البروفة الأخيرة تبدو الذكرى أقرب من طرف الإصبع، فقد مرت خمس سنوات على انتفاضة 6 (نيسان) أبريل 2008 في مصر، واليوم يتجدد النداء ذاته، ويتواصل السياق نفسه، وكأننا يا ثورة لا رحنا ولا جئنا، وكأننا في زمن البروفة الأخيرة لا نزال . عقب انتفاضة 6 أبريل 2008، قلت انها البروفة الأخيرة للثورة المصرية، وقلت انتظروا مصر الجديدة بعد 6 أبريل، لم تكن النبوءة معلقة في فراغ، ولا محض أمنيات تزجى على رجاء القيامة المصرية، فقد كنت أتحسس نبض مصر، وأنظر في ساعتها، وقبل حدث الإضراب بما يزيد على السنة، كتبت جازما عنوانا في 4 اذار (مارس) 2007، كان نصه بالحرف 'سقوط مبارك في ميدان التحرير'، وبدا 6 أبريل 2008 كأنه البشير والنذير باليوم الموعود في 25 يناير 2011، فقد كان اللحظة التي اجتمع فيها الغضب السياسي بالغضب الاجتماعي، وتماما كما يعاود الغضبان اجتماعهما الآن في سياق الثورة المغدورة نفسها، وإن في ظروف تبدو مختلفة في تفاصيلها، ومتطابقة في مغزاها الجامع . كان يوم 6 أبريل 2008 منذرا في القاهرة، عواصف ترابية تملأ سماء العاصمة، والشوارع خالية إلا من قليل، كان الناس على موجة 'خليك في البيت' شعار اليوم، وكان العسكر السود عند كل ناصية وفي كل ميدان، وكان رجال ونساء وشبان وشابات يسعون وحدهم في الأرض، يطاردهم عسكر الأمن المركزي في كل مكان، ويضربونهم بقسوة، ويعتقلونهم بالعشرات، وكنت مع مئات من قادة كفاية المتحدين للبطش على سلالم نقابة المحامين، وعلى حافة نهر شارع رمسيس، وكان المشهد 'الكفائي' ذاته متكررا في عواصم الثورة الكبرى، في الإسكندرية ودمنهور والمنصورة والسويس، وفي غيرها، كان المشهد أقرب إلى دائرة نار، وكان مركز الدائرة في 'المحلة' التي جاء منها الخبر عند انتصاف النهار، بدا الخبر كئيبا موحشا لأول وهلة، فقد فشل إضراب عمال مصنع المحلة الكبرى، وهو أكبر مصانع مصر الباقية بعد حملة التجريف والإفناء لقلاع الانتاج، وخصخصة و'مصمصة' موارد الثروة والتقدم، نزل علينا الخبر كصاعقة ترابية، وبدت العيون شاردة دامعة ومتربة، وما هي إلا لحظات، حتى طلعت الشمس من حيث لم نحتسب، كانت الخطة التي تصورناها مسبقا تبدو بسيطة، فقد قرر عمال مصنع المحلة الكبرى تنفيذ إضراب صباح اليوم الموعود، وكان دور الناشطين السياسيين هو تأييد الإضراب، وتكوين سلاسل احتجاج بشرية خارج مصنع المحلة، وفي المدن الكبرى، ومع دعوة الموظفين للبقاء في البيت، ولقيت الدعوة مددا هائلا من شباب على 'الفيس بوك'، الذين كونوا في ما بعد جماعة 'شباب 6 أبريل'، ولم يكن لجماعة مبارك إلا أن تتصرف كما اعتادت بقبضتها الأمنية الثقيلة، التي راحت تركز على مطاردة الناشطين السياسيين من جهة، وعلى احتلال مصنع المحلة الكبرى لمنع أي إضراب، وبدا أنها نجحت في قمع ووأد الإضراب العمالي، لكن المفاجأة الكبرى تفجرت خارج أسوار المصنع، فقد أدى الوجود الأمني المكثف إلى استفزاز أهالي مدينة 'المحلة' البطلة، وأشعلت انتفاضة عارمة لم تكن في حسبان النظام، ولا في تخطيطنا، كانت المفاجأة مفرحة ومذهلة، فقد جاء الشعب الذي كنا ننتظره لأربع سنوات خلت قبلها من عمر 'كفاية'، ودارت معارك إسقاط النظام في المحلة، بدت حشود النظام الأمنية في حالة ذعر، واقتلعت الجماهير صور مبارك المجسمة على قوائم حديدية، وداست بأحذيتها صورة الديكتاتور، ودارت الصدامات سجالا لثلاثة أيام توالت بعد 6 أبريل 2008، وزادت الحماسة في قلوب رجال ونساء وشباب وشابات حركة 'كفاية'، كان الكل على موعد صاغته الأقدار، وتوالى سقوط الشهداء الأوائل من فرسان المحلة، واعتقلت قوات النظام الأمني مئات تلو المئات من أهالي المحلة وثوارها التلقائيين، وامتلأ سجنا 'برج العرب' بالقرب من الاسكندرية و'المرج' في ضواحي القاهرة، كان نحو المئة من قادة كفاية قد جرى اعتقالهم مع ثوار المحلة، ومعهم شبان وشابات النواة الأولى لحركة 'شباب 6 أبريل' التي أعلن عن تأسيسها في ما بعد . بدت القصة أبعد من احتجاج عابر، وبدت كمحاولة حقيقية جسورة لخلع مبارك، واستنادا إلى قوة الناس التي بدت عارمة في المحلة بالذات، بدا درس 6 أبريل ملهما وموحيا ومؤثرا، صحيح أن النظام تصور أنه نجا، وزاد من تشديد قبضته الأمنية، ونصب المحاكمات، وواصل التنكيل بالقادة، لكن روحا جديدة كانت تسري، فقد دلت انتفاضة المحلة الكبرى على أن إسقاط النظام صار ممكنا، ومن دون طلب عون من أحد غير الله والشعب، كانت 'كفاية' قد دعت قبلها إلى مقاطعة انتخابات للمحليات جرت أوائل أبريل 2008، التي شاركت بها جماعة الإخوان وأحزاب السياسة التقليدية الركيكة، ودعت 'كفاية' في المقابل إلى اجتماعات توالت في مارس 2008، والتقطت دعوة لقادة عماليين إلى إضراب في مصنع المحلة، ورغبت في تحويلها إلى تمرد سياسي واجتماعي، وكانت غالبية الاجتماعات تتم في مقر 'حزب الكرامة' الذي أسسه حمدين صباحي، وفي اجتماع وحيد حضر د. سعد الكتاتني ممثلا لجماعة الإخوان، وعرضنا عليه الأمر، ولم يرد سوى بهمهمات غير مفهومة، ثم كان قرار قيادة الإخوان برفض المشاركة في حدث 6 أبريل، فقد كانوا مفزوعين من كلمة 'خلع مبارك'، ومن دعوة 'الإضراب العام' التي كانت عنوانا لحملة شباب 'الفيس بوك'، بينما كانت بيانات 'كفاية' تحمل عنوانا قريبا هو 'يوم الغضب العام'، ولم يكن الإخوان على استعداد لمشاركة في إضراب ولا في غضب، ولا في أي تحرك بالشارع يأتي على سيرة مبارك، وكان ذلك درسا مضافا لخبرة الثورة المصرية المتصلة فصولها إلى الآن، فقد وقفت قيادة الإخوان ضد انتفاضة 6 أبريل 2008، وتماما كما رفضوا المشاركة في أي دعوة ليوم 25 يناير 2011، ورفضوا النص في بيان كتبته بخط يدي على 'منع مبارك ونجله من الترشح لفترة رئاسية جديدة'، وحين اندلعت الثورة بدونهم، وبدت فرص نجاحها دانية، انضموا إلى حركة الميادين، ثم كان ما كان من ذهاب مبارك ومجيء الإخوان، وتجدد الدعوة إلى ثورة جديدة تتوالى بروفاتها الآن، وعلى طريقة 6 أبريل . ' كاتب مصري