأسماء في ذهنه . كانت الأسماء لأشخاص عرفتهم في الأيام الغابرة، وأعلم أن هذا الصديق لم يسمع بها من قبل . ربما مرت عليه بين سطور مقال، أو سمعها عرضاً، ولكنها بالتأكيد لم تكن مما يبعث في ذهنه أي صدى . وهذا ما حدث فعلاً . قال هذا الصديق، بعد لحظة صمت، "هذه أسماء، لابد أنها لمعارف لك" . قلت "لا أسألك عن أصحابها، بل عما يثيرها تردادها في نفسك" . - لاشيء . . - حسناً . . هذا ما توقعته . - ولكن ما معنى كل هذا؟ كان المرمى بعيداً، أبعد من مجرد ترديد أسماء مجهولة، أو مجرد طرح أحجية كما ظن صديقي للوهلة الأولى . كنت في الحقيقة أختبر رنين الكلمات، سواء تلك التي نستخدمها في التخاطب والتواصل، أو التي نستخدمها حين نقول الشعر أو نروي رواية . ما الذي تثيره فينينا الكلمات؟ جملة هذه الأسماء لأناس عرفتهم، أو أية أسماء أو أفعال، أو حروف، مما يتشكل منه معجمنا اللغوي المشترك إلى هذا الحد أو ذاك، تخص كل واحد منا، ترتبط بذاكرته، وتثير فيه أصداءً لا تثار بالضرورة في ذهن المتلقي . صحيح أن لها في الذاكرة الجمعية نوعاً من الصدى، ذاكرة المعجم أو ذاكرة حفظة المعجم، ولكن حين يقول شخص ما يعنيه لابد أن نجد انحرافاً، ولو ضئيلاً، عن الذاكرة الجمعية . ويزداد هذا الانحراف تطرفاً في حالة الكلام الإبداعي . استنتج، إذاً لا يكفي أن نقول لكي يمتلك ما نقوله صدى، أو لا يكفي أن نكتب حتى يكون ما نكتبه مؤثراً . صفوف الكلمات بجوار بعضها بعضاً تعبر عن مستوى معين من الكلام، سأسميه المستوى الأول، مستوى تظل فيه هذه الصفوف جملة من خطاب مشترك عام، يشاركنا فيه المعجم بالطبع، ونتشارك فيه مع كل من ينطق لغتنا فقط، وسيكون نصيب أصحاب اللغات الأخرى منا سماع أصوات لا تختلف عن أصوات حفيف أوراق الشجر، أو ارتطام الأمواج بساحل البحر . نحن لا نكتفي من النص الإبداعي بمعرفة معنى الكلمة، كأن يقال لنا "هذه شجرة"، ولا نكتفي برنين الكلمات كما هو حال من يسمع أصوات لغة غير لغته . نحن نتطلع إلى مستوى آخر غير لغوي بالمعنى الحرفي، مستوى مضاف تقودنا إليه وسائل فنية أخرى، الصورة والحدث، أي المكان والزمان . يقودنا إليه تركيبٌ لا يخضع للتعداد الكمي، كأن نحسب عدد كلمات النص، تركيب لا يخضع لجدولة المعاني، بل تركيب جديد سنطلق عليه مستوى الكلام الثاني . ذلك الذي تنتقل فيه الكلمات من حالة "الجسيمات" إلى حالة " الموجات" فتتداخل مع ما يجاورها من كلام . *** في بحثنا هنا عن المستوى الثاني، أو الشعرية كما أعتقد، سنجد أنفسنا ذاهبين للبحث عما سمي قديماً "دلائل الإعجاز"، وفي العمق منها ذلك المفهوم الذي التبس على الكثيرين، أعني معنى المعنى . وللوصول إلى معنى المعنى لابد من تجاوز عتبة المستوى الأول للكلام . نحن الآن لا نتحدث عن معنى المعنى هذا الذي ذهب إليه الجرجاني وهو يتلمس طريقه إلى ما نسميه الآن المستوى الثاني للكلام، بل نتحدث عن شيء آخر ذي علاقة بما هو أوسع من لفظة "المعنى" . لم يصل إلى صديقي، حين رددتُ أمامه أسماء من عرفتُ في الماضي البعيد، إلا هذا الطرف، المعنى وظلاله في ذاكرته . وحتى لو تجاوزتُ المعنى الأول إلى ما بعده، كأن أضيف إلى أسماء من عرفتُ صفات أخرى من قبيل "الوقواق" أو "العقاب" أو "الوردة" فسيظل ما أقوله مفهوماً كمجاز أو استعارة، أو تشبيه، لاشيء أبعد من هذا . سيظل هنالك غائب كبير، وسيظل التركيب ناقصاً لأنني لم أصل إلى الكلية التي تغمرني حين أقول اسماً وأضيف إليه صفة . فنحن لا نلتقط الكلمات إلا لنفتح أمامها أفقاً أكثر جمالاً . أي أننا بتعبير الشاعر الجزائري "مالك حداد" "لا نصطاد الأسماك الناعمة إلا لنقدم لها مياهاً أعذب وأصفى" . أفكر بهذا الغائب الكبير، واكتشفه في تلك الكلية التي كانت في الماضي، وأشارت إليها مجرد إشارة أسماء من عرفت . هذه الأسماء جزء من شبكة مشاهد وأزمنة ومشاعر تثير فيّ أنا الشاعر القائل ما سيظل بعيداً عن المتلقي، سواء كان صديقاً أو قارئاً لا أعرفه، إن لم أقبض عليها بشبكتي، إن لم أصل بكلماتي إلى المستوى الثاني، ذلك الذي هو ليس "معنى" فقط، ولا مجرد مجاز أو استعارة أو تشبيه، بل هو عملية تحويل وتغيير للمستمع . أن يتحول المستمع مهما كانت وظيفته إلى شاعر أيضاً . هذا الانحراف أو "الانزياح" في المشهور من القول، هو ما ينقل كلامنا إلى المستوى الثاني، ويجعل السامع الذي يمتلك حداً أدنى من الحس بالكلام يقول مندهشاً حين يسمعه " هذا شعر!" . أي هو ليس من كلامنا الذي نألفه ونتبادل به البضائع والهدايا والتحيات المعتادة، وليس من كلامنا الذي نخبر به عن حدوث الوقائع، بل هو كلام مخصوص بغرض آخر لم يتسن لنا حتى الآن سبر أغواره . قيل في الشعرية هي أن ننطق عن صبابة، وقيل هي أن نمنح اللفظ طلاوة، وقيل هي أن نتمكن من طرائق القدماء، ولكننا نقول الآن هي أن نطلق عملية كيميائية يصير فيها الكلام شيئاً آخر، يصير موجة أو ضوءاً ويخرج عن كونه مجرد جسيمات تتلاصق أو تصطف أو تنتظم .