الخميس 15 أغسطس 2013 07:35 مساءً ((عدن الغد))المجلة سؤال يلح عليّ كثيرًا هذه الأيام، برغم تناقضه الظاهر، حيث من المعلوم بالضرورة أن السياسة دائمًا في خدمة الوطن. فبعد ما يقارب الثلاث سنوات من انطلاقة "الربيع العربي" والخسائر أكبر بكثير من المكاسب، ومع ذلك المنظرّون الثوريون يحاولون طمأنتنا بكليشيهات سياسية معروفة من نوع "لا تقلقوا، القادم أجمل"، و"هذا من طبيعة الثورات"، و"الحرية لا تُعطى، الحرية تُنتزع"! فلا نملك إلا أن نتغاضى، قسرًا، عن كم الدماء الإنسانية المراقة، لننشغل سويًا بمتابعة التحليلات والتدوينات السياسية، التي تبحث هي الأخرى، في ظل هذا "النزيف العربي"، عن مجدها السياسي والإعلامي! السياسة التي وُجدت كعلم وكممارسة لبناء الأوطان، ولتخفف من غلواء العدوانية البدائية الكامنة في بني البشر، هي مجرد وقود لإشعال الكثير من المواجهات العربية، بين الصديق وصديقه، بين الأخ وأخيه. آراء سياسية متفرقة تحتمي بالمذهب والدين تارة، أوبالعرق والجنس تارة أخرى، تحت مسميات تاريخية وأيديولوجية متنوعة، فهذا إسلامي يميني وذاك عروبي قومي يساري. وبينما الثورات العالمية التي وقعت تاريخيًّا كانت عبارة عن طفرات تاريخية لتجاوز مرحلة اقتصادية واجتماعية أكثر انغلاقًا على مستوى الفكر والحريات، نجدها لدينا عبارة عن دعوات لإحياء تراث ورموز وهويات من تحت أنقاض تجارب فاشلة تاريخيًّا! إنسانيًّا، وعلى مرّ سنوات الربيع خسرتُ الكثير من الأصدقاء، والفرصة متاحة لخسارة المزيد؛ وكل هذا بسبب السياسة. رأيك السياسي، في هذه البلاد المحمومة بالديمقراطية، وفي ظل هذا التواصل الاجتماعي الإلكتروني الاستهلاكي، لم يعد ملكك تمامًا. وكذبة "الرأي والرأي الآخر" لن تنقذك، فصمتك يُحسب عليك أكثر من حديثك. وتحفظك قد تُدان به أكثر من تحزبك. فالكل "يعرف أكثر" والكل لا يكتفي فقط بأن يشاركك ما يعرف، بل يريد أن توافقه على ما يعرف! عزمي بشارة ما يعنيني في هذا المقال هو الساحة السعودية الإلكترونية، التي تُغذي هذا العراك السياسي (ولا أقول الفكري)، والتي يمكن تقسيمها إلى إسلامي سياسي بشقيه السلفي والإخواني، وعروبي سياسي بشقيه الناصري و"العزماوي". نسبة إلى منظّر الثورات العربية عزمي بشارة. فهؤلاء الفرقاء الذين جمعتهم منذ وقت ليس بالبعيد، قنوات إعلامية عربية للوقوف صفًّا واحدًا ضد الصهيونية والإمبريالية. تعود الثورات اليوم والموقف السياسي منها لتفرقهم، عمليًّا وإعلاميًّا، وإن كنتُ نظريًّا لا أرى الكثير من الفروق، فالكل يبحث عن "هوية ضائعة"، يرى "الحل" في انتشالها وإعادة إحيائها. الساحة السعودية الإلكترونية، التي تُغذي هذا العراك السياسي يمكن تقسيمها إلى إسلامي سياسي بشقيه السلفي والإخواني، وعروبي سياسي بشقيه الناصري و"العزماوي". نسبة إلى منظّر الثورات العربية عزمي بشارة ولأن المتبنين لهذه المواقف لم يحسموا -منذ البداية- الموقف من اختلافهم الأهم حول "الهوية"، فقد خسروا سياسيًّا وإعلاميًّا الكثير بمجرد بدء الثورات، لتتناسل تبعًا لهذا الخلاف أحزاب وقنوات إعلامية، إسلامية طائفية، وعروبية قومية، تتبنى مواقف عميقة الاختلاف على مستوى الهوية. وقناة "الميادين" كمثال، وبعض القنوات الدينية الطائفية الأخرى خير مثال على هذا الانقسام، واستمراره مستقبلاً. وكما هي العادة فمن السهل أن تجمع الكثير من الفرقاء باسم الخوف والعداء، ولكن من الصعب أن تجمعهم باسم البناء. قراءة الواقع من خلال هذه الجماعات وقنواتها الفضائية أمر ضروري، فهذه القنوات منذ نشأتها ما هي إلا مرآة للتشكل السياسي على أرض الواقع، فحين أتأمل الكثير من حوارات الشباب السعودي، على تويتر أو الفيسبوك، وألمس هذا الحنين العروبي، أو الإسلاموي الخالص، لا أستطيع أن أتجاهل دور هذه القنوات ودور منظريها في توجيه قراءات الشباب وتوقعاتهم، ليس منذ انطلاق الثورات كما يعتقد البعض، ولكن منذ انطلاق هذه القنوات التي عُرفت بكسرها لكل ما هو مألوف وسائد، عربيًّا وسياسيًّا، لتستأثر هذه القنوات -وما يتبع لها من مواقع إلكترونية ومراكز دراسات عروبية وإخوانية- بالكثير من اهتمام الشباب السعودي وقراءاتهم، وتشكيل آرائهم. والآن، وقبل أن يوضع كلامي أعلاه في إطار التحريض الأمني كعادة هذه الجموع الإلكترونية، التي تعودت على أن أي نقد يمس توجهاتها ما هو إلا "تقرير أمني" أقول: إن هذه القراءة ضرورية لفهم وإدراك ما تركناه وأهملناه وطنيًا في ظل هذه التوجهات التي تستند إلى أجندات معاهد أبحاث ودراسات، إخوانية وعروبية. وهي بالتالي ليست وطنية، شئنا أم أبينا، كنا واعين بذلك أم لم نكن. ما تركناه وأهملناه في ظل هذه البيانات والتوجهات، المغالية في أحلامها وشعاراتها، هو مصلحة الوطن و"إنسان" هذا الوطن. فإن كان البحث عن هيبة اقتصادية أو سياسية هو ما نريده من خلال التنظير لهذه التحالفات، فأين هو موقع الوطن ومصلحته الاقتصادية الوطنية التي قد لا تتوافق مع هذه التحالفات؟ لماذا نفترض أن مصلحة الوطن في التحالف مع أمم بعينها ضد أمم أخرى؟! وإذا كان ما نبحث عنه هو "رؤية تاريخية" جامعة لمواطني هذه الدولة من خلال مشترَكات دينية أو لغوية أو عرقية فلماذا يُهمَل في هذه المدونات والبيانات العمل على هذه الرؤية من خلال الوطن نفسه؟ وتجاوز ذلك لما هو خارج الحدود؟ فهناك الكثير من القضايا الوطنية المتعلقة بالقبلية والمناطقية أو المذهبية التي يمكن طرحها وإثارتها في إطار الهوية الوطنية المشتركة. تنوعنا الوطني، وتعددنا الثقافي، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، أليس أولى بهذا الجهد وبهذا العطاء؟ بهذا الحب العروبي، أو بهذا الإخلاص الإخواني؟! أنا هنا لا أزايد أحد على حب الوطن، ولكن بكل تأكيد أقصد أن استفز الكثير لإثراء ما يجب إثراؤه تجاه هذا الوطن، حاضرًا ومستقبلاً، وتجاه "إنسان" هذا الوطن الذي ما فتئنا نخسره حين نجيشه ونحشده، فكريًّا وعاطفيًّا، باتجاه قضايا "الأمة"، في حين نختلف حول معنى هذه الأمة وحدودها. وحتى حين نعرّج على قضاياه فنحن لا نعرج إلا لخدمة "الجماهيرية" الشخصية التي نرجوها، ثم ما نلبث أن نضخها في رصيد قضايا هوية الأمة التي نتصورها، لا هوية الأمة الوطنية الواجب تشكلها والحفاظ عليها. تنوعنا الوطني، وتعددنا الثقافي، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، أليس أولى بهذا الجهد وبهذا العطاء؟ بهذا الحب العروبي، أو بهذا الإخلاص الإخواني؟! سمعنا وقرأنا الكثير من الخطابات والبيانات حول ما يريده هؤلاء الأمميون من وطنهم، ومن الأوطان الأخرى لخدمة قضايا الأمة المتخيلة لديهم، ولكننا لم نسمع الكثير حول ما يريدونه من أجل الوطن بعيدًا عن أولوياتهم الأممية. بل إن أي حديث بعيد عن هذه الأولويات أو ما يخدمها -مهما كان قريبًا من حاجات الوطن، بحدوده الواضحة جغرافيًّا واجتماعيًّا- فإنه لا يخلو من تهكمهم، واعتباره نوعًا من إشغال الناس وإلهائهم! وأخيرًا، حين نقول بأن من بيننا من يكرهون الوطن، فهل هذا من قبيل المبالغة؟ قطعًا لا، ولكنه من باب التوصيف الذي يجب أن يعيه كل شخص حين يرتب أولوياته. فالدرس المستفاد من هذا "الربيع" إذا ما تتطلعنا حولنا، ليس ما يهددنا به البعض، بشكل مبطن أو معلن، حين يعلنون بأن ما طال هذه الدول لا بد وأن يطالنا. بل هو في نهاية المطاف الدفع بالنزعة "الوطنية" والاتكاء عليها، من قبل دول الثورات نفسها، في مواجهة ما تعتبره هذه الدول، اليوم، مدًّا خارجيًّا لتنظيمات أممية عالمية (إرهابية) من ناحية، أو ما اعتبرته هذه الدول تدخلاً في شؤونها من قبل بعض الدول العربية الشقيقة ومواطنيها من ناحية أخرى. وهذا تأكيد آخر وأخير على أن المصلحة والهوية الوطنية مقدمة على ما عداها من أحلام أممية، إسلامية جهادية، أو عروبية وِحدوية. * من تركي التركي