ارتفع القضاة المصريون بالمعركة الدائرة حول النصوص المقترحة لدستور البلاد الجديد إلى ذروتها بإعلانهم رفض ما أنجزته الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور من مسودات دستورية، وتهديد الجمعية العمومية الطارئة لناديهم قبل أيام بالامتناع عن الإشراف على الاستفتاء الشعبي على الدستور، وكذلك الامتناع عن الإشراف على أي انتخابات مقبلة في البلاد، وتعليق العمل في جميع محاكم الجمهورية، إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم بتعديل المواد المقترحة لباب السلطة القضائية في الدستور الجديد، التي اعتبر نادي القضاة أنها تخل باستقلال السلطة القضائية وتطيح أي ضمانات لتحقيق هذا الاستقلال . تهديدات القضاة صعّدت من حدة المعركة ضد الجمعية التأسيسية والدولة المصرية من جانب، وأشعلت معركة أخرى في داخل الصف القضائي من ناحية أخرى، حيث تصدى قضاة هيئة قضايا الدولة لتلك التهديدات باتهام قيادات نادي القضاة بممارسة ضغوط غير مقبولة على الجمعية التأسيسية للإبقاء على مكاسب يرى قضاة الهيئة أنها من بقايا النظام السابق، ويستفيد منها أشخاص بعينهم من بين القضاة من دون أن يعود ذلك بالإيجاب على مرفق العدالة في البلاد، فيما رد نادي القضاة باتهام الهيئة بأنها تسعى إلى فرض نفسها قسراً على باب السلطة القضائية . أما المعركة مع الدولة والجمعية التأسيسية فتبدت في تصريحات وزير العدل، المستشار أحمد مكي، التي أكد فيها أن الدستور سوف ينجز في الموعد المقرر له، وأن القضاة سيشرفون على الاستفتاء عليه، ولن يستجيبوا لتوصيات ناديهم، وهو ما اعتبره الأخير - نادي القضاة - تدخلاً من السلطة التنفيذية في شؤون الجمعية العمومية للقضاة، فيما اعتبر أعضاء بتأسيسية الدستور التهديدات محاولة للضغط على جمعية الدستور وفرض آراء وتوجهات بعينها عليها، وذهب بعضهم إلى القول إن الضمانات الموجودة في باب السلطة القضائية لم تكن موجودة في أي دستور مصري سابق، وعلى رأسها النص على أن يقوم مجلس القضاء الأعلى باختيار النائب العام ورئيس محكمة النقض، مشيرين إلى أن "القضاء إحدى سلطات الدولة الثلاث، وأنه منفذ للقوانين والتشريعات وليس خالقاً لها«، في حين أن اللجنة التأسيسية لجنة منشئة للصلاحيات ولا وصاية عليها من أحد . ويرى القضاة وبحسب تصريحات رئيس ناديهم، المستشار أحمد الزند أن ما توصلت إليه جمعية الدستور من مسودات للنصوص التي ينتظر الاستفتاء على إقرارها تمثل انتهاكاً للسلطة القضائية، وعصفاً بكل ضمانات استقلال القضاء التي تضمنتها الدساتير المصرية السابقة، وأن النص على تحديد مدة عمل النائب العام بفترة واحدة لمدة 4 سنوات تبدأ من تاريخ تعيينه في المنصب وتطبق بأثر رجعي يأتي في إطار ما يصفه الزند بالمؤامرة ضد النائب العام الحالي المستشار عبد المجيد محمود، رداً على موقفه الشهير في أزمة استبعاده من منصبه وتعيينه سفيراً لمصر في الفاتيكان ورفضه ذلك القرار وتأييد القضاة الواسع له في هذا الموقف، مشيراً إلى أن النصوص المقترحة تسلب النيابة العامة سلطتها في التحقيق وتقصرها فقط على الادعاء، فيما اتهم الزند الجمعية التأسيسية بتدبير مؤامرة لإحداث صراع بين القضاء والهيئات القضائية الأخرى، بوضع نص ينشئ النيابة المدنية، وإدراجها مع النيابة العامة والنيابة الإدارية . نصوص بديلة ويضع القضاة نصوصاً بديلة لما تم التوافق عليه في باب السلطة القضائية، حيث تقدم مجلس القضاء الأعلى ونادي القضاة بمذكرة للجمعية التأسيسية للدستور بنصوص مقترحة بشأن باب السلطة القضائية، تضمنت من بين ما تضمنت لزوم موافقة المجالس القضائية العليا على القوانين المزمع تعديلها بشأن السلطة القضائية بواسطة السلطة التشريعية، "وذلك حتى لا يترك شأن القضاء والقضاة لتتخبطه رياح أهواء التيارات السياسية بين التوافق والخصومة«، والنص كذلك على لزوم المساواة بين جميع الهيئات القضائية، حتى لا يفتح باب التمييز من دون موضع أو مقتضى، وأن يتم النص صراحة على سن تقاعد القضاة وهو 70 عاما، منعا لأي تدخل تشريعي، من الممكن أن يستهدف إقصاء أي من القضاة، ومنعا لإسباغ صفة المشروعية على عزل أي قاضٍ . المذكرة رأت أيضاً ضرورة النص على التزام الدولة بتأمين الحماية اللازمة للمحاكم والقضاة، وإعطاء النيابة العامة والعاملين فيها الحماية، وتوفير الظروف والأجواء الملائمة لمباشرتهم أعمالهم باستقلال تام من دون تدخل أو ضغط صادر عن أي جهة أو جماعة، وذلك تجنبًا لتكرار ما يجري حاليا من حصار للمحاكم والنيابات من قبل أشخاص أو أحزاب أو جماعات للضغط على القضاة، تحسبًا لصدور حكم يناقض مصلحتها أو لإصدار حكم يصادف أهواءها . وتدعو المذكرة إلى وضع نص يلزم جهات الدولة بتنفيذ جميع أحكام القضاء، التي تتوافر لها صفة الإلزامية، خاصة أن أهم ما تعانيه العدالة في مصر هو عدم تنفيذ العديد من الأحكام، فضلاً عن النص على وجوب تحصين الأحكام ومصدريها من التناول سواء بالقدح أو المدح في غير الأوساط العلمية، وعلى يد المتخصصين، كما أكدت ضرورة وضع تعريف وتحديد السلطة القضائية تعريفاً جامعاً مانعاً بعبارة السلطة القضائية، لتضم فقط القضاء الطبيعي ومحاكم مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا، وعدم تدخل أي سلطة أخرى في شؤون القضاء، وإقرار موازنة مستقلة للقضاء كافية تحدد من ميزانية الدولة وقابلة للتغيير كل عام، والنص على حصانة القاضي وعدم قابليته للعزل وكفايته ماديًا والمساواة بين القضاة، وعدم جواز إنشاء محكمة استثنائية تحت أي مسمى، وعدم جواز إعادة تشكيل مرفق القضاء، واستصدار قانون السلطة القضائية عقب الانتهاء من وضع الدستور الجديد . ويقترح القضاة النص على أن "النيابة العامة شعبة أصيلة من السلطة القضائية منوطة بها مباشرة التحقيق والادعاء في جميع الجرائم، فضلاً عن الاختصاصات الأخرى التي يبينها القانون، ولها دون غيرها أن تطلب من مجلس القضاء الأعلى ندب قاضي تحقيق متى رأت ضرورة لذلك«، وذلك في محاولة منهم لمنع ما يصفونه بمحاولة العدوان على دور النيابة العامة وإلحاقها بالسلطة التنفيذية . رفض واسع اعتراضات القضاة على النصوص الدستورية تجد دعماً كبيراً من قطاعات واسعة في المجتمع المصري، وهو ما تبدى في إعلان سياسيين ونشطاء تأييدهم لموقف القضاة، فضلاً عن تأكيد قانونيين وحقوقيين أن ما صدر عن الجمعية التأسيسية لوضع الدستور "لا يرتقي لمصاف النصوص الدستورية الحامية للحقوق والحريات«، فضلاً عن أنها تبتعد عن توفير حماية دستورية فعلية لكفالة حماية هذه الحقوق وضمان الممارسة العملية لها، مشيرين إلى أن العديد من هذه النصوص، ونتيجة للصياغة الفضفاضة لها، تفهم على أنها نصوص توجيهية، لا تلزم المشرع العادي بأن يفعل شيئا، الأمر الذي يجعل هذه الحقوق الواردة في هذه النصوص فارغة المضمون، مفتقرة لأي تدابير تشريعية أو قضائية أو إدارية لحمايتها وكفالة ممارستها، كاستخدام تعبيرات "مصونة"مكفولة"بديلاً عن التعبيرات ذات الصلة بحماية الحقوق واتخاذ تدابير لكفالة ممارستها، ما يتناقض مع مفهوم الوثيقة الدستورية التي تعني الإلزام لكل سلطات الدولة . ويؤكد هؤلاء أن الجمعية التأسيسية، وحين تعرضها لصياغة المواد والأحكام ذات الصلة بالسلطة القضائية عموما، وبالمحكمة الدستورية العليا على وجه الخصوص، لم تول المبادئ والمعايير والمواثيق الدولية ذات الصلة باستقلال القضاء أي اعتبار، فجاءت صياغة المواد والأحكام المنظمة للسلطة القضائية فارغة من الضوابط والمعايير الضامنة والحامية لاستقلال القضاء، حيث تعصف نصوص المسودة ذات الصلة بالمحكمة الدستورية العليا بوجود وحدود دور المحكمة، وتجعل لرئيس الجمهورية الحق في تعيين رئيسها وأعضائها، على خلاف ما كان يجرى من اختصاص الجمعية العمومية للمحكمة بتعيين أعضائها . ويلفت حقوقيون إلى أن ربط ممارسة الحقوق والحريات المنصوص عليها في الباب الثاني من مسودة الدستور، بعدم تعارضها مع الأحكام الأساسية للدولة والمجتمع الواردة في الدستور، وهي أحكام وردت في الباب الأول ويصفها قانونيون بأنها إنشائية وفضفاضة، أن كل ذلك يمثل تهديداً خطراً لكل الحقوق والحريات يتمثل في ترك سلطة تقديرية واسعة للمشرع العادي لفرض قيود على ممارسة الحقوق والحريات العامة وتضييق نطاق ممارسة هذه الحقوق . كما يرون أن نصوص الدستور تحمل الكثير من المتناقضات حتى في داخل المادة الواحدة في أكثر من موقع، فتنص المادة 50 على سبيل المثال على حرية إنشاء النقابات المهنية، ثم يأتي عجز المادة ليقرر أنه لا تنشأ سوى نقابة مهنية واحدة لكل مهنة . ويقول حقوقيون: إن كثيرا من مواد الدستور تتصدى بشكل مبرر للعديد من الأحكام التي لا ترتقي لمصاف النصوص الدستورية، ولا حتى التشريعات العادية، وإن كانت من حيث صياغتها وأحكامها تتشابه إلى حد كبير مع اللوائح التنفيذية للقوانين والتشريعات العادية، ومن ذلك على سبيل المثال تناول مشاركة المواطنين في الحياة العامة، بتفصيلات لا تتناسب مع الصياغة الفنية للنصوص الدستورية، والتي محلها اللوائح التنفيذية للتشريعات والقوانين العادية، فضلا عن التصدي لإشكاليات مرحلية تواجهها الحكومة، كالقضاء على الأمية، فيما تنتقد منظمات تجاهل مسودة الدستور وضع نصوص وأحكام تشير إلى تجريم الجرائم ضد الإنسانية وعدم تقادمها، وهي الجرائم التي قد ترتكبها الأنظمة ذاتها بحق شعوبها، إضافة إلى تجاهل مسودة الدستور لاحترام المواثيق والتعهدات ذات الصلة بحماية حقوق الإنسان، وتجاهل وضعيتها في سلم الهرم التشريعي الداخلي . ويرصد مركز استقلال القضاء والمحاماة تبني مسودة الدستور نفس الفلسفة والنهج لدستور 1971 من حيث تفويض المشرع العادي تفويضا كاملاً غير مشروط، لتنظيم ممارسة الكثير من الحقوق عبر استخدام عبارات "وفقا لأحكام القانون، وفي الأحوال المبينة في القانون، وفي حدود القانون . . وغيرها"بما يحمل تهديداً للحقوق والحريات العامة الواردة في صلب النصوص الدستورية، ويتيح للمشرع العادي فرض العديد من القيود على ممارسة الحقوق المكفولة بنصوص دستورية، في حين أنه يفترض في الوثيقة الدستورية أنها تقيد المشرع القانوني بالتأكيد على حرمة الحقوق والحريات وعدم انتهاكها أو تقييدها بغير مبرر، ما يعتبره المركز تنازلا من الدستور في هذه المسودة عن موقعه في الهرم التشريعي كأب للقوانين وارتفاعا بالتشريع العادي ليعلو على النص الدستوري بما يخالف مبدأ سمو النصوص الدستورية في سلم الهرم التشريعي . سلق الدستور الرفض القضائي لمسودات الدستور يعطي ثقلاً كبيراً لمحاولات التصدي لإقرار ما توصلت إليه الجمعية التأسيسية، وهو ما تزامن مع تهديد ثلاثين من أعضاء التأسيسية بالانسحاب منها احتجاجاً على ما وصفوه بمحاولة "سلق"النصوص الدستورية، وتحديد مدة قصيرة للغاية لمناقشتها جميعها، في حين يرى هؤلاء أن تلك المدة لا تكفي لمناقشة نص واحد منها، وفضلاً عن رفض القوى السلفية للدستور المقترح لعدم نصه على تطبيق الشريعة وإلزام جميع نصوصه بعدم مخالفتها، فإن الاعتراضات على النصوص المقترحة للدستور الجديد تمتد أيضاً إلى مختلف القوى والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، حيث تحذر الأحزاب والقوى السياسية من أن وضع نصوص تسند إلى الدولة والمجتمع حماية تطبيق مبادئ الشريعة من شأنه أن يفتح الباب أمام القوى الإسلامية للتدخل في شؤون المصريين، فضلاً عن أنها تعترض على عدم وجود رؤية واضحة لنظام الحكم، خاصة أن نصوص ما طرح من مسودات تسير باتجاه نظام شبه رئاسي، وتدعو القوى السياسية إلى النص على أن تكون تسمية رئيس الحكومة من داخل مجلس الشعب "البرلمان"وليس في مؤسسة الرئاسة، وأن تكون الذمة المالية لرئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان شاملة زوجاتهم وأبناءهم، منعاً لأي تلاعب تقرير الذمة المالية . كما أن هناك اعتراضاً واضحاً للجماعة الصحفية والمنظمات الحقوقية على النصوص المتعلقة بالإعلام والصحافة وانتقادهم خلو المواد المقترحة للدستور من نصوص تحمي الصحفيين من الحبس في جرائم النشر، فضلاً عن أن بعض هذه النصوص تترك الباب مفتوحاً أمام إغلاق الصحف بقرارات إدارية، وتتيح استمرار هيمنة الدولة على شؤون الصحافة باستبدال سيطرة مجلس الشورى "الغرفة الثانية للبرلمان"عليها بهيئة لإدارة شؤون الصحافة والإعلام بنفس الاختصاصات الممنوحة حاليا للشورى تجاه الصحف المملوكة للدولة . حالة الرفض الواسعة هذه يرى كثيرون أنها تستدعي تدخلا من قبل رئيس الجمهورية، الدكتور محمد مرسي، يتجاوز محاولات جماعة الإخوان المسلمين ذات الأغلبية في تشكيل الجمعية التأسيسية الحالية، لإقرار ما تم التوصل إليه من نصوص قبل انتهاء المدة القانونية لعمل الجمعية في الشهر المقبل وحلول موعد تحديد مصيرها أمام المحكمة الدستورية العليا، سواء بإقرار استمرارها أو الحكم بإلغائها .