الخلوة ضرورية لكل منا، فيها خلود النفس، وشحذ العقل، وغربلة الأفكار، فتخرج منها متيقظاً ومتجدداً ومتوقد الذهن. كلنا نحتاج إلى بعض الخلوة، نبتعد فيها عن صخب الحياة بعض الوقت. ما تجمعه من معرفة، مهما بسطت، خلال حياتك تتجمع كالخيوط في رأسك من دون أن تشعر بها. فيجمعها تأمل الخلوات «كالنول» ليحيك بها أفكارك. وكلما مضى بنا العمر تسقط خيوط وتغزل أخرى لتتجدد الرؤى. وأحياناً، تدور في ذهنك أسئلة عديدة لا تجد لها إجابة، لتجد نفسك بعد سنين وقد ظهرت لك الإجابة من حيث لا تدري، فتصرخ فرحاً «وجدتها، وجدتها»، كما قالها أرخميدس عندما اكتشف قانون الطفو، فخرج من الحمام عارياً، يقول «يوريكا يوريكا». الأحداث الاخيرة والحملة على القضاء ذكرتني «بيروكيتي» ولكن كنت بكامل حشمتي. لكل نهر منبع، ليمد النهر لسانه بين الوديان، حتى يصل إلى مقصده الأخير، تلك المحطات الثلاث هي ما تمر به دراسات الشرائع والقوانين، فمنبع الأحكام الشرعية هو كتاب الله وسنته، لتجري أحكامها على كل الناس كما يجري النهر ليصل في النهاية إلى مقاصده التي جاءت الأحكام تدور حولها، فأحكام الشريعة تدور كلها لحفظ خمسة أمور: لحفظ النفس والدين والعقل والمال والعرض، فكما للقوانين الوضعية روح، كذلك لدين الله وأحكامه روح، وهي مقاصد ذلك الدين، فجاءت هذه الروح بكثير من القواعد التي أطلق عليها اسم «القواعد الفقهية»، لتكون إحدى أدوات الاستدلال الفقهية لكثير من الأمور التي لم يجر عليها نص. فكنت أحدث نفسي متسائلاً: لماذا أُمرنا إذا اُبتلي أحدنا بمعصية أن يستتر ولا يذكرها لغيره؟! لماذا كل أمة النبي «معافى إلا المجاهرون»؟ فمن يقع بالحرام ولم يبال بنظر الله إليه لماذا يطلب منه أن يبالي برؤية الناس له؟ لماذا نحن مأمورون بأن ننكر المنكر حتى وإن علم مرتكبه أنه منكر؟ العلة كلها بالقلوب، فإذا اعتاد القلب واطمأن إلى أمر لم يكف مجرد «العلم» بالخطأ أن يدفعنا إلى تركه، العلم به فقط باب لتركه، ولكن مفتاحه القلب، فإذا استقر الأمر في القلب تبعته الجوارح. العلم ثابت، ولكن القلب متقلب على ما تعود عليه. لذلك أُمرنا أن ننكر المنكر حتى تتعود القلوب على رفض الخطأ، وأُمرنا بالستر حتى لا تعتاد قلوب الناس على رؤية الخطأ فيهون عليهم فعله. لذلك، أُمرنا إذا رأينا منكراً أن نغيره، فإن لم نستطع، «فبقلوبنا». والقضاء ركن أمان، وإن رأينا به قصوراً. فركون قلوبنا إلى الامتثال لأحكامه، على الرغم من ظننا بما فيها من أخطاء، احفظ لمقاصد الدين وأدرأ للفتنة. فإن عوّدنا القلوب على الريبة بأحكامه والرفض لسلطته، فسيحكمنا الهوى وتضيع الحقوق، لنفتح باب مفسدة عامة لدفع ضرر خاص، فتضيع المقاصد الخمسة. إصلاح الباب لا يكون بخلعه، اختل بنفسك، واقدح نار ذهنك، وتأمل كلامي هذا، لعلك تصرخ بعدها: يوريكا يوريكا. جاسم فيصل القضيبي J_F_Alqadhaibi@