القوات المسلحة الجنوبية تحبط هجوما للقاعدة في أبين    السكرتير السابق للشيخ الزنداني يكشف مفاجأة عن تصريحه المتداول حول ''عودة الخلافة'' في 2020    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    عن العلامة اليماني الذي أسس مدرسة الحديث النبوي في الأندلس - قصص رائعة وتفاصيل مدهشة    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    المهندس صعتر و جهاد الكلمة    أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ترحيل آلاف اليمنيين من السعودية    ريال مدريد يثأر من مانشستر سيتي ويتأهل إلى نصف نهائي أبطال أوروبا    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    نعيبُ جمهوريتنا والعيبُ فينا    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    الكشف عن استحواذ جماعة الحوثي على هذه الإيرادات المالية المخصصة لصرف رواتب الموظفين المنقطعة    حراس الجمهورية تجبر ميليشيا الحوثي التراجع عن استهداف مطار المخا    الحوثيون يضربون سمعة "القات" المحلي وإنهيار في اسعاره (تفاصيل)    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    الجنوب ومحاذير التعامل مع العقلية اليمنية    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    حكومات الشرعية وأزمة كهرباء عدن.. حرب ممنهجة على الجنوب    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    انس جابر تعبر الى ثمن نهائي دورة شتوتغارت الالمانية    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    إيران: مدمرة حربية سترافق سفننا التجارية في البحر الأحمر    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    باريس سان جيرمان يرد ريمونتادا برشلونة التاريخية ويتأهل لنصف نهائى دورى الأبطال    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءاة حول مجموعة (إضمامة نساء) للدكتور فتحي ليسير بقلم : سالم دمدوم
نشر في الجنوب ميديا يوم 18 - 12 - 2013

لمحت هذه المجموعة في إحدى مكتبات قصر مدنين ونظرا لكوني عرفت السيد فتحي ليسير باحثا في التاريخ مدققا في الآثار والمستندات والوثائق فقد بدت لي ليست بعيدة عن التحريض فاشتريتها لأسباب ربما كانت كما يلي:
1 – لأنها في إخراج جيد يكاد يكون جذابا.
2 - لأني "غاوي كتب" مسكون بالقراءة.
3 – وهذا الأهم إنها إبداعٌ لا تاريخ..
ووجدتني أتساءل بعفوية الملامسة الأولى:
هل أصبح المؤرخ مبدعًا... هل وقع اغتيال الباحث المحقق من طرف الحكايات والأساطير، هل أخذته إحدى متاهات التاريخ إلى مسارب أفضت به إلى عوالم أخرى؟
تحضرني الساعة أسطورةٌ صينيةٌ تقول: أن رساما فتح يوما بابا صغيرا في صورته الجدارية ودخل ثم أغلق الباب خلفه ومنذ ذلك اليوم لا الباب وجد، ولا رأى الرسام أحدٌ.
غير أن صاحبنا لم يغيبه الباب إلى الأبد. .. عاد سريعا وفي جرابه أحدوثات وحكايا يهدر فيها ضجيج الماضي، كما يهدر البحر في محارة ساحلية... عاد عن طريق القص ليحي تاريخا آخر لقصر مدنين، يتسلل عبر مسارب جانبية لإبراز المستور والحميمي والمسكوت عنه، يكشف تلك الأشياء والتصرفات التي يراها البعض صغيرة وتافهة وليست ذات قيمة ويرى فيها ذووا " النظر والتحقيق" مكثف سلوكياتنا ومفتاح شخصياتنا وفيها وحدها الصدق كل الصدق لأنها تفاجئنا حين نتجرد عن النفاق والكبرياء وادعاءات البطولة والصلاح.
منْ تعامل طويلا مع أحداث التاريخ، وأخضعها للشك، وأعمل رأيه فيها بتأن وعمق، ثم عايش عامة الناس ووعى مقولاتهم الممجّدة للماضي، المقدسة لبعض رموزه،لا بد أن تتكوّن له رؤية قد لا تكون متسقة مع رؤية الآخرين بالضرورة.
هذه الخواطر والتساؤلات كانت تناوشني وأنا أتناول المجموعة ، وسريعا ما اتخذت للتواصل معي طرائق بدت لي مقنعة. فعلاوة على جمالها الظاهري، وأناقتها من حيث الطباعة، كان عنوانها محرّضا واعدا بالجميل... "إضمامة..."
نقول عادة ذلك عن الورود، نهدي لمن نحبّ إضمامات منها نختار أنواعها بعناية، نزين قاعات جلوسنا بها لإدخال البهجة إلى بيوتنا ونفوسنا. ثم يزداد العنوان تحريضا ليصبح "إضمامة نساء" ويكاد يكون الأمر ملتبسا: ثمة احتفاء خاص بالأنثى في مجتمع ذكوري مازالت المرأة فيه مصدر أفكار ومشاعر متداخلة تختزن في معظمها ثقافة ألف ليلة وليلة...
من هنا خلت أن الكاتب قد أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن التاريخ والمؤرخ ويتجه وجهة أخرى، وجهة الشعر والإبداع صار المؤرخ المحقق في الوثائق والأرقام والمستندات مبدعا مدققا في الكلمات والجمل والأساليب لاختيار أدفأها وهجا وأشدها شفافية للتعبير عن العواطف والاختلاجات! كدت أسأله عن سبب ذلك. ولكن صدتني صرامة قاطعة في المنع متخذة من قولة "لارنست همنغواي" ركيزة وعنوانا للصد:
"أكتب نصك وألزم الصمت..."
عدت إلى شيء من العقلانية قلت:
وهل التاريخ في بعض صوره إلا قصصا مصنوعة تفتقر إلى الصدق في بعض الأحيان أليست مادته أحيانا أخبارا قد تكون مسيّسة يشط بها التعصب؟ ألم تكن عبارة عن تلميع صور وادعاء بطولات، الأحياء كتبوا عن الذين ماتوا! ألا يمكن أن تكون للأموات رؤية أخرى لما حدث؟ ألم يصنع خيال الرواة تاريخا لم يصمد عند النظر والتحقيق؟
وإذا فلا غرابة أن يكتب المؤرخ إبداعا. ووجدتني أتوقع نصوصا رائعة فمن خلال تجربتي (قراءاتي) أعلم أن أغلب روائع الأدب العالمي كتبها أناس لم يكن الأدب ولا تدريسه ولا نقده مهنتهم الأصلية ولا هو مجال اختصاصهم. كانوا هواة لا غير: أطباء، مهندسون، محامون، قضاة... وإذا فلا عجب أن يكون المؤرخ مبدعا.
ولعله من الخير أن يغيّر المرء اهتمامه بين حين وآخر كسرا للرتابة من ناحية وارتياضا للفكر من ناحية أخرى فالذهن السائر في اتجاه واحد دوما ينتهي إلى الهشاشة والضمور. وتعاطي الفن والإبداع خلقا وتقبلا يعيد للذهن بكارة التوهّج وعذريّة الانبهار أمام الأشياء الجميلة.
"وإذا كان التاريخ نهرا من الدم كما يقول "غيبون" فإن الفن " أشبه بأسطول من السفن البلورية تمخر ذلك النهر جيئة وذهابا وكل سفينة ترفع راية جديدة في كل سفرة جديدة وتحمل كنزا جديدا."
ووجدتني أعود بعد أن فقدت الحيرة مبرراتها إلى نصيحة ناقد قديم مفادها: أن أصوب طريقة للتعامل مع أي أثر إبداعي هو أن نعمد إلى قراءته قراءة جيدة بدون أن نتوقف لحظة عن تذوقه والاستمتاع به. فحاولت أن أقيم علاقة ود بيني وبين المجموعة ربما تجعلها تتيح لي بعض مراميها وبدائع فتونها ولذائذها وكم أسعدني أنها كانت سخية معي وفرت لي غذاء رائعا وسعادة حقيقية جعلت سفرتي معها بالقطار إلى مدينة تونس سفرة ممتعة ومفيدة... ما تمنيت مرة أن تكون طريقي أطول مما هي إلا ذلك اليوم من أواخر سنة 2005 حين كانت الإضمامة رفيقتي!
ثمة عبق ما يندلق خلال الأحداث تفيض به الصحف معتق الشذى مدوخ الأريج متواطئا ومحرّضا. ظهرت لي ملتبسة أحيانا بين الحقيقة والخيال وذلك ما أحدث في نفسي ذلك الوهم الجميل الذي يحدثه كل أثر جيد في نفوسنا وإذا بنا نندمج في عوالم متخيلة ونشيد في الذهن مدنا نشارك المبدع في إقامتها وتأثيث فظاءاتها بأحلامنا وأوهامنا نتسكع في شوارعها، نرتاد مقاهيها ومطاعمها، ندخل زحمة أسواقها، نشم عرق عمالها وعطور نسائها، ونستمع إلى أصوات باعتها وحكايات بطاليها، حيث حكايات صغيرة تافهة ولكنها تعري الكثير من سلوكياتنا وتفضح نفاقنا! وزاد إعجابي بها جرأتها وصدقها في تعرية المسكوت عنه واقتحام المحظورات أمكنة كانت أم أشخاصا أم خوالج تعتمل في النفس يسدل عليها النفاق الاجتماعي برنس العفة والوقار... فإذا بالمومسات والمواخير وأكابر القوم والمستضعفين، القسس والمتدينين، ضباط وجنود مخاز نية ورعاة فلاحين وتجار: قصر مدنين بما حوى كله تحت المجهر يجري فيه التدقيق والسبر والهتك والتعرية. وتتسلل الأشعة إلى أشد الزوايا ظلمة فتمزق عنها أغلال الزيف والوهم وتتبدى الحقائق بلا لثام. وإذا السؤال قائم ملح: أيهما الأكثر صدقا وأشد التصاقا بشخصياتنا؟ الظاهر المعلن أم الخفي المستور؟! من نحن؟ من ذهبية بنت الأزرق ومن رجال أولاد بلقا سم؟ ما الشجاعة وما الجبن؟ ما المرأة وما الرجل؟ !
"إضمامة نساء" هكذا يسمي الدكتور ليسير هذا العمل الأدبي الجميل الذي بين يدي... إضمامة نساء. يا لرقة المشاعر! هو حينئذ يقدم لنا باقة تسوية ورودها بطلات هذه القصص في هذه المجموعة التي لا أخفي أنها كادت تسكرني بعبق شذى عجيب فيه رائحة الحب والحناء وفيه التاريخ والتذكار. فيه تلك القدسية العجيبة التي تنطلق أحيانا من أضرحة الموتى وخرائب المدن وبقايا الحضارات!... يسكرني ذلك فيطوح بي الخيال وأغفل عن نفسي فيتخايل لي جدي أو جد جدي لابدا في الوادي الغرباوي في قيلولة صيف لافحة يتفيأ ضلال نخلة ينتظر حبيبة ضرب لها موعد غرام.... يا لروعة أحاديث جدي!... يا لطريقته المعتقة في مطارحة الغرام... يا لروعة حبيبته هذه المدنينية الشامخة كنخلة... يا لقدها الفارع... يا لصدرها، كم هو خصب مشاكس... وإذا نخيل لم يزل في ليلها همس قصائد غزل ينفلت في شذى مدوخ عتقته أيادي الخلود... وإذا هذه الإضمامة تنجح نجاحا كبيرا في إحياء الماضي وبعث شخوصه بيننا مفصحين عن كل عجيب من أمرنا وغريب... وإذا بنا نردد مع الشاعر القديم:
صحب الناس قبلنا ذا الزمان * * * وعناهم من أمره ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منه * * * وإن سر بعضهم أحيانا
أتجرأ الآن فاستأذن السيد الفتحي في فك الخيط الذي ينتظم هذه الإضمامة الجميلة ولعله يسمح لي بأن أختار بعضها لأجعل منه حديثا رأيت نفسي مدفوعا إليه دفعا حين أتممت قراءة هذه المجموعة.
حين انتثرت أمامي وتفرقت أزهارها وعبق عطرها، وجدتها مختلفة الأنواع مختلفة التربة ومختلفة الأصول. منها ما كانت أصيلة القصر سليلة تربته أبا عن جد كما يقولون. ومنها ما كانت وافدة من بعيد حيث اختيرت بذورها من أماكن قصية ومختلفة ومنها ما كان آت من وراء البحار وخلف الحدود ولكنه تنفس هواء هذا القصر وشرب ماءه وانغرس في تربته حتى نما وتفتح وأشاع عطرا وإعجابا أو شبقا وألما... ولم يتنكر مع ذلك لأصوله البعيدة ولا استطاع الانفلات من أقدار كانت بدايتها هناك في البر الفرنساوي دفعت به إلى نهاية مأساوية كما هي الحال في قصة "ايتيانيت" حيث اجترت البطلة عطوبا فضيعة كانت بدايتها في بعض معارك الحرب الأولى حيث فقدت حبيبها الأول وزوجها وشقيقها في جحيم " فردان".
لئن اختلفت المنطلقات وتباعدت أحيانا فقد اتحدت جميعها في العيش في قصر مدنين وحواليه اختزلت هموم الناس وأفراحهم وأتراحهم وأفصحت عن مستور خفاياهم.
كلنا لآدم وادم من تراب. والتراب أي تراب يحتضن الصلوات والخطايا. منه ينبعث وإليه يعود القديسون والأنبياء والأشرار والصعاليك، القادة والرعاة الحكام والمحكومون. وإذا فالإضمامة ليست إضمامة نساء كما توهمنا... هي إضمامة سلوكيات وطباع في النساء وفي الرجال معا... الرجل والمرأة وجها نقد كالخير والشر والجمال والقبح والنور والظلمة. ثنائية عجيبة عمر بها المهندس الأعظم كونه على هواه...
اتحدت واختلفت هذه الورود... اتحدت كلها في كشف نواحي من حياة الناس في قصر مدنين واختلفت رائحة وشذى، شأن الحياة نفسها وكما هي طبائع الأشياء في كل زمان ومكان. فليس ما تقوله قصة "تيريز" هو ما تقوله قصة "ايتيانيت" مثلا.
فإذا كانت تيريز أنثى مثيرة أحلام ومضرمة حرائق: خمرة فرنسية معتقة اختطف بريقها ألقا من أشعة الشمس الغاربة ، واختزلت إكسيرا مسكرا يصرع الألباب حتى قبل أن تنسكب في أقداحها ، شذاها وحده يحدث اشتعالات لذيذة ، ويحرك بركا ساكنة في أعماق الرجال! وإذا كان أهل السوق قد أحسوا من لظاها شيئا بين الصهد والدفء،وكانوا حيالها بين الفضول والاشتهاء، فإن القس "جان بوارن" لم يحمه ماء القداسة وبلل التقوى اللذان كان مسربلا بهما ، من أن يناله اللهب حتى يكاد يطال كل أخضر و يابس فيه.! لقد آسرته تيريز ودكت حصونه بعنف بجمالها ، وإتقانها لأساليب غنج ملتبسة بين البراءة والقصد، ورقة باريسية مغازلة ، تتقصد التحريض وتظهر العفوية والتلقائية ! فتنبجس الموسيقى من صوتها ، وتنفجر نافورات فرح في ظلام وجدان القس الشاب ، فيصير عاشقا حتى النخاع.
يعجب جان بوران بمحتويات صالون ماري تيريز وتتراءى له إفريقيا ارض الإلغاز والأسرار والإيحاءات وتتراءى للقارئ ولو من بعيد قصة اغتصاب هذه القارة من طرف المحتلين واخذ روائعها سبايا!
تلتحق ذات العيون الخضر بالقس المتيم فيسألها:
" ما سر شبابك الدائم؟... أي امرأة أنت؟... أنت اختلاجة راعدة، كائن جياش بحرارة الحياة وسحرها."
هكذا أصبح القس المتدين الورع عاشقا دنفا يرتل الشعر بدل الأناجيل والقداسات ويكاد أن يقترف الخطيئة لولا مجيء الزوج يشكو جوعا وما درى أن في الصالون وبين تلك التحف ثمة جوع آخر وثمة عاشقان يضطرمان جوعا لغير الطعام...
يتبدل المشهد وتمضي تيريز للعناية بضيوفها، طيفها وحده مازال يستبد بجان بوران ويؤرق لياليه.... فيخرج حين استبد به الأرق ليخلو بنفسه قليلا في ليلة مقمرة هادئة من ليالي الخريف حيث تتنفس الكائنات وهجا رومانسيا لذيذا وإذا همس امرأة ورجل يداعب مسامع القس، وبعد لحظات تضطرم نار حامية في فؤاده ! إنها تيريز مع عشيق! وإذا بطل آخر هو من أكل التفاح وليبوران الغيظ والحقد وسب الخطيئة والخطاءين.
"- الخيانة تكشر عن سحنتها الشائنة! أحببت الشيطان يا ساقطة. الغدر في دماء الحسان"
هكذا تتصاعد بعض حمم الغيظ والحقد التي كانت تصطخب في فؤاد العاشق المطعون وهو يتابع المشهد الحميمي الشبقي محدقا تحديق المخبول... هذا المشهد الذي أحالته دقة صنعة الكاتب إلى قصيدة حمراء شديدة الصدق شديدة الوهج قوية الإيحاء! إن حمحمة الجواد وهو يشاهد ما وقع رائعة موحية. والقلم الذي التقطها وسجلها في حينها قلم متمرس يعي جيدا ما يخط.
" الشبح يحتوي المرأة وهي تتراخى بين ذراعيه
جسدان متآلفان مندغمان
ملتحمان التحام الذوب
كتلة مشحونة بالتشنجات
انصهرت فيها اللدانة بالخشونة
آهات بطيئة خافتة، صرخات مكتومة
حمحمة جواد يرقب المشهد!"
في قراءاتي الشعرية لا أذكر إني وجدت قصيدا في الموضوع يضاهي هذه الفقرة شاعرية وجرأة وصدقا وتكثيفا...
حين كان القس بوران يستمع إلى رواية زوج تيريز المخدوع عن الليلة العسراء وهو الذي شاهد ليلا ما شاهد من أمرها، انسكب حمض على جرحه النازف وانغرست في فؤاده . نصلة مسمومة من جديد... سقط شدقاه وبرقت عيناه، داهمه فشل مرعب، كان لسان حاله يقول: إذن فمن ذكره الزوج هو بطل البارحة!..."
وتسقط قطعة البسكويت برقتها ولطافتها في زبدية الحليب، وتصبح للأشياء والأسماء رموزا ودلالات.
حين يصور الكاتب جمال تيريز ورقتها وغنجها، وحين يعري مشاعر "جان بوران" نكتشف قاموسا ثريا أتاح مجالا واسعا للاختيار فنرى لغة ناصعة جذابة شديدة الصفاء تصل حد الشعر في كثير من الأحيان مطواعة سلسة استطاعت أن تنقل لنا أدق الأحاسيس وأخفى المشاعر طازجة حية أشركتنا أو كادت في تجربة القس الشاب عاشقا وحاقدا منتشيا بإكسير الجمال ومطعونا بسكين الخيانة حتى الذهول. وفي زبدية اللبن تسقط قطعة البسكويت الصغيرة ويبقى الزوج مخدوعا وينتهي النص في هدوء صاخب مرعب عنيف.
هكذا تنغلق قصة تيريز وعلى صرخة مرعبة أليمة تنفتح قصة "نوة" .
لماذا يا ابن أمي...؟ لكم أحبكم!...
على هذه الحشرجة الحائرة المعذبة تنفتح القصة وتنغلق في الآن نفسه... تسكت نوة إلى الأبد... وتموت، وتبدأ القصة في الحياة لتكتمل في النهاية احتجاجا صارخا صارما ورجما لطقوس الرجال الممجدة لقمع الأنثى وقهرها باستمرار في ذلك المجتمع الذي تتخذه القصة مناخا ومسرحا لأحداثها. مجتمع قصر مدنين أجدادنا الصناديد!
" نوة" فتاة صغيرة رائعة الجمال لعائلة فقيرة، يتعلق بها شيخ ثري مزواج، ويطمع الأهل في ماله فيوافقوه، ولكن نوة ترفض.
نوة صندوق عاجي صلب مغلق على سر دفين! ... نوة طفولة مغدورة وبراءة يغتالها الجشع والزيف، عصفورة غافلة تنصب لها الفخاخ. " صبي يقاد إلى الختان "أثمه هوى أول؟ ربما؟ فارس أحلام من زمن الطهر والبراءة.
تُكرَه في النهاية على هذه الزيجة كرها، ليلة الدخلة يجعلنا الكاتب نسمع ضحكا صادرا عن الزوج الشيخ والعروس الصغيرة يستحيل قهقهة. حيث نتساءل ما سبب ذلك؟ ماذا وقع؟ ماذا شرب الزوجان؟ لماذا تندفع العروس مشقوقة السورية منفوشة الشعر؟ ثم نلمح صورة الجاني شقيق العروس يلتحق بها عدوا وجبته الصفراء يهزها الريح ثم تكون الكارثة: يقتل الأخ أخته العروس الصغيرة! ويكون آخر ما تنطق به هذه اللعنة الأبدية: لماذا يا ابن أمي. لكم أحبكم! وينداح خبر الكارثة ليغطي خبر فضيحة غاية في الرداءة فضيحة الحاج محمود جابر وفعلته مع الغلام ميلود بن خليفة بردعة الحذاء! وهي فضيحة لواط بالتأكيد...
تتداول النساء في ربوعنا مثلا حزينا يقول:
" كلّ قصّة تحتها غصّة"
مثل سائر بينهن يختزل عذاباتهن جميعا حيث كن باستمرار مقموعات لا رأي لهن ولا حول ولا طول نصرهن بكاء وبرّهن سرقة! متهمات دائما ناقصات عقل ودين والرجال وحدهم هم الطهر والبراءة دائما...
... وسرير واحد ضمهما. تسقط الأنثى ويحمى الرجل!
الموضوع متداول جدا إلى حد الاستهلاك ولكن هذا النص ناجح إلى حد الروعة...
شديد الصدق، شديد التأثير وشديد الإقناع أيضا! يشدك من السطور الأولى ويأخذ بجميع أفكارك وانفعالاتك فيثيرها ويؤججها بشيء كالسحر فتجد نفسك تعيش الأحداث وتحسها طازجة كأنما حدثت للتو وإذا أنت مجبر على اتخاذ مواقف من أبطالها تصل حد التطرف أحيانا... يأخذ بك عصف من الألم والغيظ والحزن والرثاء والقرف من تصرفات أبطال الحكاية. وتسعدك أحيانا هذه الصور الشعرية المبثوثة بسخاء عجيب طي هذا النص الصغير وهذه اللغة المشرقة إلى حد الإغواء أحيانا...
بسمة مسروقة من ثغور الملائكة.
غيمة ماطرة تستقر في ارض عطشى مشققة.
.. وجه مستدير أصم .. صبي يساق إلى الختان
إربدّ وجهه جراء لسع الإهانة.
هو يريد أن يكون الأول في الغوص في اللحم الريان والتلذذ بمشهد دماء العذارى مندلقة على الأفخاذ النضرة البضة!
هذه بتلات انتثرت من وردة من ورود الإضمامة فيها الطرافة والجدة والجرأة فبالرغم من قراءاتي المتعددة في القصة لكثير من الكتاب شرقا وغربا فإن هذا النص مثل لي في كثير من الأحيان إضافات رائعة فبالرغم من موضوعها المتداول كثيرا كما ألمحت سابقا إلا أني وجدت فيها شيئا مختلفا يكاد يكون جديدا. ثمة حبكة جيدة تجعل القارئ يندمج بين شخوص الحكاية بانبهار وشغف مشتبكا مع أحداثها إلى حد الحميمية والخصوصية... يحس ألما ويتنفس وجعا وقهرا.
ولعل أشد المواقف وجعا واحتجاجا ما تختزله هذه الكلمات حين تقول "نوة" في شكل مونولوج داخلي: "رضا الوالدين أهم شيء في الدنيا!... أنتما تخطان مصيري، وتسويان قدري! هكذا علمنا سيدي المؤدب عمار... قالت ذلك وهي رانية إلى الخارج بعينين هائمتين".
هنا يتكثف القمع الذي يمارسه المجتمع على الأنثى فإذا المؤدب ركيزة أخرى من ركائز هذه السلطة القاهرة وترسيخا لثقافة القمع والإلغاء.
لم يكن ما نلمسه في ظاهر القول من رضا نوة بما قرر الوالدان تسليما عن اقتناع، بل كان تسليما عن قهر وقسر حيث تألبت قوى الجشع والطمع في أسرتها ضد رغبتها كانت نظراتها التائهة المتطلعة إلى خارج الغرفة عويلا صامتا وتوقا مقهورا مكبوتا إلى الحرية وفضاءاتها المشرقة حيث تحلم هذه العصفورة الصغيرة بغصن آمن تستقر عليه، وفضاء حر تسرح فيه أحلامها بلا حدود.
لئن استطاع الكاتب ليسير أن يجعلنا ننتخي من أجل نوة ونتآزر معها في محنتها الرهيبة حيث جعلنا ننقم على هذه الأساليب البالية التي تعمد إليها الأسرة ونحتقر حد الكره والبغض هذا الأخ الفدم الجبان الذي لم يجد فضاء لإظهار رجولته وشجاعته إلا أخته هذا الملاك الصغير فنراه يمارس عليها أعتى طقوس الإذلال يلوي عظام عنقها الهشة مجبرا إياها على تقبيل حذاء هذا الشيخ البليد المرتخي الفك الفاقد للرجولة والشهامة والأبوة معا... فإنه ينجح مرة أخرى في تصوير نوة الصغيرة وهي تنفلت بين الأب والأخ في أشد حالات الانفعال والغيظ.
" خرجت نوة من الحجرة تعروها رجفة عارمة انثنت تمسح شفتيها في حركات عصبية متكررة كأنما تنزع عنهما أوضارا التصقت بهما... اتقد في نفس الصغيرة وهي تؤوب إلى الحجرة شيء غريب غامض تولاها إحساس جارف: أهلي يكرهونني بل يمقتونني.."
إنه أجمل تصوير وأدقه لرد فعل مراهقة صغيرة أحست بالقهر والظلم والتسلط من أناس كانت تظنهم لها الصدر والجناح فاستحالوا سماسرة أسال الجشع لعابهم وأعمى بصائرهم...
وتأتي الحكمة – ويا لشدة الرداءة – على أفواه السكارى كشأنها في بعض الأحيان:"الناس عبيد المال إلا من رحم ربك..." تذكر نوة هذه الحكمة في احتدام أساها وتحن إلى ذلك الخال الرائع السكير ناثر هذه الحكم وأمثالها، وتنشأ مفارقة عجيبة، أين الحكمة والحماقة في مجتمعاتنا؟ هل تظل المجتمعات دائما تفكر بحكمة وتتصرف بحماقة؟ مهما بلغت من شأو.
ما أشبه العقلية التي اغتالت نوة الصغيرة بالعقلية التي أحدثت فاجعة حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال".
لا يظنن أحد أن العقلية التي اغتالت نوة اختفت وطواها التاريخ... بل مازالت حية متواجدة بين ظهرانينا حتى هذه الأيام ! فمنذ سنوات قريبة جدا وقعت كارثة ككارثة "نوة" حيث اغتال أخ أختا له بدافع الحرص عن الشهامة والشرف! ..
مازال مبضع الجراح غائصا يمزق اللحم والأغشية ليتغلغل إلى أعماق سلوكياتنا القذرة وذلك عن طريق حديث ذلك "الحشري" الأمرد مع الشيخ المتصابي حيث يذكر له وصفة دله عليها مشعوذ مغربي تعيد للشيخ المنهك فعاليته الجنسية... يفرح بها الحاج سعد وينفح محمد الأمرد فرنكا كاملا في زمن كان للفرنك فيه بريق ورنين. وذلك لأن حرص الشيخ على امتلاك الصبية لا حدود له:
"وقع رفض الصبية من الحاج سعد موقع السياط، إربد وجهه جراء لسع الإهانة. قام يسن سلاحه تأهبا للمضي في المعركة من جديد..."
هكذا يشرح الكاتب عقلية الحاج سعد...
ذكرني شخصيا هذا المشهد بأحد مشاهد مسرحية تاجر البندقية " لويليام شكسبير" حيث نرى في قاعة للتقاضي المرابي "شيلوخ" وهو يسن سكينه على حذائه استعدادا لقطع رطل لحم من صدر غريمه.
إن شيلوخ والحاج سعد وأضرابهما الكثر وحوش بشرية تستطيب رائحة الدم وتستلذ لعقه وتسعد لاندلاقه! ويظل كل من فتحي ليسير ووليام شكسبير وغيرهما يلاحقون هذه الشريحة بالمبضع وآلة التصوير لفضح أساليبها وتسلط غرائز الشر عليها ويبقى الأدب هتكا للأسرار وتمزيقا للحجب كما يقول محمد مندور..
هندسة هذه القصة تختلف عن المألوف وتفصح عن قدرة على القص لا تتوفر لغير المتمرس عميق الاطلاع فأغلب رجال السرد يحرص على إبقاء نهاية القصة مندغمة في أنفاق التخمين والافتراضات متشحة بغلالات الغموض لشد القارئ إلى متابعة الأحداث في حين نرى نهاية القصة وشبه خلاصة لها مع السطور الأربعة الأولى ومع ذلك استطاع الكاتب باقتدار ملحوظ أن يشدنا إلى نهاية القصة ويجعلنا نتابعها بشغف كبير وتستحيل القصة للمتأمل الفطن هندسة مقامة في العمق تتقصد إنارة ظلمات المتاهة الثاوية في أعماق نفوسنا كبشر لاكتشاف العطوب والانكسارات والخسائر التي تصل إلى حد الإجرام خدمة لمفاهيم جامدة وعادات بالية ونفاق متعمد وشرف مزعوم جعل همه قهر الأنثى وممارسة أشد أنواع القمع والإهانة عليها!
لماذا يا ابن أمي؟ لكم أحبكم!
صرخة حائرة معذبة حزينة تزلزل الكيان وتمزق القلب تستحيل لعنة أبدية تطارد مجتمعاتنا حتى آخر الدنيا....
إذا كانت قصة حياة نوة تنغلق على هذه الصرخة الأليمة فإن أقصوصة "ايتيانيت" تنفتح على مشهد لا يقل عن ذلك إيلاما.
امرأة في بداية العقد الثالث معلقة في بيتها جثة هامدة.. فتاة شقراء بين النحول والامتلاء. شعرها بلون ألسنة اللهب حليبية البشرة.
" رقبة بيضاء كالجبن حبل غليظ يحز الجبن.
كل شيء يشير إلى أنها انسلت بسرعة الضوء مغادرة هذا العالم.
هكذا يستنتج الكاتب أو الراوي ثم يفتح البحث وإذا التواريخ تتوالى تباعا اليوم والشهر والسنة وحتى الساعات والدقائق تاريخ ميلاد الضحية، الطمث الأول، الحصول على الشهادة الابتدائية، لقاءها زوجها الأول جان بروفو، زواجها من جيرار بعد أن مات زوجها الأول، إنجاب الطفل الأول، تاريخ نطق الطفل بكلمة "ماما" لأول مرة، تاريخ مجيئها وإقامتها بقصر مدنين، تاريخ الوفاة!...
دقة عجيبة في سرد الأحداث والوقائع تشارك ولا شك بقسط وافر في إقناع القارئ بالحدث وتجعل الأمور ملتبسة بين الحقيقة والخيال وإذا المؤرخ والمبدع في تشابك أشد التباسا وإذا القارئ مندمج في الأحداث يتابع مسارها متلهفا على معرفة دواعي انتحار هذه المرأة التي ما تزال في ريعان الشباب وفي وضع عائلي يفترض أن يكون مريحا إن لم يكن باذخا.
ونبدأ في تقبل الأخبار، وإذا بها تأتي عن طريق ثلاثة مصادر لا غير.
زوجها جيرار وجارتها صولا نج ورسالة تركتها الهالكة فيها قصيدة شعر مبتورة...
في الرسالة نكتشف من جملة الأشياء صدقا عجيبا أثناء الحديث عن الآهلين من سكان مدنين، فهم وإن كانوا بعيدين عن الحضارة طيبون صادقون لا يضمرون أذى لأحد، محتفون بالغرباء طبعوا على الحفاوة والإعزاز ثم يبلغ الصدق مداه ويستحيل إلى محاكمة للمستعمرين وأفعالهم:
"هم أحسن منا، نحن دمرنا فيهم ببرود المجرمين العتاة أشياء رائعة، هنا اكتشفت زيف راحتنا وأكاذيب طمأنينتنا.
هكذا تقول "اتيانيت" هذه الفتاة الفرنسية المنحدرة من الريف الفرنسي على ما يبدو حيث الناس هناك ككل الريفيين مازالوا يحتفظون في أعماق نفوسهم بشيء من الصدق والبراءة. لم تدنس عفة مواقفهم عطالة المدن .
ونعود للرسالة مرة أخرى لنكتشف حالة من اليأس والقنوط استبدت بالمرأة حتى كرهت كل شيء ولم يعد للحياة مذاق أو إغراء... لا في ممارسة الحب ولا ملاعبة الابن واحتضانه! حتى الصلاة لم تعد تهب تلك الراحة النفسية التي تساهم في إشاعة الهدوء والاطمئنان في نفس المتعبد.
لا بد أن نتساءل ما سبب ذلك؟ لماذا ملت هذه المرأة الحياة وفي بيتها كثير من وسائل الترفيه؟
تتذكر " صولاغ" حديثا جرى يوما بينها وبين جارتها "اتيانيت" وإذا هذه الأخيرة تقول:
ما حدث في الحرب العظمى دمر حياتي... خطف الألمان مني زوجي جان ماري وشقيقي دومينيك زينة شبان" آغد" !
من هنا بدأت خيوط المأساة الأولى، وإذا الحرب في أي زمان ومكان شيء مدمر للذات يفتك بأرواح الأموات ويدمر نفوس الأحياء ويحدث بها عطوبا ويسبب لها كوارث لا تلد إلا مزيدا من الخراب...
خطفت الحرب منها أخاها – زينة شباب آغد – هكذا تقول وفي قولها هذا نلمس مدى إعجابها وحبها لهذا الأخ الذي هو أحسن وأجمل شباب قريتها ويترك ذلك في نفسها ندوبا غائرة. وخطف الألمان زوجها حبها الأول ومكان الحبيب الأول في نفس فتاة مثل "اتيانيت" من الصعب أن يملؤه رجل آخر"
حين قَرّرت الزواج "بجا كوب" صديق زوجي زجرني صوت داخلي: "اتيانيت حذار. عهدتك رصينة.
صوت الضمير يزجرها لأن منطقة ما بداخلها مازال يحتلها جان ماري ولكنها في لحظة ضعف أو نزق تسخر من الصوت وتطوح بإنذاره بعيدا وتقول باندفاع الأنثى في مثل هذه المواقف:
مات الضابط... عاش الضابط... قدري مع العسكر...
في هذه اللحظة يبدأ الفصل الأخير من مأساة هذه الشابة الفرنسية الشاعرة المرهفة الحس ذات الشخصية المثالية الأكثر هشاشة والأسهل انكسارا أمام الخطوب....
يقول الكسندر اليوت
لقد خلق الله لنا ضمائر مقرعة وهذه علتنا الكبرى.
هذا الضمير المقرع استيقظ أخيرا. لقد خانت ذكرى زوجها الأول بوجه من الوجوه.. وعادت باللائمة على نفسها ندما وتقريعا فأدمنت المخدرات وعن طريق الزوج جاكوب تأتي هذه المعلومة.
ونقرأ خلال ذلك وصفا دقيقا صادقا لحالة من ابتلي بهذا المخدر الفتاك...
هكذا تمضي "اتيانيت " مخلفة قصيدة شعر نستشف منها أن المرأة انتحرت عن قصد وتصميم وبعد تفكير عميق ... أسى يتضوع من هذا القصيد.. ذكرني بقولة "الفريد دي موسي" لا شيء يسمو بقلب المرء كالألم العظيم وأجمل ما يسمع من أغاني الحياة ما ينبع من هوة اليأس العميق تلفظه أنة معولة في نشيج أبدي أليم...
هكذا تنتهي القصة مخلفة لدى القارئ ألما يعصره بشده وحسرة وعاطفة رثاء عميق من أجل بطلتها، ومن أجل زوجها ومن أجل الصغير ابنها جوليان الذي لم يتجاوز العامين أو يكاد...
نتأمل بناء القصة فنجد هندسة تكاد تكون مبتكرة تخلصت من رتابة السرد وانفراد راو واحد بقص الأحداث بأن جعلت ذلك موزعا على مصادر أشرنا إليها قبل قليل مما أكسبها طرافة وحبكة متميزة تجعل قراءتها لأول مرة لن تكون الأخيرة...
مرغما أتوقف عند هذا القدر مكتفيا بنشوة هذه الزهرات القليلة.
مرغما قلت وأعني جيدا ما أقول فالاضمامة تشعبت في ذهني ومنحتني متعة واستحالت إغراء لمتابعة الحديث عنها وإشباعها لثما وضما فهي عمل أدبي رائع يثير كثيرا من التساؤلات ويتعرض لشتى القضايا وينفتح على أبعاد قصية حينا وقريبة حينا آخر يمسح فسحة من الزمن تقارب الثمانين حولا ويتحرك ضمن أمكنة تكاد تكون بمساحة العالم القديم بأسره.
عمل جدي مصنوع بدقة وصبر تدعمه فيما أرى فطنة وطول معاشرة لروائع القصص والروايات ومعرفة بأحدث أساليب السرد سمته احترام للقارئ وصبر على مقارعة صعوبات الخلق لحظة انكتاب النص وما يتطلبه ذلك من سهر واعتكاف في محراب الكلمة بما فيه من مكابدة وعذاب.
في الحرب وفي الإبداع، النصر يحرزه المكيث أما العجول المتسرع فقل أن يتجنب انكسارات الهزيمة.
مع اضطراري للتوقف فاني أريد أن أسجل في ختام هذا الحديث رؤيتي لقصر مدنين من خلال هذه القصص:
كان صامتا فتكلم وكان منبتا فصارت له صلات وأبعاد كان خاليا خربا فأصبح عامرا يعج بالأصوات والشخوص يتنفس صدى تراجيع الأحداث الماضية والحكايات المنسية. لقد بعث في ذهني على شكل مختلف صارت للقصر أبعاد ومسارب ومتاهات أخرى في الذهن غير المتاهات التي مازالت فيه قائمة أو تلك التي نالها الإصلاح والترميم بعد أن تخرمها الزمان. أصبح العادي والمألوف والجامد المسطح يمور حياة يحكي أحداثا ويحتضن قصصا تفصح عن حياة فيها مشاكل وعذابات وأفراح صرنا نعرفه بصورة أخرى كما نعرف حواري القاهرة وأزقتها من خلال "نجيب محفوظ" ورفاقه وكما نرى باريس ولندن من خلال "فيكتور ايقو" و"شارل ديكنز" و آخرون وكما نعرف لبنان وجباله وسنديانه من خلال "نعيمة" و"جبران" وأضرا بهما. كثيرة هي المدن التي نالت شهرة وعرفها الناس من خلال فنانين وشعراء وقصاصين أحبوها. فهل وجد قصر مدنين ابنا بارا أزال عنه الغبار ولمع صورته ومزق سجف النسيان حواليه فصار يمور حياة وقصصا وأغاني وحكايات حب ومواويل عشق وروعة. لقد صار القصر بهذا الجهد شيئا آخر جديدا ومختلفا توفر لنا عنه من المعلومات ما لم يوفره لا المؤرخون ولا رجال الجغرافيا ولا النسابون مهما كتبوا. سالم دمدوم 0 ⁄ 3 ⁄ 2006
متصفحك لا يدعم الجافاسكربت أو أنها غير مفعلة ، لذا لن تتمكن من استخدام التعليقات وبعض الخيارات الأخرى ما لم تقم بتفعيله.
ما هذا ؟
Bookmarks هي طريقة لتخزين وتنظيم وادارة مفضلتك الشخصية من مواقع الانترنت .. هذه بعض اشهر المواقع التي تقدم لك هذه الخدمة ، والتي تمكنك من حفظ مفضلتك الشخصية والوصول اليها في اي وقت ومن اي مكان يتصل بالانترنت
للمزيد من المعلومات مفضلة اجتماعية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.