ما بين مشهدي موت وانتحار، وقاموس تتسيّده مفردات الخوف والكراهية والعار، ناسجة حكايا بشر وأمكنة وتاريخ سياسي وحياة موازية، تدور عوالم رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» للكاتب السوري خالد خليفة، التي تضرب بعيداً وقريباً، متتبعة مصائر شخصيات عاشت على الحافة، وغابت كذلك من دون أن يشعر بها أحد، إذ لا فارق في أجواء مدينة خائفة ذات إرث عتيق، ما بين موت وحياة. «يقسو» صاحب «مديح الكراهية» على شخصياته، وربما قارئه، لا يترك خالد خليفة استراحة، ولو صفحة واحدة، كي تتنفس كائنات رواياته هواء صحياً خالياً من الهزائم المتتالية: مرارة تسلم إلى أخرى، وسقوط يفضي إلى انكسار، وهكذا، حتى تكون النهاية خلاصاً بالموت أو الانتحار، وفي أحسن الأحوال هروباً ولو إلى الفراغ، وترك الأب مثلاً، لأفراد العائلة من ورائه، يواجهون مصيراً يحدده رجال مخابرات وكتبة تقارير، يصنفون الناس إلى طائعين وآخرين متهمين يتحتم عليهم إثبات الولاء. صيت ولد خالد خليفة في حلب عام 1964. كتب الشعر، والدراما التلفزيونية (قوس قزح، وسيرة آل الجلالي) وأفلاماً وثائقية، وقصيرة، وروائية طويلة (باب المقام)، حسب التعريف به في موسوعة «ويكيبيديا»، وأسس مع أصدقائه في جامعة حلب مجلة ألف؛ أول مجموعة قصصية له «حارس الخديعة» نشرت في 1993. روايته الثانية هي دفاتر القرباط وعلى إثرها جمدت عضويته من قبل اتحاد الكتاب العرب أربع سنوات، بعد أن نشر الرواية في 2000. حقق صيتاً كبيراً، بعد روايته «مديح الكراهية» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر العربية» في 2008. تزدحم رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» الصادرة حديثاً عن دار الآداب في بيروت، بالأحداث، تفتش عن مسيرة عائلية، تمتد حكاياتها في حلب إلى زمن، تباهي بأصولها، في المدينة ذات الطابع الارستقراطي، والذوق العثماني، والمطبخ العريق النكهات منذ آلاف السنين، تظل الأم تردد تلك المقولات على أبنائها، تحاول أن تورثهم إياها، غير واعية بأن الزمن قد تبدل، وباتت المدينة غير، ولم يعد لها الطابع القديم نفسه. كما حلب المتغيرة، تتبدل وجوه شخصيات الرواية، يبدلون أقنعتهم، يتناسخون الطباع أحياناً، يصير «العار» تاجاً يكلل الجميع في لحظة ما، لا ينجو منه أحد، وفي الوصول إلى تلك اللحظة محطات كثيرة، تمر بها تلك الشخصيات، فثمة تحولات بالجملة، دائرة مفرغة يقطع فيها البعض نقطة ما، ويظل يدور حتى يعود إليها، وكأن السقوط خيار لا مفر منه، والكلمة الأخيرة، وضعها راوٍ قاطع منذ اللحظة الأولى، وعلى الجميع أن يصل إلى خط النهايات الذي رسمه ذلك المتحكم بخيوط الحكاية. من حلب تنطلق الرواية، وإليها تعود، لكنها تحطّ في أمكنة عدة: نقطة حدودية ما بين سورية وتركيا، بغداد، بيروت، باريس، دمشق، وغيرها من المدن التي تفضي جميعها إلى حلب وناسها، وتحديداً تلك العائلة التي تلخص سيرة المدينة، وتتقاطع تداعيات البشر فيها مع انكسارات المكان منذ عقود بعيدة. مخاتل عنوان الرواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، يحمل في بنيته شعرية تنزف، يفوح بنكهة خاصة، يوحي العنوان بأن ثمة دماً في الطريق، ورغبة في الموت، وبحثاً عن أدواتها، ولكن الفقر ربما يقف حائلاً بين أصحابها وبينها، ولعل في الإشارة إلى قصة ذلك الحلبي الذي لم يجد ما يقتات به أهله، فقام بحرقهم، وبعدها دخل إلى مطبخه الخاوي واستل سكيناً وانتحر بعد أن أطلق صرخته الأخيرة: «إن الموت حرقاً أكثر شرفاً من انتظار الموت جوعاً، سائلاً بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة». ومن أجواء الرواية التي تقع في 255 صفحة «فكرت كثيراً بألم حياتي التي ارتبطت بانقلاب الحزب واستلامه السلطة، عشنا حياة موازية طوال عمرنا ولم نلتق. شعرت بإحباط سوسن وعدم رغبتها في الكلام، إلا أنها أضافت: أكثر من تسعين في المائة من السوريين عاشوا حياة موازية مع الحزب والنظام الذي حكم بكل هذا البطش ولم يلتفتوا، انقسم البلد إلى ضفتين، على الضفة الأخرى مرتزقة لا يعرفون شيئاً عن الضفة الأخرى التي تتناسل فيها الحياة، تجري بهدوء وبطء، وتعرف كل شيء عن ضفة أهل النظام، لم تكمل نظريتها، صمتت كأنها أخطأت حين قالت بأنها تريد العودة إلى ضفتنا. نظرت إلى عينيها، رأيتهما لأول مرة باكيتين، أحسست بهزيمتهما وخشيت عليهما من ردود فعلها، أنا أعرفها جيداً، لن تقبل أن تعيش كفأر محاصر، وهي الآن ضعيفة إلى درجة أن نسمة هواء تكسرها، وحديثها عن الضفتين وحياتها الموازية هو استرداد للمعاني المفقودة في حياتها».