التاريخ ليس سرداً لحوادث تحفظ الماضي وأحداثه وتمجد الأفعال البارزة في حياة الأشخاص والأمم، أو ثقافة عامة تستخدم لإعداد القادة والسياسيين، أو فرعاً من فروع الأدب يدرس للتسلية والترفيه، ولكن الغرض من دراسة التاريخ هو الوصول إلى الحقيقة التاريخية ذاتها والتي يمكن من خلالها الإفادة من التاريخ في أغراض البحث العلمي وكل العناصر السابقة الذكر ولكن في ضوء الوقائع التاريخية الصحيحة الواضحة المعتمدة على وثيقة أصلية صحيحة . ولهذا يعتبر التاريخ علماً كسائر العلوم التطبيقية له منهج واضح يسمى "منهج البحث التاريخي"، وهو منهج مختلف عن منهج العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى . يمكن تفسير كلمة "التاريخ" (Historia) المستمد من الأصل اليوناني القديم، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ آثاره في الصخر والأرض حتى هذه اللحظة . كما أن كلمة التاريخ تدل على مجرى الحوادث الفعلي الذي يصنعه الأبطال والشعوب التي وقعت منذ أقدم العصور وسجلت في كتابات تسمى وثيقة أو وثائق رسمية أو غير رسمية . وتولي دولة الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها اهتماماً كبيراً بتدوين تاريخها وجمع التاريخ الشفهي من الصدور حيث اعتبرت ذلك مهمة وطنية وذلك لأن تاريخ هذه المنطقة، نظراً للظروف السياسية الاستعمارية التي مرت بها منطقة الخليج العربي ككل، قد تمت كتابة مجمله من منظور أجنبي وذلك لعاملين: أولهما أن هذه المنطقة لحظة التسجيل والتدوين التاريخي لم تكن قد ظهرت كدولة مستقلة، وثانيهما حداثة الوعي التاريخي وبالتالي حداثة عملية التأريخ أو التدوين التاريخي فيها . فلا عجب أن يكون تاريخ الإمارات وحتى وقت قريب مضي جله مكتوب من وجهة نظر أجنبية بحتة . فالمصادر التي اعتمدت عليها تلك الكتابات كانت أجنبية وجلها من المصادر البريطانية المحفوظة في أرشيفات بريطانيا . ولهذا تعتبر إعادة صياغة التاريخ ومن منطلق جديد ومحايد مبني على أسس علمية صحيحة وبأيدي محلية خبيرة مهمة وطنية جليلة يؤديها المؤرخ المحلي لهذا المجتمع . يعني لفظ التاريخ في اللغة العربية بأنه الإعلام بالوقت وقد يدل على تاريخ الشيء ووقته وهو فن يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين والتوقيت وموضوعه الإنسان والزمان . أما التأريخ فيعني بدء تدوين الأحداث وتسجيلها في سجل يحفظ للبشرية إنجازاتها . فعندما أخذ الإنسان البدائي منذ فجر المدنية يقص على أبنائه قصص أسلافه ممتزجة بأساطيره ومعتقداته، بدأ التاريخ يظهر إلى حيز الوجود في صورة بدائية أولية لعب الخيال فيها دوراً كبيراً . فكان التاريخ القديم ممزوجاً بالأساطير والخرافات . ولكن كتابة التاريخ تطورت حيث يعتبر اليونان، وبالتحديد المؤرخ هيرودوت، رواداً في هذا المجال . فهيرودوت هو أول من دون التاريخ بطريقة علمية قائمة على المشاهدة فلا غرو أن يلقب "بأبي التاريخ" . منذ القدم بدأ الاحساس بالتاريخ يتكون في ذهن البشرية وبحسب تدرج عصور التاريخ تدرج أيضاً التعبير عنه مختلطاً أولاً بعناصر من الفن، كالرسم على الحجر والخشب والنقش على الحجر ومواد أخرى . وعندما سارت البشرية قدماً في مضمار الحضارة في شتى أساليبها وصورها أخذ التاريخ يشكل أساساً جوهرياً في تسجيل موكب البشرية الحافل بكل الإنجازات . وأصبح التاريخ هو المرآة أو السجل الذي يقدم لنا ألواناً من الأحداث والفنون والأعمال والآثار . للتاريخ فائدة كبرى ألا وهي جعلنا نتأمل في الماضي . والتأمل يجعل الإنسان يبعد عن ذاته فيرى ما لا يراه بسهولة من مزايا الغير وأخطائه، ويجعله أقدر على فهم نفسه وأقدر على حسن التصرف في الحاضر والمستقبل . فإذا ما قطع الإنسان صلته بالماضي فإنه سوف يبدأ من جديد بأشياء تشبه أو تختلف عما كان قد بدأه منذ آلاف السنين حتى يصل إلى ما وصل إليه في وقته الراهن . ولذا فالأقوام التي لا تعرف ماضيها لا تعد من شعوب الأرض المتحضرة . فقد صدق المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عندما قال "من لا ماضي له لا حاضر له"، وربما أيضاً لا مستقبل له إذا ما نظرنا للتاريخ على أساس أنه حلقات، كل حلقة معتمدة ومستمدة قوتها من الحلقة السابقة لها، وتمد الحلقة التي بعدها بالقوة والثبات . فما هو الطريق الذي نسلكه لإعادة صياغة التاريخ وتاريخ دولة الإمارات بالتحديد؟ وما هي الوثائق التي نعتمد عليها في التأريخ لهذه الدولة؟ لم تحظ منطقة الإمارات بما حظت به بعض دول الخليج المجاورة من توافر المخطوطات الرسمية التي تلقي الضوء على التطور السياسي والاجتماعي والثقافي المهم من تاريخها . فلو قارنّا الإمارات بسلطنة عمان مثلاً، لوجدنا أن الأخيرة قد توفر لها الكثير من المخطوطات الرسمية والشخصية التي كتبت بأقلام أبناء تلك المنطقة تلقي الضوء على مختلف الحقب التاريخية التي مرت بها عمان، أما ما يختص بالإمارات فالوضع مختلف، فلم تكن هناك وثائق أو مخطوطات رسمية، كذلك يتميز تاريخ الإمارات بطغيان الثقافة الشفاهية على الثقافة المدونة وضياع أغلب ما دونه العرب رغم ندرته . ولكن يعد ما وصل إلينا من تلك المعارف الشفاهية وما تم تدوينه لاحقاً مادة تاريخية ذات نفع كبير في التعرف إلى طبيعة الحياة الثقافية والفكرية والتأملية العربية التي شاع أمرها، وبالتالي يضعنا عن عتبة إمكانية رسم ملامح لوجود حياة ثقافية وتشخيص حالتها، ففي الوثائق الخليجية حظي تاريخ منطقة الإمارات ببعض النتف المتناثرة التي خلفها لنا مؤرخو عمان والسعودية التي تضمنتها كتاباتهم عن بلدانهم . فكانت الحصيلة أن تاريخ منطقة الإمارات يفتقد إلى النظرة المحلية، الأمر الذي يضطر الباحث إلى الاعتماد على ما كتبه البحاثة الأجانب وعلى رأسهم جي . لوريمر . لذا جاء المخطوط "نقل الأخبار في وفيات المشايخ وحوادث هذه الديار" لمؤلفه حميد بن سلطان بن حميد الشامسي من أهالي إمارة أم القيوين ومن مراجعة الباحث الدكتور فالح حنظل، ليسد فجوة في هذا الجانب، كما يسهم في معرفتنا العلمية بأحداث وأخبار تلك الفترة . إن المخطوطة التي يبدو أن أسرة المؤلف احتفظت بها لزمن إلى أن أخرجت للنور وطبعت في طبعة محدودة في عام ،1986 تقدم لنا نموذجاً رائعاً لما يعنيه المؤرخ الشامل، حيث إنه يتحدث في كل المواضيع سواء كانت تاريخية أو سياسية أو أدبية أو علمية، بهدف تقديم معرفة إنسانية شاملة . لذلك فهي وأمثالها من الكتب والمخطوطات التي خطت بأيد محلية، تقدم لنا لمحة نادرة عن التطور الثقافي والفكري لأهالي الإمارات قبل عقود طويلة وتدحض المقولة إن أهالي الإمارات عاشوا في جمود فكري وعزلة عن العالم . هذا المخطوطة، وأمثالها، تقدم لنا الدليل القاطع على أن وعي أهل الإمارات بما يدور حولهم كان قوياً . كما تقدم لنا لمحة فريدة عن التطور الثقافي والفكري لأهل الإمارات قبل الطفرة البترولية . إن نشر هذه المخطوطة وإخراجها إلى دائرة الضوء، يجب أن يشكل حافزاً للبعض والذي لايزال يحتفظ بالمخطوطات في مكتباته الخاصة، بالعمل على إخراج ما لديهم من مخطوطات، حتى ولو اعتقدوا أنها ليست ذات قيمة كبيرة، من أجل تحقيقها ونشرها بغرض الاستفادة العلمية منها . فالتاريخ ما هو إلا حلقات متسلسلة متي ما غابت حلقة منه تأثرت معرفتنا بالكل . فلا يمكن أن تكتمل معرفتنا العلمية إلا بمعرفة خفايا وتطورات كل الحقب التاريخية الأخرى . هناك الكثير من جوانب تطور مجتمع الإمارات خلال القرون السابقة لا يزال غامضاً، ولا يزال الأمل منوطاً بأن فك أسر المخطوطات التي لا تزال رهينة الأدراج سوف يلقي الضوء على المزيد من جوانب التطور من تاريخ منطقتنا . يمكن للمؤرخ أن يعتمد على مصادر التاريخ المتعددة وهي الآثار بأشكالها المتعددة والنقوش القديمة والوثائق والمراسلات والوثائق الرسمية المستخرجة من دور الأرشيفات التاريخية . فمثلاً لابد لدارس تاريخ الإمارات القديم من الرجوع إلى الآثار بأنواعها والحفريت ونتائجها، أما تاريخ الحقب الإسلامية والوسيطة فلابد من الرجوع إلى المصادر الإسلامية المحفوظة في المتاحف العربية والأجنبية . وتعتبر مهمة الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر الأصعب لأن المصادر الموجودة جلها من المصادر الأجنبية . وعندما نتقدم قليلاً من القرنين التاسع عشر والعشرين تبدأ ملامح التأريخ المحلي تتضح مثل مخطوطة عبدالله بن صالح المطوع "عقود الجمان في تاريخ آل سعود في عمان والجواهر والآلي في تاريخ عمان الشمالي"، ومخطوطة حميد بن سلطان بن حميد الشامسي "نقل الأخبار في وفيات المشايخ وحوادث هذه الديار"، ومخطوطة محمد علي الشرفاء الحمادي "نيل الرتب في جوامع الأدب"، ومخطوطة الفوائد في تاريخ الإمارات والأوابد، محمد سعيد بن غباش . كما أن على الباحث التاريخي ألا يكتفي بتحصيل المعلومات من الكتب والمراجع بل عليه أن يلجأ في استخدام خبرته الحياتية والاعتماد على المشاهدة والتدوين سواء في محيطه الإنساني أو في دائرة أوسع من المحيط العالمي . (المشاهدات والتسجيلات الميدانية) . كما تعتبر الزيارات الميدانية مصدراً حياً ومهماً للباحث التاريخي وخاصة في منطقة الخليج والإمارات، حيث إن التدوين التاريخي بدأ متأخراً . كما يعتبر التاريخ الشفاهي مصدراً مهماً للمعرفة وله شروط معينة كأن يتمتع الراوي بكامل الأهلية، وليس له غرض شخصي وغير متحيز، وليس ينتمي إلى أيديولوجية معينة وغيرها من الصفات التي تجعل من الراوي ثقة وهو أسلوب متبع عند المسلمين منذ بدء التدوين أي منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب . ولكن ليس كل من يكتب التاريخ يصبح مؤرخاً . فلابد من أن تتوافر في المؤرخ الصفات الضرورية التي تجعله قادراً على دراسة التاريخ وكتابته . فمن الصفات الواجب توافرها في المؤرخ، كما في غيره من البحاثة، أن يكون محباً للدرس جلداً صبوراً، لا تمنعه وعورة البحث ولا المصاعب والعقبات عن مواصلة العمل ولا توقفه ندرة المصادر ولا يصرفه عن عمله غموض الوقائع التاريخية واختلاطها أو اضطرابها، كما ينبغي عليه ألا يتسرع في اصدار الأحكام ليصل لنتيجة وضعها مسبقاً على حساب العلم والحقيقة التاريخية . كما ينبغي توافر الأمانة والنزاهة العلمية والحيادية والشجاعة الأدبية فلا يكذب ولا ينافق ولا يخفي الحقائق التي قد لا يعرفها غيره . كما يجب أن تتوافر لديه ملكة النقد فلا يجوز له أن يقبل كل كلام أو يصدق أي مصدر بغير الدرس والفحص والاستقراء فيأخذ الصدق ويطرح جانباً ما ليس ذلك . ومن يخرج عن هذه الصفات لا يعد مؤرخاً . لذا تعد كتابة التاريخ جهداً شاقاً يحتاج إلى الجهد والتضحية والصبر الطويل خاصة أن تلزمه دراسة عميقة لفحوى الوثائق وتدقيقها ومراجعتها ومقارنتها بغيرها من الوثائق . والتاريخ شأنه شأن العلوم الأخرى متداخل ومتشابك ولا يمكن أن يدرس مستقلاً عن سائر العلوم الأخرى . فعلم التاريخ متصل بأنواع أخرى من العلوم الإنسانية لازمة للمؤرخ ولذلك تسمى بالعلوم المساعدة للتاريخ . ويلاحظ أن هذه العلوم المساعدة تختلف وتتفاوت بالنسبة لدارس التاريخ باختلاف العصر أو الناحية التي يرغب الباحث في دراستها والكتابة عنها . ويلعب الأدب بفروعه المختلفة دوراً مؤثراً في فهم علم التاريخ . فالأدب هو مرآة العصر وهو تعبير عن أفكار الإنسان وعواطفه وهو يفصح عن دواخل البشر ويصور أمانيهم ويرسم نواحي مختلفة عن حياتهم . وعلى الرغم من توافر كبير من العلوم المساعدة للتاريخ كعلم الفلك والجيولوجيا فإن الباحث قد يعتمد على عدد محدود من العلوم المساعدة . إن هذه العلوم تقدم للباحث التاريخي خبرة وتسلحه بالثقافة والإعداد اللازم لكتابة التاريخ . وليس المقصود هنا التوسع في هذه العلوم المساعدة جميعها إذ إن ذلك فوق طاقة البشر، ولكن المقصود أن ينال الدارس ما يلزمه بقراءة بعض الكتب العامة أو الخاصة بحسب طبيعة الموضوع الذي يختاره . معظم الأصول التاريخية العربية قد نقلت إلى الدول الأجنبية إبان عصر الاستعمار وأصبحت جزءاً مهماً من أرشيفاته الوطنية أو مراكز ودور بحوثه . وقد حفظت بطرق علمية صحيحة وأصبحت اليوم جزءاً من التراث الإنساني . ومن الصعب اليوم المطالبة بأي من هذه الكنوز الثقافية أو ذلك الإرث الحضاري وذلك لأسباب متعددة منها غياب القوانين الدولية الملزمة لإعادة تلك الكنوز وعدم الإصرار من قبل الدول النامية على استعادة كنوزها التاريخية، فلم تصر مصر مثلاً على استعادة أنف أبو الهول من قبل الدولة الأجنبية التي سرقته أو تمثال نفرتيتي المحفوظ في متاحف ألمانيا مطالبة اليونان بكنوزها المحفوظة في متاحف لندن، كما لم تطالب أي من دول الخليج بتراث ابن ماجد المحفوظ في خزانات الدول الأجنبية كروسيا مثلاً . ولعل أوضح مثال على التشويه والخطأ الذي ارتكب وصف أهل الإمارات بالقراصنة والتي تداولوها من الكتب والوثائق الأجنبية وقصة البحار الإماراتي أحمد بن ماجد وكونه الدليل الذي قاد فاسكو دي جاما إلى الهند . فكل خطأ أو تشويه يبنى عليه خطأ وتشويه آخر . مثال على ذلك ما تناقله أغلب المؤرخين في روايتهم تلك التي بنوها على ما كتبه الكاتب قطب الدين النهر والي الذي روى الحادثة من دون دليل علمي، ورغم عدم معرفتنا التامة بالأسباب والدوافع التي جعلت من النهر والي يأتي بتلك الرواية فإن النتيجة واحدة وهي تكرار الخطأ التاريخي، إلى أن جاء ما يثبت العكس وأن الملاح الذي قاد فاسكو دي جاما إلى الهند كان ملاحاً هندياً مسيحياً هو "ماليمو كانا" . لذلك على الباحث في التاريخ قبل أن يستعجل ويصدر حكماً أن يتروى ويدرس الأصول التي بين يديه بدقة قبل أن يصدر حكمه وبالتالي يكون حكماً غير صحيحاً . إن إعادة صياغة التاريخ في ضوء الحقائق الجديدة والمحايدة وبأقلام وطنية نزيهة هي مهمة جليلة نقدمها للوطن . ويجب تضافر جهود كل المؤرخين للوصول إلى الحقيقة التاريخية إن لم تكن المطلقة بالنسبية لتصحيح مسار التاريخ . * أستاذة التاريخ في جامعة الإمارات