عالم الفنانة ليلى كبة كعوش التشكيلي ليس بسيطاً، أو سهلاً، لأنه يمتلك قدراً من الكثافة الذاتية، والقدرة على التحرك والتحول، بحيث يضطر المتابع أو الناقد لأن يتعامل مع الفنانة وفنّها انطلاقاً من سيرتها الأساسية، التي أوصلتها حتى حدود الاندماج في الحالة التجريدية التي هي في الأساس بحث لعالم ما وراء الصورة العيانية، وصولاً إلى مفاهيم عقلية لمضمون العمل المستند إلى تعبيرية لا نعرف حدوداً لحركتها الشمولية . ولدت هذه الفنانة في العراق في عام ،1945 والدها المهندس فخري كبة من أوائل مهندسي البترول في العراق، أما والدتها فهي أمريكية من أصول سويسرية . درست ليلى في بغداد، وسافرت في السادسة عشرة إلى إنجلترا لدراسة الفن، وتخرجت لتمارس الرسم والتشكيل في العراق، خلال مرحلة ما بعد منتصف الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي . بعد ذلك غادرت إلى الخليج العربي . فعاشت عوالم دولة الإمارات وقدمت أعمالاً أساسية عن الموروث الإماراتي . لكن تكويناتها التكعيبية الطابع، التي غلفت الصحراء وموجوداتها، من البداوة إلى الخيمة فالجِمال والبشر . بقيت علامة فارقة على حضورها المميز بين رسامي زمن السبعينات العراقي، الذي كان يتأثر بكل ما تقع عليه العين . لقد رصدت هذه الرسامة كل ما يحيط بها، حتى غدا فهمها للرموز المحلية منبثقاً من المفاهيم التأريخية والأسطورية للماضي . حيث استحالت اللغة التعبيرية هنا، إلى نصّ تفسيري وأساسي لكل ما يمكن أن تحمّله الفنانة للنصّ من محتوى موضوعي . التعبيرية في الفن تحتاج إلى الموضوع، بل إنها تنهض عليه، وتتأسس وفقه، فلا غرابة أن يبدو تناولها للموروث الرافديني منطلقاً تتأسس عليه صورة مستقبلية بالغة العمق والتعقيد . الأمر ذاته بالنسبة للموروث اليوناني، فعندما عاشت في اليونان وبدأت تنتج هناك مرحلتها الأساسية التي أسمتها "انبلاجات فجر وابتهالات"، فإن اللوحة انطلقت من مفهوم مغاير لمعنى المكان، وأثره في التحولات الفكرية، وبخاصة بالنسبة لتحولات آلهة جبل "أولمبس" المتعددة المهمات والأنواع . لكن حتى التجريد اليوناني الموضوع عبر التعبير، أوصل ليلى إلى التجريد الشرقي، في محاولة للربط ما بين أواصر الفكر اللاهوتي شرقاً وغرباً . إن لوحة "أفروديت" آلهة الجمال اليونانية وهي بحجم 76*56 سنتيمتراً ومنفذة بمادة الأكريلك مع كولاج ستبدو إشارة أولية للربط بين النص التجريدي الحرّ والنص شبه التصويري . وذلك بغية الوصول إلى حالة إفصاحية جديدة تخاطب من خلالها المتلقي الشرقي، كما المتلقي الغربي . بينما في لوحتها التي حملت اسم نصوص روحية وهي بحجم 76*56 سنتيمتراً، ومنفذة بمادة الإكريلك والكولاج . سنجد أن نصوصاً سابقة الطباعة قد ألصقت بشكل أنيق لكي تسيطر على المسطح المتكون تجريدياً، وهنا تستغل اللوحة المساحة كاملة حيث تتألق النصوص الخطية العربية عبر أجود الخطوط الكوفي والأندلسي والديواني والرقعة إضافة إلى الصور (الواسطية) . هذه الاتجاهات التجريدية الفعالة، لم تبعدنا عن فن تعبيري مكاني اشتغلت عليه الفنانة، حين رصدت بكل حنين وشغف بيوت بغداد القديمة . وربما ذهبت إلى دواخل تلك البيوت أيضاً طارحة صورة المرأة البغدادية المحصّنة ضمن منزلها الأليف . أمّا تحوّل الضربات التي تشير إلى المنازل، إلى تكوين تكعيبي شامل، فإن الفنانة، تدرك، بأن التطور الطبيعي للاتجاهات التعبيرية هو الذهاب صوب التجريد، لأن البحث في ما وراء الصورة، هو حالة استجلاء لجوهر الصورة المطلوبة نفسياً وضميرياً . ليلى كبة كعوش فنانة لا تصف، بل تكشف عن الصورة المخفية، وهي أيضاً تطرح في كل ما ترسمه المزيد من الأسئلة، لأنها تدرك بأن عملية الوصول إلى اليقين الإبداعي لا تمر بحقل من الأجوبة الجاهزة، بل تأتي مع سيل من الأسئلة التي تبحث عن الجواب عبر طوفان القلق الخلاق . وبما أن الفنانة عاشت مدناً عربية كثيرة، من بغداد، إلى عمان، إلى دبي، إلى الشارقة، إلى الضفة الغربية، فإنها قررت أن تتفاعل مع هذه المدن . فرسمت في لوحة كبيرة بمواد مختلفة وبحجم 90*76 مدينة عمان الأردنية . إذ تكشف اللوحة عن منظور بانورامي متحرك يسقط مباشرة على وسط العاصمة، أي جامع الحسين . وهنا سنذهب صوب المحتوى التأليفي للمدينة . لنكشف أنها متماسكة وصلبة وأصيلة . وذلك بفعل القوة اللونية التي منحتها الفنانة للمدينة . أما البيت البيروتي القديم مع النخلة، فإن الفنانة رسمته بقدر هائل من الرومانسية اللونية . إنها تواصلت مع المدن انطلاقاً من مشاعرها الجياشة .