حظيت شاعرات الإمارات بمكانة واضحة على خريطة الشعر العربي، وليس مرد ذلك يعود فقط إلى التطور الحضاري الذي تشهده دولة الإمارات العربية المتحدة على مختلف الصعد، وإنما لكون المرأة الإماراتية أسست وعياً ثقافياً واجتماعياً يتناسب مع هذا التطوّر ويسهم في تعجيل خطى التقدم أسوة بالرجل، وكان لتطلعاتها الثقافية ودأبها في العطاء حضورٌ بهيٌّ تجلى في جميع ميادين وفروع الثقافة والأدب بشكل خاص والشعر بشكلٍ أخص . وفي زمن ليس بالبعيد كانت الأمهات يهدهدن أولادهن بالأغاني الموروثة التي أصبحت جزءاً من التراث الشعبي الإماراتي، وكانت آذان الصبيات تطرب لذلك الرجع الحزين الحنون الذي يمتزج فيه حب الوليد مع الإيمان مع الشكوى من قساوة الظروف، ومما كن يرددنه من هدهدات مموسقة: "لا إله إلاّ الله / محمد يا رسول الله / حسبي ربّي جلّ الله / ما في قلبي إلاّ الله هوا هوا يا الهادي / محمد ساكن الوادي / هوا هوا يا سنادي / لا ماي ولا زادي" . كما كانت لقصائد النوخذة وهم يواجهون أقدارهم مع البحر والأماني بعودتهم سالمين، ما يشد نياط القلوب بمشاعر الوداع والإياب والحظ والسهر والانتظار وكانوا ينشدون: "دانة يا دانة البحر لا تامنة" . و"يا مال يا مال أووه يا مال / يا عمة الخير لا تستعين بالفرقة /بيني وبين الأهل لابد من الفرقة" . كما كان لبواكير التعليم في دولة الإمارات منذ منتصف القرن العشرين، ودفع الأسر الإمارتية لبناتهن للتعلم والتدرج العلمي أسوة بالبنين أثر مهم في حياة الإماراتيات، ما هيأ الأرضية الصحيحة لتعليم المرأة وانفتاحها على عالم الثقافة والعلوم والآداب . وغير بعيد شاعرات إماراتيات رائدات كان لهن حضورهن المميز ونلن من الحكام والمجتمع كل دعم وتشجيع كانت أبرزهن الشاعرة الرائدة عوشة بنت خليفة السويدي رحمها الله والتي حظيت بلقب (فتاة العرب) . من هذه المنابع نهلت الشاعرة الأماراتية ومن منابع التراث والأدب العربي وممن سبقنها من الشاعرات العربيات كنازك الملائكة وفدوى طوقان، ولميعة عباس عمارة، وسعاد الصباح، وغيرهن ممن شكل شعرهن حضوراً مميزاً على خريطة الشعر العربي . إن الفرص السانحة التي أعطاها الحراك الثقافي والأدبي للمرأة الإماراتية منذ فجر النهضة إلى الآن لا سابق لها في أي مجتمع عربي، فقد نالت المرأة الدعم غير المحدود على صعيد النشر والمشاركة في الأماسي الأدبية والشعرية، وتحفيز طاقاتها من خلال الجوائز الأدبية إلى غير ذلك من فرص حرصت الشاعرة الإماراتية على الإفادة منها، وهي تشق طريقها في عالم الإبداع أسوة بالشاعر الإماراتي، تملأها الثقة بالنفس مصرة على مواصلة مشروعها الإبداعي غير آبهة بالشكل العروضي تارة وراجعة له تارة أخرى، شاغلها الأهم هو أن تفرغ مكنوناتها الشعرية، وتعبر عن ذاتها الشاعرة بشجاعة تستحق الثناء . لقد شهدت الساحة الثقافية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وخلال السنوات الأخيرة العديد من الوجوه الشابة، جيل إثر جيل يضاف إلى جيل الريادة القريبة، شابات بعضهن معلمات أو مهندسات أو طالبات جامعة يوقعن إصداراتهن الشعرية وسط حفاوة المشهد الثقافي، وكل واحدة منهن تقول لك هذه أنا وهذه قصائدي . وتشارك الشاعرة الإماراتية في جميع المحافل والملتقيات الشعرية التي تدعى لها خارج الإمارات في الوطن العربي أو في العالم، وهي ذات حراك متبادل مع شعراء وشاعرات الإمارات الأخرى داخل الاتحاد،كما صدرت العديد من الدراسات والبحوث النقدية عن تجارب الشاعرات الإماراتيات . لقد تنامت عضوية الشاعرات في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وفي برامج هذا الاتحاد حضور مميز وواضح للمرأة على مستوى النشر أو المشاركة في الأماسي والندوات، أو على مستوى قيادة الاتحاد . والذي يحضر معارض الكتاب في دولة الإمارات سيلاحظ أن الشاعرة الإماراتية مميزة في حضورها سواءٌ على صعيد القراءات الشعرية، أو على صعيد الاحتفاء بتوقيع إصداراتها، كما تشهد هذه المعارض حضوراً نسوياً لافتاً كزائرات أو إداريات . حوافز أخرى إن الحراك الثقافي الكبير الذي تشهده دولة الإمارات العربية المتحدة الذي صاحب التطور والنهوض العمراني والاقتصادي أنعش الحراك الاجتماعي، وصاحب ذلك العديد من القوانين والتعليمات التي تعزز تمكين المرأة، ومشاركتها في بناء المجتمع . المرأة الإماراتية اليوم تشارك في قيادة المجتمع والدولة، ولها مقاعد في كل المجالس ووراء عجلة القيادة بدءاً من السيارة إلى الجامعة، وكل هذه الصور تنعكس على وعي الشاعرة وإدراكها وتعزز ثقتها بنفسها لتكتب بكل ما تحمله من مشاعر أنّى وكيف تشاء . تجربة الشاعرة الإماراتية بلا شك هي امتداد طبيعي لتجربة الشاعرة العربية وإحدى مرجعياتها الثقافية سواء في عشق الوطن أو الأغراض الأخرى . قالت فدوى طوقان بعد عودتها إلى فلسطين "الآن عدت من مشوار، كان القمرُ مكتملاً والهواءُ محملاً بخليطٍ غريبٍ من عطور والجوري الياسمين وزهرة النسيم مما تتنفسه حدائق الأرض المحيطة، خلال مشواري كنت أقف لأتملى الأرض، التهمها بحبي أعبُّ هواءها حتى الارتواء، أتطلع إلى الجبال وأتمنى أن ينتهي عمري عند إحدى قمم عيبال أو جرزيم، إن الموت شهيٌّ في مكان تبعث الأجساد في تربته زهوراً وزعتراً برياً، وياما أجمل بلادي، كيف يمكن أن أموت في غير أرضها؟" وهي القائلة: ستنجلي الغمرةُ يا موطني ويمسحُ الفجرُ عواشي الظُّلم والأمل الظّامئُ مهما ذوى لسوفَ يروى بلهيبٍ ودم وقالت لميعة عباس عمارة: هلا وعيوني بلادي رضاها وأزكى القِرى للضيوفِ قراها بلادي ويملأَني الزهوُ أَني لها أنتمي وبها أتباهى وكثير من شاعراتنا العربيات منذ فجر النهضة إلى وقتنا الحاضر كتبن للوطن أحلى وأعذب القصائد ووقفن مع قضاياه في السرّاء والضراء مسجلات دوراً وطنياً مشرفاً لا يقل عن دور الرجل رغم أن الرائدات منهن برزن في ظل ظروف اجتماعية صعبة تجاوزنها بجدارة لفتت أنظار المؤرخين . لقد قرأت الشاعرة الإماراتية تجارب الشاعرات العربيات، وهن يضعن الوطن في بؤبؤ العين فكيف لا تكتب لوطنها، وقد توّجها أميرة وأحبها فارسة شجاعة ووضعها في بؤبؤ العين؟ وقبل أن نستعرض بعض النماذج من قصائد أو مقاطع شعرية للشاعرات الإماراتيات، لابد من بعض الإشارات النقدية التي أراها قد تفيد . المرأة . . . الرجل . . . الوطن ما يزال النقد العربي على الرغم من القامات الأكاديمية التي انضمّت إليه، أقول رغم ذلك ما يزال يرطن بمسألة الذكورة والأنوثة في الأدب، ولم يتخلص من النزعة التي يرى من خلالها تفوقه ناسياً أن تحرر المرأة من نير العادات والتقاليد التي كانت تعزلها عن حركة المجتمع وتحول دون مشاركتها الحيوية فيه، قد منحها التفرد الإنساني وجعلها صنواً له في الحركة والإبداع ولا يلغي ذلك خصوصيتها التي تجيء في الكثير من الأحيان لمصلحة الشعر، فالرقة والعاطفة الأمومية والاهتمام بأدق التفاصيل والشعور بالآخر كلها عوامل وحوامل للإبداع على عكس ما يتصوره الرجل . إن (حواء) من مصدر حوى بمعنى المكان الذي يحوي الشيء و(الحِواء) بيوت الناس من الوبر مجتمعة على ماء، والجمع أحوية، وحواء أم البشر واسم أول امرأة على الأرض، وفي اللغات السامية تعني (الحياة) . ودليل على ما أقول أن المرأة الشاعرة كتبت في جميع الأغراض التي كتب بها الرجل على مر العصور، وأبدعت في تصوير عوالمها الذاتية وحنانها وشغفها وحسها العاطفي . لقد رسم النقاد صورة باهتة للمرأة الشاعرة جلُّها انعكاس لما يتطبع به هو من نزوع مادي في غزله وحبه للمرأة، ونادراً ما يجسّد هذا الحب دون أوصاف ظاهرة كالقد المياس والخد المورد، ونسوا أن نظرة الحب عند المرأة هي نظرة روحية تميل إلى الحب العذري الصافي النقي . ومن نافلة القول إن تبعات النقد القائم على المزاج والنظرة القاصرة من قبل الرجل للمرأة جعلتها أمام خيارين الأول التجاوز واعتماد الثقة بالنفس، والثاني النقد الواضح للرجل والسخرية من نظرته القاصرة . نحنُ لا نُعجَب بما لا نفهم . . ولكي لا أخرج كثيراً عن الموضوع الأساسي، أتطرق إلى ملاحظة أخيرة تبدو واضحة على شعراء وشاعرات العقود الثلاثة الأخيرة وهي من تبعات النقد الأدبي القاصر، فباسم الحداثة غرّبوا القصيدة العربية وجعلوها ضبابية المنحى، وعابوا على الشاعر أن يكتب لوطنه أو رموزه وإن كانت تستحق أن يكتب عنها . ولم تنج قصائد الجيلين الأخيرين من الشعراء وخاصة الشباب منهم من تغريب وسريالية شعرية ليس لها أول ولا آخر حتى صارت القصيدة مبهمة لا يفهم منها القارئ شيئاً حتى لو استخدم كل طرائق التأويل . تقول الشاعرة الأمريكية ماريان مور 1887 1972 "نحنُ لا نُعجَب بما لا نفهم" . حين أشير إلى هذا التوهان لا أعني أن تتحول القصيدة إلى نص مباشر فج خالٍ من الإبداع والبلاغة، ليرجع الشاعر إلى رموز الشعر العربي التي تخلدت فهل يغشى عيونه الضباب؟ المرأة . . . الوطن . . .الأسرة رهافة المرأة وكونها (حواء) الحاوية لأفراد الأسرة وهمومها والبانية الأولى لنشأة أطفالها (حتى وإن كانت لديها مهام خارج البيت) والمشغولة بالبيت مايدخل فيه من معطيات وما يخرج منه، كل ذلك يمنحها شعوراً إضافياً بالحرص على البيت ومستقبله ومستقبل أفراده، لذلك فهي تستشعر عن بعد أي خطر يداهم الوطن، فالوطن بالنسبة لها ليس فقط المساحة الجغرافية المعترف بها دولياً بما تحتويه من خيرات ومنجزات، بل هو أيضاً البيت والأسرة وسرير الطفل وأصايص الزهر وضحكة الوليد . هي تقدّر ارتباط الأسرة بالوطن أكثر من الرجل، وهي تدرك أيضاً أن التحديات التي تواجه الوطن تواجه الأسرة الصغيرة وحياة ومستقبل أفرادها، قد تكون الفاصلة بين إدراك الرجل وإدراكها درجة بسيطة، ولكن هذه الدرجة تجعل من المرأة سياجاً أميناً للوطن تدافع عنه بروحها، وتشارك في بنائه وتحقيق سعادته ورفاهه، الوطن بالنسبة للمرأة هو الحبيب الأول، فما نفع الحبيب إذا كان رجلاً بلا وطن . تناولت الشاعرة الإماراتية العديد من الأغراض الشعرية ولم تترك زاوية في الحياة إلاّ والتفتت لها لتحول مكنونات روحها فراشات تحلق في سماء الشعر، توق للسمو، رفض وتحد أحيانا، همس خفي أحياناً أخرى، وجع قومي أو توله صوفي إلى غير ذلك من الأغراض السامية، بلغة رشيقة دفّاقة، تستلهم الماضي وتؤسس مباهج للحاضر والمستقبل بطموح مشروع وأمل واعد . أحلام تجسدها لغة الممكن ووقائع ممزوجة بلغة الخيال، لا مستحيل أمام الاقتدار الشعري، ويبقى الوطن في جمّار القلب وبؤبؤ العين . تقول الشاعرة صالحة غابش في قصيدة (وجهك أنت يا وطني): "يدقُّ الفجرُ بابَ الحلمِ والوسنِ بصوتٍ هامس الأوتارِ يوقظني أفيقُ وصوتُ أمواج الحياةِ صحا وذكرُ اللهِ في الأعماقِ يغمرني ويلقاني صباحٌ ضاحك فمهُ فذاكَ الصّبحُ وجهك يا وطني" ما أروع ما يصحو المرء على وجه الوطن الحبيب بكل مافيه من عذوبة ودفْءٍ وأمنيات . أما الشاعرة أسماء الزرعوني فقد خامرتها مشاعر الحنين إلى الوطن في رحلة ما، فاستدعت القصيدة لنجدتها من ذلك الحنين حيث قالت في قصيدة (انزلاق): "جدران السعادة تلتوي في لحظات الضعف لن أهجره حتى تكتمل القصيدة البحث عن الوطن شعورٌ يتفجّرُ في أعماقي حولي متفرجون في أي مدينةٍ أُلقي بجسدي هل أفيقُ من البحث؟ واستوطن مدينتي" هنا تتحول الكلمات إلى شظايا، في الغربة تتفجر المشاعر ولكل انفجار شظايا، هكذا أحس بأنها شظّت بوحها خلال لحظات الغربة والحنين . ونعود إلى القصيدة المقفاة عند حصة العسيلي حيث تقول: "سلام الله يا وطني على عهدٍ مضى فينا زرعنا أرضهُ حباً وروتهُ مآقينا فجيلُ اليومَ يجهلنا بنكرانٍ يجازينا ويجهلُ أننا كنا لمحياهم قرابينا لماذا اليوم يا زمنٌ تغيَّر كلُّ ما فينا؟" هنا تستدعي الشاعرة وطنها لتعاتب من خلال حضوره في النفس الجيل الجديد الذي بدأ بعضه ينشغل عن الوالدين بأمور أخرى تلهيه عن الواجب الأخلاقي والديني تجاههما، والقصيدة تحاول أن تبالغ من أجل أن تستفز وتحرض القارئ كي يلتفت لهذه الصورة، وإن كانت في واقع الأمر لا تمثل كل الواقع، هذا ما ذكرته عن استشعار المرأة بالخطر قبل وقوعه . وتقول الشاعرة حمدة خميس مناجية (الحبيب الوطن) من قصيدة نشيج المَلَك: "سلامٌ عليك كأعذبِ ما يُقرئُ العاشقون السلام سلام على زرقتك الحالمة وهمس الرياحِ بأعماقك الهائمة سلام على هسهسات الصدفات إذا مسَّها الموجُ غنّت . . ." عذوبة متناهية في استرسال يشف عن الوجد والتوجد حد الوله، تمنيت أن يتسع المجال لكل هذه القصيدة المغزولة بحروف من حرير، منديلُ عاشقةٍ على شواطئ الوطن الجميل . وتقول خلود المعلا في قصيدتها (المُنزّل من الماء): "عرفت قبل الكون أنّك آتٍ من أوحى لأصابعك أن تسرق صبري؟ أنت المُنزَّلُ من الماء ابسط لي قلبك مدَّ روحَك لي ارم توبتك على قدري اجعلني الحارسة على شمسك امنحني هواك يا ذا الطالع من كتابي المقدس بك تدخل الروحُ مواسمها ويخضرّ البحر . . ." هذه المناجاة الشجية للوطن الحبيب أو الحبيب الوطن تمنيت لو أترككم معها حتى الرمق الأخير غير أن المساحة لا تتسع لكل الانهيالات ولا لكل الشاعرات . وكم تمنيت أن يتسع المجال لنماذج من شعر جميع الشاعرات الإماراتيات، ولكن لا حيلة لي وعددهن لا يستوعبه كتاب ولا صفحة كهذه . أما مسك الختام فهو لشاعرةٍ إماراتيةٍ تعيش خارج الوطن لكن روحها فيه وهو في روحها يتألق بقصائد من خيوط الشمس، إنها ظبية خميس الشاعرة الإماراتية المعروفة، تقول في قصيدة (باب): "كلما أغلقتُ باباً ينفتحُ أمامي هدير هذا ليس ينبوعاً ولا نهراً إنه بحرٌ يهدر سيلٌ جارف وأنا لا أعرف كيف أغلقُ هذا الباب ولا أعرفُ كيف أسبح في هذا البحر ولا أعرفُ كيفَ أسدّ هذا السيل هكذا هو حبّك في قلبي" .