"أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي" قول مأثور ومعروف وقد كان لسان حال السودانيين وهم يستقبلون بحفاوة ظاهرة وسعادة غامرة الرئيس المصري محمد مرسي الخميس الماضي وهو يقوم بأول زيارة له للخرطوم بعد انتخابه رئيساً لمصر.. القاعدة الفكرية التي تربط بين الحزبين الحاكمين في الخرطوموالقاهرة، جعلت كثيرا من السودانيين يظنون أن عجلة العلاقات بين البلدين ستدور بسرعة فائقة في اتجاه التمتين، بيد أن الأمر على أرض الواقع ربما بدا أقل من سقف التوقعات بكثير.. إما أن حزب الحرية والعدالة قد انشغل كثيراً بمعاركه الداخلية المتعددة الجبهات؛ أو أن الحزب قصد التريث وتقليل سرعة العجلة عمداً حتى يبتعد إلى حين من دائرة اتهام الإسلام السياسي التي تجعله في مرمى غضب إقليمي ودولي فضلاً عن تربص المعارضة في الداخل التي تتفق مع الفلول في (مكافحة) الإسلام السياسي. عدة ألغام وقضايا معلقة تتوسد طريق علاقات البلدين التي ينتظر منها أن تضع على أقل تقدير آليات لكسر الجمود؛ فالسودان عاتب على بطء القاهرة في تنفيذ جوانب مهمة من اتفاقية الحريات الأربع.. والخرطوم تقول إن الحريات الأربع ممنوحة اليوم للمواطن المصري في السودان بينما هي منقوصة للمواطن السوداني في مصر.. حلايب واحدة من القضايا المعلقة وإن كانت الخرطوم تعرض على القاهرة وضع الملف في ثلاجة الانتظار إلى حين ميسرة.. كذلك فإن الخرطوم غاضبة على استقبال القاهرة وفوداً من الحركات الدارفورية المسلحة مؤخراً فضلا عن نشاطها العلني.. واحدة من الطلبات المهمة واللافتة لمرسي قبل الزيارة بأن يلتقي كلا من حسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي المعارض والصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي، أما لقاء الأخير فلا اعتراض عليه من جانب الخرطوم، لكن الأول (الترابي) فإن للخرطوم حساسية مفرطة تجاهه.. أحد قادة حزب الترابي، ذكر أن مرسي قال له حين التقاه ضمن وفد رفيع من الحزب زار القاهرة مهنئاً، إنه لا يعرف غير حسن البنا وحسن الترابي.. إن صح ما نقله ذلك القيادي فإنه يحمل عدة دلالات منها أن القيادة الإخوانية في مصر تتعاطف مع حسن الترابي الذي اختلف مع الرئيس عمر البشير في العام 1999م في مفاصلة شهيرة بين الإسلاميين في السودان، أكثر مما أنها تتعاطف مع الشق الآخر المتمثل في حزب المؤتمر الوطني برئاسة الرئيس عمر البشير وهذا مربط حساسية حزب المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس البشير. لقد سبقت زيارة مرسي زيارة محمد سعد الكتاتني رئيس حزب العدالة والحرية الذي ينتمي له الرئيس مرسي إلى السودان أول مارس الماضي، وسبقت زيارة الكتاتني زيارة محمد بديع عبدالمجيد سامي المراقب العام لجماعة الأخوان المسلمين التي يعتبر حزب العدالة والحرية ذراعها السياسية، حيث شارك في نوفمبر الماضي في المؤتمر العام الثامن للحركة الإسلامية السودانية.. إذن فزيارة مرسي سبقتها زيارات استكشافية أو شئت سمها (تصبيرية) مما يشير إلى تمهل القاهرة في مقابل تعجل الخرطوم ولكل أسبابه ومبرراته.. المنطق يقول إن ليس لمصر في ظل القيادة الإخوانية مصلحة في أي جمود مع الخرطوم بل إن مصالحها الاستراتيجية الكبرى تستعصم بأرض السودان؛ مصالح تتعلق بالأمن القومي المصري بمفهومه الشامل، عسكرياً واقتصادياً، فالحلول الناجعة لمشكلات مصر تكمن في علاقات قوية مع السودان، وربما كان الذي نقل عن مرسي قد جاء في سياق عاطفي تغلب عليه المجاملة، ولكن المصالح السياسية لا تعرف المجاملة ولا تنحني للعاطفة. كلا الدولتين (مصر والسودان) تواجهان في ظل النظامين الإسلاميين ممانعة دولية وإقليمية وإن كانت تبدو خجولة في حق مصر باعتبار أن الإسلاميين فيها جاءوا عبر صناديق الاقتراع؛ لكنها حق السودان تبدو سافرة وعنيفة في كثير من الأحيان ليس لأن الرئيس البشير جاء عبر انقلاب عسكري فحسب ولكن النظام في الخرطوم يعاني كذلك ضعفاً وعدم استقرار بسبب الاضطرابات السياسية في ولايات النيل الأزرق وجنوب كردفان.. دولياً فإن الولاياتالمتحدة تقود المعارضة ضد (الإسلام السياسي) تحت مزاعم محاربة الإرهاب الدولي، إقليمياً فإن إفريقيا بشكل عام تتوجس من الإسلام السياسي والثقافة العربية الإسلامية ونذكر هنا أن رئيس دولة الجنوب سلفا كير ميارديت وقف مستغيثاً عقب آخر اشتباك عسكري مع جارته في الشمال مخاطباً إفريقيا قائلاً إنه يحتاج للدعم لأنه يواجه الإسلام والعروبة القادمين من جهة الخرطوم وربما وراء الخرطوم (القاهرة). على الإسلاميين في الخرطوموالقاهرة الدفاع عن الإسلام بطريقة متجددة، وبناء شبكة قوية من التنسيق بينهما وبين ثورات الربيع العربي.. عليهما نشر المفاهيم الوسطية وتحجيم ظاهرة التطرف والغلو. وليعلما أن إنعاش اقتصاديهما مدخلا مهماً للاستقرار وتبادل المنافع وهو أمر تزداد أهميته مقابل الشحن الروحي والحماسة الفكرية.