تأسرك الصباحات المشرقة، فتنطلق في كل يوم مستبشراً بتحقيق حلم جديد، تسابق له ثقل قدميك وجهل بشريتك لمستقبل مجهول، تنطلق حاملاً في حقائب اللهاث مبادئك وقناعتك وكومة أوجاعك محاولاً التعايش بها مع جديد كل شمس، لأن الأمل يغمرك، ولأن الحياة متجددة دائماً. ولكن قد تمر بك بعض اللحظات التي تجعلك عاجزاً عن المضيّ، فتتوقف واجماً في حقيقة الحياة وبعض البشر فيها، ولا تعرف لماذا أصبت بالمفاجأة، هل كان الألم أكبر من أن تستمر أو أنك كنت تحتاج إلى صفعة التوقف لمراجعة حساباتك مع ذاتك ومحاولة إعادة برمجتها مرة أخرى بشكل يتناسب مع الواقع، وأنت مقتنع هذه المرة أن ليس كل صباح مشرقا وليس كل مبتسمٍ جميلا. أن تتصرف بعفوية دون أن تنتبه إلى أن بساطتك قد تؤذيك مع نفسك أو مع غيرك لا يعني أنك مثالي فقط، فقد تكون صادقاً وشفافاً، ولكنك لست ذكياً بما يكفي لتتفادي اللسعات، وتنأى بنفسك عن الجروح، فأنت معرض دائماً لأي نوع من الاهتزازات طالما أنك لا تقيّم سلوكك الأبيض في كل مرة تحتاج إلى هذا، حتى تكتشف أن التناقض هو شيء بديهي وطبيعي وعليك أن تتماشى معه. على ذات باب التناقض تقف الأرواح مصطفة بانتظار لحظة الدخول ولحظة الخروج، على ذات الباب تُكسر الأوهام وتفقد الحقائق بريقها ويبقى الشعور الأوحد بالخوف يحاصر القادمين والمغادرين، تناقض كبير على ذات الشراشف البيضاء.. التي تقبل عليها الحياة وتنتهي، أي بياض هذا قادر على فضح أكبر التناقضات وأكثرها تفاهة. تأتي ناس وتموت ناس.. تضحك وجوه وتبكي وجوه أخرى، على ذات الكف تصفعك الحياة لتعيش النقيضين بين البكاء والرقص، بين التحليق والدهس، بين البياض والتراب، بين أن تبدأ وأن تنتهي من ذات اللحظة، وتكتشف فيها أن الحياة أحقر مما كنت تتوقع أو تتحمس لها! يبدو مقالي كئيباً من كآبة اكتشافي المتأخر.. تخيل معي أنك تجلس على جبل شاهق تطلق للريح قدميك وأفكارك وتأملاتك، عيناك تتبع تفاصيل الحياة من تحتك، أكوام من البشر تسير وتسير بلا توقف! تتصادم، تتقاتل، تأكل، تتزوج، تسرق، تكذب، تضيع، تهلك، تمرض، تموت ويأتي غيرها ببساطة وكأن غيابهم لا يعني شيئا. تخيل أنك تحمل في يدك دفترتك العملاق تسجل فيه أمنياتك وخططك وتختار الألوان لحياتك وتصرّ على أن تنتزع كل شيء لك وفجأة ينتهي كل شيء ولا يبقى أي شيء حتى أنت! لا يبقى منك إلا هذا الدفتر الموهوم الذي أشغلك بكل شيء عدا الحقيقة! حقيقة وجودك وفنائك! وبعض الوحوش الجائعة التي انتظرت بصبر رحيلك لتفترس أشياءك، حذاءك، أموالك وأحلامك، حتى اسمك، تنازعتها دون رأفة على شرف نهايتك! من فترة تسربت فيها رائحة الموت والوداع ضغطت على مكابح الحياة والسرعة والجري خلف كل شيء وتوقفت بعنف آذى روحي بعمق برغم المكابرة والعناد، إلى أين أمضي إلى أين نمضي؟ أين نريد الوصول أين سنتوقف؟ سنوات مضت.. أخطاء عبرت سحب حلت وانقشعت.. وما زلنا نركض ونأخذ ونكذب وندعي ونسرق من الحياة كل شيء.. نسن القوانين ونتحايل عليها.. نملأ الحسابات بالأرقام ونتجاهل قفز الأيام فوق ظهورنا! نتجاهل أن كل شيء يسير فوقنا! وتمضي الحياة ونحن مشغولون في سرقة أي شيء جميل لنا أو ليس لنا! نفعل أي شيء ولا نصدق أي شيء سوى رغبة الوصول والأخذ! وفجأة تصدمنا حقيقة النهاية فينتهي كل شيء ولا يبقى منا إلا أحذية بالية اهلكتها مشاوير الحياة الخادعة! كم من صفعة نحتاج لكي ندرك أن هناك محطة توقف أخيرة ستأتي حتماً يوماً ما، كم من صدمة نحتاج كي نستفيق من لهاثنا خلف الأرقام والكراسي والحجارة والمشاعر الوقتية والشعارات الورقية وغيرها، لا أعرف كم نحتاج إلى ذلك ولكننا لا نحب إلا الاستفاقة على الألم واللطم، هكذا نحن أقوام تعشق الهامش وطعم السلخ على جنباته والبكاء.. قبل أن أغلق نافذة هذا الصباح.. جميعنا نجري خلف الحياة بنهم وهمة وحلم وأمل، ولكن كيف ولماذا وإلى أين وإلى متى؟ هذه هي الأسئلة القاتلة. بعض المواقف تجرحك.. تفقدك توازنك.. تحطمك.. تقتلك!