كانت، ولا تزال المؤسسة الثقافية والاجتماعية بحمل ثقيل ينوء به كاهلها مع وابل من الاتهامات بالتقصير والعجز التي تعن كل حين في أفقها ضمن رؤية المثقف التي لا تسلم أحياناً من تذمر كبير تطلعاً منه واستشرافاً لمستقبل واعد للثقافة الإماراتية يرقى بها إلى تحقيق الهدف المنشود . علاقة المثقف بالمؤسسة والدور المنوط بكل منهما لا تزال علاقة غائمة وشائكة في الوقت نفسه، في سبيل الارتقاء بالعمل الثقافي المحلي والنهوض به، ولعل هذا ما يجعل الحديث عن دور المثقف التنويري والتثقيفي، بغض النظر عن أي اتهام بالعجز والتقصير للمؤسسة الثقافية، أمراً لا مناص منه لمعرفة ما يمكن أن يسهم به ذلك المثقف في حالة شغور مقعد المؤسسة، أو توانيها، فرضاً، عن القيام بالعمل المنوط بها، فلماذا لا يسعى المثقف إلى تجاوز كل الحواجز والعوائق التي تواجهه في الواقع، ويتوجه بثقافته ورسالته إلى المجتمع في المركز والأطراف بخاصة التي تعتبر مناطق نائية، وهي بحاجة ماسة، أكثر من غيرها، إلى وجود دور فاعل للمثقف، من شأنه الإسهام في الارتقاء بها، ونشر الوعي الثقافي بين سكانها؟ القاص عبدالرضا السجواني، يرى أن المثقف ينبغي أن يكون أكثر ارتباطاً وقرباً من محيطه وما يدور في فلكه، ومواكباً لكل المستجدات، وحاملاً لهم مجتمعه والتطورات التي يعيشها، حتى يبلور على غرار ذلك رؤية صحيحة ومتناسقة مع رسالته وأهدافه التي ينبغي أن يحققها، فالفنان التشكيلي بإمكانه أن يعبر عن همومه وقضاياه من خلال لوحة تشكيلية يستحضر فيها ما يخالجه من أمور . وأوضح السجواني أن ارتباط المثقف بواقعه ومحيطه يجب ألا يكون محصوراً في جهة معينة أو نطاق محدود، بل عليه أن يوفق بين نشاطه وعمله داخل المدينة "المركز"، وبين المناطق النائية في الأطراف التي قد تحتاج تواجده وحضور أكثر من غيرها . وأكد السجواني من خلال تجربته الشخصية أنه كان ولا يزال شغوفاً بالمناطق النائية التي تزخر بالكثير من المعالم والقيم التي تلهم المبدع في نتاجه، حيث ضمن مجموعته القصصية "الرفض" الكثير من القصص التي تعود جذورها إلى تلك المناطق بما تعج به من قضايا وأمور، وطرائق معيشتهم وأساليب حياتهم . واعتبر السجواني أنه لا توجد هناك عوائق موضوعية يمكن أن تحول دون وصول المثقف إلى تلك المناطق ليقوم بدوره التثقيفي والتنويري، وخدمة مجتمعه، بوصفها مناطق مفتوحة، وذات سبل سالكة، ويمكن الوصول إليها من دون كبير عناء، وهي تمنح لزائرها، بأجوائها وطبيعتها الجميلة، الطمأنينة والراحة النفسية، مشيراً إلى أن المثقف نفسه هو من يمكن أن يختلق العوائق من عند نفسه ليبرر بها تقصيره عن أداء مهامه المنوطة به، وإهماله لقضاياه تعللاً بغياب دور المؤسسة الثقافية الفاعلة أو غيره، لكنه بذلك يكون قد أخل برسالته التي ينبغي أن يضطلع بها خدمة لمجتمعه وبني جلدته . القاص إبراهيم مبارك، رأى أن جهد المثقف الفردي قد لا يجدي نفعاً في ايصال رسالته أو القيام بدور تثقيفي، وإن كان فلن يكون ذا تأثير كبير، عكس ما إذا تضافرت جهود عدد من المثقفين ضمن برنامج ثقافي واضح ومحدد . وأوضح أن الوصول إلى المناطق النائية أو الأطراف كان يتم عن طريق المؤسسة الثقافية والاجتماعية في الإمارات، حيث كانت تضطلع بجهود معتبرة في هذا المجال، وكذلك القوافل الثقافية التي تنظمها وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، وتتوجه إلى العديد من تلك المناطق داخل الدولة، وأسهمت، من خلال أمسياتها ونشاطاتها الثقافية في توعية والتثقيف سكان تلك المناطق . وأكد مبارك أن وصول المثقف وارتياده تلك الأماكن لا بد أن يكون وفق مخطط وبرنامج ثقافي يسهم في تحقيق الأهداق المتوخاة من خلاله، ويتطلب ذلك تضافر الجهد الجماعي، وليس الفردي، فهو أجدى وأنفع . وذهب الكاتب والباحث عبدالله جمعة المغني إلى أن مهمة المثقف التي ينبغي أن يضطلع بها، بغض النظر عن الاتكاء أو الاستناد على جهد آخر مساعد، هي تنوير مجتمعه وتثقيفه، وإحاطته بما يدور حوله من أمور ومتغيرات، وسواء قامت المؤسسة الثقافية بدورها المنوط بها أو لم تقم به، فإن ذلك لا يخلع عن المثقف دوره الثقافي والاجتماعي ولا يعفيه منه . وأوضح أن المثقف ينبغي أن يتعامل مع واقعه بنظام تحديد الأولويات، وهذا ما يستدعي منه أن يرتحل بنفسه إلى الأماكن الواقعة في أطراف الدولة التي لا تزال تفتقر في بعض جوانبها إلى تكثيف الجهود التثقيفية والتوعوية، خاصة أنها عملية سهلة وغير مكلفة لمن يحمل بين ثنايا صدره هم أمة وقضية مجتمع بحق . وأكد المغني أن على المثقف الإماراتي أن يوظف التطورات والتسهيلات التي يحظى بها اليوم في واقعه في خدمة مجتمعه، لا أن يرتهن إلى التحجج بغياب دور المؤسسة، وضعف التنسيق بينها وبينه وما إلى ذلك من الحجج التي ينبغي أن نتجاوزها إذا كنا مشبعين فعلاً بالرغبة في النهوض بمجتمعنا وثقافته، لأن المثقف بطبعه يجب أن يكون الرائد الذي لا يتوانى في خدمة مجتمعه مهما كانت العوائق والصعاب، هكذا كان في القدم وهكذا ينبغي أن يكون . الدكتور حبيب غلوم مدير الأنشطة الثقافية في وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، أوضح أن الثقافة في الأطراف بكافة تجلياتها تكاد تكون غائبة، على الرغم من وجود مراكز ثقافية في تلك الأماكن، وإذا نظرنا إلى مثل هذه المباني والمراكز على أهليتها وبنيتها التحتية، فهي تظل عاجزة عن تقديم ملمح ثقافي بارز، والمشكلة من وجهة نظر د . غلوم لها علاقة بغياب الفعل الثقافي عن الخطط التنموية، ناهيك عن الترهل الإداري وما يتبع ذلك من استسهال في تقديم المنتج الثقافي المتميز، فالغياب الثقافي وبعده عن التخطيط التنموي والمشكلة الإدارية هما من القضايا التي يجب الانتباه إليها لتنشيط الحراك الثقافي في تلك المناطق النائية، ولفت د . غلوم إلى دور دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة الذي وصفه بالدور الإيجابي والمتميز في سعيها للانتقال بجوانب الفعل الثقافي كافة نحو هذه الأطراف، لكنّ المشكلة تظل قائمة، سيما أن جل من يعملون في هذه المراكز الثقافية البعيدة عن المدن هم من فئة الإدارييين غير الملمين أو المطلعين على الجانب الثقافي أو ممن ليس لديهم خلفية معرفية بالحراك الثقافي، سواء كان إبداعاً مسرحياً أو شعرياً أو تشكيلياً وغيرها، أضف لهذه المشكلة هو أن هذه الإدارات لا تكاد تهتم بتطوير الفعل الإبداعي وهو ما يشكل عبئاً إضافياً يجب التنبه له، حتى يتسنى لنا القيام بواجبنا الثقافي على نحو سليم ولكي تكون الثقافة المنتجة في الهوامش أو الأطراف على سوية واحدة، ولكي نخطط منذ الآن لفعل ثقافي يهتم بالإنسان حيثما وجد . الروائية أسماء الزرعوني نائب رئيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات أقرت من حيث المبدأ بوجود مشكلة إدارية بحتة تتعلق بضعف المنتج الثقافي في الأطراف وهي تلخص هذه المشكلة في جانبين، الجانب الأول له صلة بالتخطيط الثقافي العام في شقه التنموي والاستراتيجي، حيث رأت أن هذا الجانب ما زال غائبا بمعناه الشمولي، الأمر الذي يحتم علينا كمثقفين ومخططين أن نتبنى أسلوباً جديداً يستقر في بؤرة تفكيرنا المنهجي لنشر الثقافة في كافة المناطق، بصرف النظر عن كونها مناطق قريبة أو نائية، أما الجانب الثاني الذي يعتبر نتيجة وسبباً للمشكلة الأولى فيتعلق بغياب الإدارات الناجعة ذات الخلفية الثقافية والمعرفية في تلك المراكز الثقافية في المناطق النائية، وهو يعني بالتالي انعدام وجود حراك إيجابي لتفعيل النشاطات الثقافية والفنية في تلك المناطق . وألمحت الزرعوني إلى وجود مشكلة أخرى تتعلق بالتواصل الثقافي ما بين المراكز والهوامش وهو ما يحتاج إلى تفعيل الجانب الإعلامي سيما مع وجود مثقفين وشعراء وتشكيليين ومسرحيين في المناطق النائية، لا يقلون شأناً عن أقرانهم في كافة المدن الإماراتية . وقالت الروائية فتحية النمر: عموماً لا أظن أن الأمر يتعلق بالجهات المسؤولة، قدر تعلقه بالأفراد، عندما يكون المثقف واعياً بدوره، وبمواهبه وإمكاناته وعندما تكون المواهب والإمكانات حقيقية، ستمارس دورها بالضغط على صاحبها، لتخريجها، بشكل أو بآخر، هناك مشاريع ثقافية في الإمارات، في الشارقة وأبوظبي ودبي، متنوعة وتغطي كل الأذواق والمواهب، ودائمة وليست موسمية، في الشارقة أكثر، وإن كان في الأطراف مثقفون مهتمون حقيقة، فلن يغلبهم الحال، حتى لوكانت الفعاليات شحيحة في الأطراف، مقارنة بالمراكز، لكن لا معوقات حقيقية أبداً، التحجج ببعد المسافات، بين المراكز والأطراف، ضعيفة واهية وغير مقبولة، التواصل متوفر دائماً، البديل بإقامة الفعاليات هناك عندهم رهن الإمكان، الخطورة، أن يكون الوعي في الأطراف أقل، بالدور المنوط بالمثقف وواجبه تجاه نفسه ووطنه . وأضافت النمر قائلة: "إن كثرة الفعاليات الثقافية في دولة الإمارات، حيث مهرجانات الأدب والنقد والفكر والمسرح وغيرذلك، تجعل من الشأن الثقافي عاماً حيث يلغي الفجوة المفترضة بين المركز والأطراف، وإن هذا التنوع في الفعاليات الثقافية جعل الشأن الثقافي إحدى علامات هذا المكان التي نعتز بها" . وقال الشاعر محمد البريكي: من يتابع تفاعل المثقف الإماراتي مع المشهد العام في بلده، يجد أن موقع تواجده، سواء أكان في المدينة أم الأطراف، لا يحول من دون تواصله الحميمي العام مع مكانه، إذ نجد ابن الريف يكتب عن المدينة، كما أن ابن المدينة يكتب عن الريف، بل إن الريف والمدينة يتم تناولهما من قبل كليهما، وأضاف البريكي قائلاً: "وهكذا فإننا نجد أن مثقفنا الإماراتي يحمل الهم العام، أينما كان موقعه، وإن تمركز أكثرالأدباء في المدينة-وهو مايتم عربياً وعالمياً- لا يمنعه من أن يولي القرية من اهتمامه الكبير كما هو حال المدينة، واختتم البريكي رأيه قائلاً: ومن هنا، فإننا لوعدنا إلى كتابات أي كاتب إماراتي، فسنلاحظ أن عالم القرية، ومفرداتها متوافران فيها، وهي بهذا لا تشكل طرفاً، فهي كما هي الحقيقة في قلب الكاتب وضميره، كما أنها في قلب الحياة الإماراتية التي أزالت هذا البون، وألغت مثل تلك الثنائية التي قد تكون موجودة في بلدان أخرى نتيجة ظروفها وطبيعتها . ويرى المسرحي إبراهيم سالم أن عدم توجه المسرحي الإماراتي نحو الأطراف أو الريف، واكتفاءه بالمراكز أو الإمارات الرئيسة، يعود إلى أن أغلبية المسرحيين الإماراتيين يعملون في وظائف رسمية تلزمهم في العمل ساعات محددة، تبدأ من السابعة وتنتهي عند الثانية، وبالتالي لا يوجد أي وقت لإنتاج عمل مسرحي يطوف على الأطراف . ويؤكد سالم أن المبدع الإماراتي بشكل عام والمسرحي بشكل خاص، يجب أن يمنح فترات تفرغ ليتسنى له التوجه للأطراف، مشيراً إلى أن الريف والأطراف متعطشين للإبداع ويوجد بينهم مواهب هائلة يمكن أن تشكل فارقاً عند صقلها وإدخالها في حرفة العمل المسرحي على أرض الواقع . ويشير سالم إلى أنه بالإضافة إلى مشكلة التفرغ، توجد مشكلة الدعم المادي والمعنوي، لافتاً إلى وجود قصور في بعض المؤسسات الثقافية، المعنية بتفعيل الحراك الثقافي، فهذه المؤسسات، بالإضافة إلى أنها أحياناً تقصر في الدعم، فإنها تعزز من توجيه المثقف والمبدع إلى المركز، والمدن الرئيسة . وبيّن أنه على الصعيد الشخصي كان يحلم بتأسيس فرقة مكونة من طاقات شابه مدربة، يجول بها على المناطق الطرفية، منوهاً إلى أن هذا الحلم لن يتحقق في ظل التزامه بعمل رسمي يحد من نشاطه ويلزمه بساعات دوام رسمية . ويتفق المخرج حسن رجب مع سالم، في أن العائق الذي يقف أمام المسرحي الإماراتي يتمثل في مسألة التفرغ، مشيراً إلى أن تلك المشكلة قديمة ولم تحل إلى الآن . ويؤكد انه منذ سبعة وعشرين عاماً، منذ تخرجه في الجامعة وعمله في مؤسسة رسمية، ومشكلة التفرغ تواجه، وتواجه كل المسرحيين العاملين في المؤسسات الرسمية، مشيراً إلى أن على المسرحي أن يتقدم بطلبات ورسائل تفرغ مرات كثيرة، حتى تستجيب المؤسسة، ومن بعدها لا يحصل إلا على ثلاثين يوماً كحد أقصى . ويلفت إلى أن توجه المبدع نحو الأطراف يترتب عليه الكثير من القضايا التي تجعله يكتفي بالمركز، وهذه القضايا تتعلق بالوقت، والجهد، والتكاليف، وتهيئة الأماكن، ونقل الفرق، وغيرها العديد، موضحاً أن العمل الذي يحتاج في المدن المركزية إلى شهر، يلزمه ثلاث أشهر في الأطراف . وأشار رجب إلى تجارب سابقة توجه للأطراف، إلا أنها كانت محدودة، واقتصرت على عروض بسيطة لم تلق الدعم اللازم، مؤكداً أن الكثير من الفرق والشباب المسرحيين في الريف يدعونهم لإنتاج أعمال مسرحية، إلا أن الظروف لا تسمح .