يعبر الفنانان اليابانيان (شوتوكاتو) وراهب ديانة الزن الفنان ميوا عن القفزة النوعية أو لنقل النقلة النوعية في الفن الياباني المعاصر، اذ تركا الاتجاهات التقليدية المسيطرة، وأقاما جسور التواصل التعبيري بين فنون الحداثة الأوروبية والعالمية من جهة، والفنون التقليدية اليابانية من جهة أخرى . واذا أردنا أن نختصر الأمور بشيء من الشفافية، فإننا نستطيع أن نقول، إنهما شكلا النقلة ما بين فنون البعدين التي تحيل إلى أحادية اللون في الغالب، وبين فنون عصر التعبيرية الباحث عن مخارج تستند إلى ركيزتين أساسيتين هما الضربة الوحشية عبر كثافة اللون، والحرية التعبيرية الباطنية في التكوين العام للتأليف . لكن ناقداً يابانياً كبيراً بمستوى يوشي يوشيدا يشير في الغالب إلى ذلك التيار الياباني المعاصر الذي تطور وتجوهر على أيدي عدد من الفنانين اليابانيين المزدوجي الجنسية . إنهم أبناء الرعيل الياباني السابع الذي هاجر إلى أمريكا منذ أوائل القرن التاسع عشر . وهم الذين عاشوا ويلات الحرب العالمية الثانية . عندما صنفتهم السلطات الأمريكية كأعداء مشبوهين . لأن عرقهم الياباني يدينهم بهذه التهمة . لكنهم في الواقع كانوا أكثر إخلاصاً لأمريكا من العديد من أولئك الذين وصلوا إليها ليسهموا في تعميم الفوضى، أو تشكيل العصابات العنصرية . لقد أثر العديد من الفنانين اليابانيين الذين رجعوا إلى وطنهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، على واقع الحركة الفنية في اليابان . وقد برزت تأثيراتها في منتصف الستينات من القرن الماضي، حين ركزت صحيفة "أساهي شمبو" التي تصدر بطبعتين صباحية ومسائية، على العديد من الفنانين التشكليين والمهندسين البارعين الذي اشتغلوا على موضوع الهندسة الفراغية . إضافة إلى أولئك المهندسين الخبراء في الجسور والطرق، والأبنية المقاومة للزلازل . وفي بادرة من الصحيفة والمتحف الوطني الذي خصص ذلك العالم للمرأة اليابانية المبدعة، تم اختيار فنانة اليابان التشكيلية الكبيرة تسوكو ميجيشي التي اعتبرت المؤسسة الأهم للتعبيرية اليابانية المعاصرة . لاسيما أنها عاشت استقلالها الذاتي، والإبداعي منذ أن أدركت بأن عليها أن تتجه صوب العالم الآخر . فهي المولودة في العام 1905 والتي بدأت تعرض أعمالها باكراً، ضمن ما أطلق عليه النقاد اليابانيون اسم الموجة الغربية في الفن الياباني المعاصر . لذلك يتحدث الناقد ومؤرخ الفن الياباني هيديوتاكومي عن إمرأة ذات كيان فني خارق . ليس لأنها تناولت الثقافة الغربية . وطوعت خطها الفني التشكيلي وفقاً لمساره، بل لأنها، أكدت تقليداً يابانياً بدأ منذ عام ،1856 حيث كانت الابتكارات الغربية يعاد تصنيعها في اليابان . ثم يجري تحسينها لدرجة أنه كان يعاد تصديرها إلى الغرب ثانية . كذلك العمل الفني الذي نفذته هذه الفنانة انطلاقاً من وعيها بضرورة تجاوز المسافة بين الحداثتين اليابانية والغربية . لقد كان ذلك قبل أكثر من ستين عاماً، ففي العام 1950 عندما تم اختيار ميجيشي لتمثل اليابان في بينالي (سان باولو) في البرازيل . ثم عندما عرضت في صالون الخريف في باريس . تأكد أنها خرجت من بلدها اليابان بلا مظلة يابانية تقليدية، ومن دون أن ترتدي "الكمونو" بل سافرت إلى الغرب لتضاهيه بآخر هواجسه، وهي اللغة التعبيرية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية . وأدخلت أوروبا في اجتهادات عديدة، بعضها ذهب صوب السوريالية . والبعض الآخر صوب التجريدية، وفي أمريكا صوب فنون "البوب"، في ما بلاد السوفييت آنذاك اخترعت لذاتها الواقعية الاشتراكية وهي تأسيس على ما أسسه الفنان الروسي الكبير سوريكوف من واقعية متوازنة . ولكن الذي أنضج لوحة هذه الفنانة نضجاً خاصاً، هو تحولها إلى فنانة سائحة، جابت أوروبا كلها . ورسمت في أغلب الأماكن، من شمال إسبانيا، إلى جبال الألب السويسرية، إلى فينيسيا، إلى جنوبفرنسا وباريس . إن النصوص التي كتبها المحلّل والناقد الياباني المعروف ياسوتو اوتا عن الفنانة وفنها، حيث يؤكد أنها ولدت في مدينة بيسايشي وهي تبعد ساعات عدة عن طوكيو، ثم ابتداء من العام 1920 بدأت تدرس الفن . فرسمت مقلدة الفنانين اليابانيين الأساتذة فكانت لوحاتها المستمدة من واقع الحياة اليومية للمرأة اليابانية داخل المنزل، وقد استمر هذا الايقاع التأليفي من العام 1940 حتى العام 1948 . في العام 1950 بدأ التحول . عندما بدأت ترسم لوحة الحياة الساكنة بأسلوب شبه انطباعي، ولكن يغلب عليه الطابع التعبيري المباشر . ويبدو أن فترة الخمسينات المفعمة بالسياحة في الغرب وأمريكا، فتحت عيونها على الاتجاهات التجريدية الحديثة . لذلك نراها عبر لوحتها "العصافير الطائرة" عام 1962 تقدم صياغة خلاقة جديدة للموضوع التجريدي الذي يذهب إلى المدى الإشاري للموضع الذي يندمج فيه البناء التجريدي بالاتجاه "الإقلالي"، علماً أن الفنانة سبق لها في العام 1954 أن أنجزت مجموعة تكعيبية ترتكز على موضوع الأسطورة . لقد تطور أسلوبها التجريدي مع نهاية الستينات . ونضجت تجربتها الجريئة نضوجاً مذهلاً . حتى إنها حين عرضت في باريس مجموعتها المرتكزة على فكرة الجدار والكتابات العفوية المتروكة عليه . اندهش النقاد بما قدمته، واعتبروها إحدى رائدات الحداثة . ولكن هذه الفنانة الكبيرة، كانت أيضاً رسّامة نص انشائي فكري . فالعنوان يتقدم على اللوحة، حتى لكأن لوحتها رسمت لكي تمثل العنوان تمثيلاً كاملاً . فالحالة الإنشائية هذه هي حالة عقلية حتماً، وهي تقوم على معادلة قوامها التوازن الافتراضي بين النصين التصويري والبلاغي . لقد عاشت الفنانة "سيتسوكو ميجيشي" عمراً مديداً، امتاز بأنه الزمان الفني الذي خلدت الفنانة فيه ذاتها . لذلك فهي احدى المبدعات الكبيرات في الفن المعاصر وليس في الفن الياباني وحده .