الرئيس الزُبيدي يتفقد سير الأعمال الجارية لإعادة تشغيل مصافي عدن    وزارة العدل وحقوق الإنسان تدين العدوان الصهيوني على محافظة الحديدة    الرئيس المشاط يعزي في وفاة الشيخ مسعود بن حسين شثان    تدشين مشروع تركيب إشارات المرور في مديرية صيرة    توكل كرمان.. والراقصة المصرية التي تقيم افطار صائم من مال حرام    القوات المسلحة تستهدف بخمس طائرات مسيرة أهدافا حيوية للعدو الصهيوني    الإمارات ترسل سفينة محملة ب 7166 طنا من المساعدات إلى غزة    تدشين مشروع توزيع كفالة اليتيم السنوية لعدد 1110 من الأيتام المكفولين بمأرب.    المحرّمي يبحث مع وزير الأشغال واقع البنية التحتية وأولويات مشاريع الطرق في المحافظات المحررة    أرتيتا سعيد بحسم الصفقات الجديدة لأرسنال مبكرًا    إلى أين تذهبون بنا يا أصحاب القرار في ملف الكهرباء؟    الشيخ الجفري: تضحيات شهدائنا تلزمنا الاصطفاف خلف قيادتنا    امانة الانتقالي تحذر من الانفجار الشعبي وتطالب بحلول جذرية للأزمات في الجنوب    غارات على ميناء الحديدة    إطلاق النار في المناسبات... ضعف ثقافة وغياب للردع!    قصف إسرائيلي على دير البلح وسط قطاع غزة    هل تسبب فرقعة الأصابع التهاب المفاصل؟    صرخة جوع وقهر… لا خزي فيها ولا عار    بذور اليقطين.. الوصفة الكاملة من أجل أقصى فائدة    أسعار الذهب اليوم الإثنين 21-7-2025 في اليمن    غزة هي بداية النهاية 1-2    عدن.. سجن مفتوح للجوع والخذلان    دراسة تكشف حقائق "صادمة" عن طب "العصور المظلمة"    فتح باب التظلم للثانوية العامة وطريقتها    رغم تلقيه ضربة في الوجه.. تصرف نيمار مع مشجع اقتحم الملعب    دراسة أسترالية: البيض لا يزيد من الكوليسترول الضار    النصر يطير إلى النمسا.. والعروض أمام المبعدين    المرة 18.. كلوب بروج بطل السوبر البلجيكي    بعد اعتذار الهلال.. الاتحاد السعودي: نؤكد احترام الأنظمة وحماية المصالح    وزير الثقافة: المحتل هو من جلب المآسي والأوجاع للمحافظات المحتلة وأبنائها    تعز .. قوة عسكرية تختطف ضابط أمن من وسط مدينة التربة    اخر مستجدات إعادة فتح طريق حيوي يربط بين جنوب ووسط اليمن    في كلمته بذكرى استشهاد الإمام زيد عليه السلام .. قائد الثورة : موقفنا ثابت في نصرة الشعب الفلسطيني    وزيرا التربية والصحة ورئتيس مصلحة الجمارك يفتتحون معمل الحاسوب بثانوية عبدالناصر للمتفوقين بصنعاء    عدن.. خزانات مياه صلاح الدين مهددة بالانهيار بسبب أعمال إنشائية أسفلها    الرباعي والحوثي يناقشان أوجه التعاون في مجال مكافحة التهريب    تعز تشكو المدخل و صنعاء تشكو المخرج !    الأنظمة المأزومة إلى أين..؟ّ!    كتاب قواعد الملازم.. وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن " بول دريش جامعة أكسفورد" (5)    غزه تموت جوعاً    فتى المتارس في طفِّ شمهان .. الشهيد الحسن الجنيد    جوهر الجنيد من الصراري إلى كربلاء.. شهيدٌ على خَطِّ الإمام زيد    من فهم منطلقات العدو إلى بناء الوعي السياسي.. مقاربة تحليلية من فكر الشهيد القائد رضوان الله عليه (2)    في مسيرات "مستمرون في نصرة غزة ومواجهة الاستباحة الصهيونية للأمة".. أبناء اليمن يصدحون: معكِ يا غزة .. موقفنا ثابت    مرض الفشل الكلوي (13)    تقرير حقوقي يكشف عن انتهاكات فضيعة لحقوق الانسان في السويداء    الحكومة: مليشيا الحوثي تستغل تجارة المشتقات النفطية لتمويل أنشطتها الإرهابية    السيد القائد: نحيي ذكرى استشهاد الامام زيد كرمز تصدى للطاغوت    المحمدي يطمئن على صحة الكابتن أحمد معنوز ويشيد بعطائه الرياضي والنضالي    إب.. عصابة حوثية تعتدي على موقع أثري في مديرية السدة    ميسي يواصل الإبداع في خماسية إنتر ميامي بالدوري الأميركي    مجلس عزاء في نيويورك بوفاة البرلماني زيد أبو علي    سهول دكسم.. في الجزيرة العذراء سقطرى    حروب اليمن على الجنوب ليست وليدة اليوم بل منذ ما قبل ميلاد المسيح (ع س)    عناصر مسلحة تطرد المنتخب الأولمبي من معسكره التدريبي بمأرب    هل فعلاً الإفطار أهم وجبة في اليوم؟    الإسلاموية السياسية طائفية بالضرورة بغض النظر عن مذهبها    فتاوى الذكاء الاصطناعي تهدد عرش رجال الدين في مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رفاق القذافي يكشفون أسراره الرهيبة تحت الخيمة
نشر في الجنوب ميديا يوم 03 - 12 - 2012

براقش نت - متابعات : الحوارات الخمسة التي كان أجراها غسان شربل، رئيس تحرير «الحياة» مع خمسة سياسيين رافقوا الزعيم الليبي
معمّر القذّافي، جمعها في كتاب صدر عن دار «رياض الريّس» بعنوان «في خيمة القذّافي - رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده». والحوارات التي نُشرت على حلقات في «الحياة» كان لها صدى عربي وعرفت إقبالاً كبيراً من القرّاء، نظراً لكشفها أسراراً وخفايا أحاطت بسيرة القذّافي، شخصاً وزعيماً، وإنساناً غريب الأطوار. أمّا السياسيون الذين أُجريت الحوارات معهم، فهم: عبدالسلام جلّود، عبدالمنعم الهوني، عبدالرحمن شلقم، علي عبدالسلام التريكي، نوري المسماري. ويوقّع شربل كتابه في معرض بيروت للكتاب مساء الثلثاء 11 الجاري.
وكتب شربل مقدّمة شاملة للحوارات رسم فيها صورة نموذجية للقذّافي كما استخلصها بوقائعها وتفاصيلها، ونظراً إلى أهميّة هذا النصّ ننشره هنا.
لا يلتفت المستبدُّ إلى ساعته. شمسُه لن تغرب. أوفدهُ التاريخ في مهمة مفتوحة. كلّفه إعادة اختراع بلاده، إخراجها من ركامها، من خوفها المزمن وانتظارها الطويل. كلّفه وأطلق يده. تفويضه وافدٌ من رَحِمِ الأمّة. لا يحتاج إلى استجداء الشرعية من «العملاء» و «العبيد» و «الجرذان» و «الكلاب الضالّة».
«القائدُ التاريخي» نكبة تاريخية. أدرك باكراً مقدار عطش العالم إلى الذهب الأسود فأطلق العنان لجموحه. لا احترام للقواعد والأعراف والمعاهدات الدولية. سيحاول إذلال الآخرين. سيتعمّد التأخير ويترك ليونيد بريجنيف ينتظره. سيقطع محادثاته في الكرملين الشيوعي لأن موعد الصلاة قد حان. سيستخدم منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاولة تمزيق ميثاقها ورميه أرضاً. سيأمر بخطف وزراء «أوبك» في 1975. سيفجّر الطائرات المدنية. سيعير ثورة الخميني الصواريخ التي استخدمتها في قصف بغداد والمدن العراقية الأخرى.
كان مصاباً بمتعة إذلال الآخرين. أمام الكاميرات وضع حذاءه قبالة وجه طوني بلير. وأمام الكاميرات تقدّم منه سيلفيو برلسكوني وقبّل يده. كوفي أنان دخل خيمته مرعوباً بفعل مكيدته. سيرسل قواته إلى أوغندا لنجدة عيدي أمين. ستجتاح قواته جزءاً من الأراضي التشادية.
عقدة الخيمة لازمته في أسفاره. سيحاول هذا البدوي نصب خيمته أمام قصور الرئاسة في العواصم التي يزورها. كادت الخيمة تطيح زيارته إلى روسيا لولا تدخل فلاديمير بوتين. رجل يعشق الإثارة والضجيج والأضواء والفضيحة. في مؤتمرات القمة يبتهج بحشد المصورين وفلاشاتهم. يسرق الأضواء بملابسه الغريبة وحركاته المستهجنة ومداخلاته التي يصعب توقع مضمونها. يكره ياسر عرفات بسبب رمزيته. ويكره صدام حسين الذي لم يتردد في الاستخفاف به وبالاسم الشاسع ل «الجماهيرية». يخاف الأميركيين لقدرتهم على الوصول إلى غرفة نومه.
شاهد الآلة العسكرية الأميركية تقتلع صدام حسين ونظامه. واظب على حضور جلسات محاكمة المستبد العراقي كمن يتحسس رأسه. في القمة العربية في دمشق خاطب الحاضرين قائلاً: «إن الدور سيأتي عليكم». شيء ما في داخله كان يقول له إنّ أجراس نهايته بدأت تدق.
مقامر فظ لا حدود لحقده. يكره الاعتدال والمعتدلين. حلم طويلاً بتقسيم السعودية. حاول اغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز. وحاول ذات يوم إقناع زائر سعودي بارز بترتيب انقلاب في بلاده فضحك الزائر طويلاً من اقتراح الرجل المريض.
اعتبر الزعامة العربية حقاً من حقوقه بسبب جملة إشادة صغيرة أسبغها عليه جمال عبدالناصر، ولهذا السبب حاول الحضور في لبنان «مصنع الزعامة العربية»، لكنّ لعبته تكشّفت باكراً. تعامل كثيرون معه بوصفه مهرّجاً، أو جامحاً. عثر بالتأكيد على شعرائه ومدّاحيه وحَمَلَة المباخر. لكنّه عاد من الرحلة خائباً بعدما أنفق ثروات في محاولة شراء الذمم واستئجار الضمائر. يئس من العرب فاتجه إلى القارة السمراء. عثروا له هناك على تاج وصار اسمه «ملك ملوك أفريقيا». كان يستمتع باحتقار قادة القارة. يستيقظ ويقول لأمين المراسم: «هات العبد» ويقصد الرئيس الأفريقي الزائر. وفي نهاية المقابلة يقول: «ذهب العبد أعطوه شيئاً».
لا يحتاج المستبد إلى استجداء التفويض. وإذا كان لا بد من مسرحية فلا مانع. دستور جبان يشرعن التسلط، وكتيّب أخضر يشبه ما ارتكبه ماو تسي تونغ وجوزف ستالين ويتخطاه، وبرلمان محشو بالمصفقين لا يجتمع إلاّ ليجدد مبايعة سيّد البلاد والعباد.
«القائد التاريخي» لا يخطئ. لا يشيخ. ومن صلاحياته التلاعب بالفصول، وتغيير مسارات الأنهار، وطرد التجاعيد الوافدة إلى وجهه. جاء ليقيم. يشمّ رائحة الأخطار قبل استفحالها، يشمّها لحظة ولادتها، والعلاج حاسم وقاطع: لا مكان في بلاد «القائد التاريخي» لسبابة ترتفع أو لنظرة تشكيك. سيذهب أبعد من ذلك، سيفكّك الجيش الذي أوصله إلى القصر. سيحوّله ألوية يوزّعها على أبنائه. سيفكّك الدولة، وسيجعل الفوضى هي القاعدة. سيسمّم العلاقات بين القبائل وأفخاذها.
في بلاد «القائد التاريخي» لا مكان للحياد. تعمل في خدمته فيغرقك بعطاياه أو يسد جوعك بالفتات. تبتعد عنه فيحل عليك غضبه. وإن جاهرتَ بعدائك تنتظرك رصاصة أو شاحنة موتورة أو تتعفّن في ظلام السجن.
سيتلاعب بكل شيء. السلطة للشعب. والنفط لليبيين. والبيت لساكنه. والزحف الثوري هو الحل. كانت مهمته الأولى تحويل شركائه في ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) 1969 إلى موظفين لديه. بالبراعة والقسوة والمكيدة الْتَهَمَ «مجلس قيادة الثورة» قبل أن يحوّل البلاد «جماهيرية» ويضعها في عهدة «الكتاب الأخضر»، في عهدة جلاوزة الاستخبارات.
كان يستعذب اللعب بالمصائر. يخترع أشخاصاً ويخترع لهم أدواراً. يدفعهم إلى أعلى ثم يخفضهم. يدخلهم السجن ويعيدهم إلى مكاتبهم. ينظّم أعمارهم على عقارب مزاجه المتقلّب. سيثأر من فقر طفولته ومن استضعاف الآخرين لعائلته المباشرة. سيحتقر الجميع، وفي ساعة الغضب سيقول للناس: «من أنتم؟».
كل الخيوط في يد رجل واحد. والرجل مريض. يهرب إلى الصحراء مع خيمته. لا يحبّ توقيع الأوراق. الأوامر بالهاتف أو شفوية، سواء كانت لإنفاق الملايين أو للقتل. احتقاره لشعبه لا ينفصل عن احتقاره لكل القواعد الدولية والأعراف. سيُرسِل المتفجرات في كل اتجاه. وستنفجر عبواته جواً وبحراً وبراً. وفي بلدان قريبة وبعيدة كان يبتهج بإضرام النار في الرداء الأميركي. يكره السوفيات ويشتري منهم الترسانات.
إننا الآن في رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو. احتفل المستبدّ المقيم بالمستبدّ الزائر، وكان اسمه معمر القذافي. اغتنم الوفد المرافق للعقيد الرحلة لتصفية أحد أعضاء الوفد. إنه واحد من ثلاثة قُتلوا بعدما نُقل عنهم أنهم يملكون وثائق تثبت أنّ أُمَّ القذافي يهودية.
حصل ما هو أدهى. أحضروا للعقيد الغزال الذي اصطاده. أدخل يديه في صدر الغزال القتيل وراح يدهن يديه بالدم. استفز المشهد أمين المراسم نوري المسماري فسأله عن السبب وجاء الجواب: «انت لا تعرف فوائد الدم الساخن».
لم يتّعظ المستبدّ العربي من مصير المستبدّ الروماني الذي سقط برصاص ذلك الربيع الذي هبّ على أنظمة أوروبا الشرقية بعدما سقط جدار برلين وتركَهَا عارية أمام الرياح وأمام شعوبها.
يُفْرِطُ المستبدُّ العربي في الثقة بنفسه وبجلاوزته وبآلة القتل التي يعتبرها وسادته الذهبية. موسم القتل مفتوح. يلتهم القائد مجلس قيادة الثورة. يلتهم رفاقه. يفسدهم ويطوّعهم ويحوّلهم من رفاق إلى عبيد. ومن يتردد في الانحناء تدهسه شاحنة مسرعة أو تنخره رصاصة أو يدور السم في دمه. وفي ظلام السجون تتعفّن أجساد كثيرة وتتزين الجدران بالدموع والصّرخات مع اعترافات بجرائم لم تُرتكب.
لا تتسع البلاد لأكثر من رجل. إنه القائد الملهم. العلاّمة الأب الحنون. صاحب الرؤية الثاقبة. والقبضة المشعّة. حارس التاريخ. المؤتمَن على الحاضر. الممسك بمفاتيح المستقبل. رمز الكرامة والعنفوان. موزّع الخبز والأحلام على الرَّعِيّة. موزّع الرعب وولائم الصمت الطويل. هذه بلاده، وهو يملك كل شيء فيها. الأرض والغيوم التي تمرّ فوقها. الآبار والقبائل المبدَّدة على جوانب فوّهاتها. ولهذا لا يرف له جفن. يستبيح الأرض والكرامات والثروة، ويغتصب النساء أيضاً. إنه الرجل الوحيد. إنه المغتصب الكبير.
كان نوري المسماري حاضراً في الخيمة، وعلى بابها، وفي ثكنة باب العزيزية، وفي الطائرة والأسفار. كان شاهداً على ارتكابات هذا الرجل المريض الذي يهوى إذلال القادة والرؤساء وإحراجهم. كان شاهداً أيضاً على اغتصابات القائد لزائرات. جهاز كامل كان يسهر على متعة القائد تديره سيدة تستقدم الجميلات من داخل البلاد وخارجها. تحرّشه بالنساء أثار أكثر من أزمة مع دولة أو جهة. ومَن عرفوه عن قرب يؤكدون أنّه كان شاذاً أيضاً، وأن منزله في ثكنة باب العزيزية شهد فصولاً مخزية. كان يغتصب، وبوحشية، وإذا فوتح أنكر واتهم الضحية بمحاولة ابتزازه، وكانت القضية تُوارى تحت رزمة من الدولارات.
حين اندلعت الثورة في ليبيا تضاعفت رغبتي في كشف قصة هذا الرجل الذي أدمى بلاده والمنطقة على مدار أربعة عقود. وكان هاجسي أن يُتاح لقراء صحيفة «الحياة» مواكبة الحدث الليبي من زاوية مختلفة عن يوميات المواجهة الدائرة. ولأنني أعرف أنّ كتابات كثيرة حاولت تصوير العقيد، كنت أبحث عن شهود لا عن محلّلين. عن رجال كانوا إلى جانبه يوم كان يستعدّ للقبض على السلطة ثم شاركوه فيها أو عملوا في ظله. عن رجال يعرفون أسرار الخيمة وارتكابات سيد الخيمة ويعرفون ثكنة باب العزيزية وما يدور داخلها.
أتاح لي الحظ أن أعثر على الشهود. التقيت عبدالمنعم الهوني، الشريك في الإعداد لحركة الفاتح من سبتمبر، والذي كان عضواً بارزاً في مجلس قيادة الثورة والحكومة قبل أن ينشقّ في منتصف السبعينات ويتعرض لمطاردة طويلة من أجهزة القذافي. سيعود الهوني لاحقاً إلى شبه مصالحة مع النظام شرط الإقامة في القاهرة ممثلاً لبلاده في الجامعة العربية، ثم يعاود الانشقاق بعد اندلاع الثورة.
رجل آخر من الحلقة الضيقة في أيام الولادة والسنوات الأولى اسمه عبدالسلام جلود، وهو كان بحق «الرجل الثاني» في النظام. لاحقاً سيعيش جلود في ما يشبه الإقامة الجبرية، وستوفّر له الثورة فرصة الانشقاق وتوجيه ضربة معنوية كبرى إلى نظام القذافي.
تيسّر لي أيضاً أن ألتقي رجلين هما الأبرز في الديبلوماسية الليبية في عهد القذافي، من وزارة الخارجية إلى مقعد مندوب ليبيا في الأمم المتحدة، وهما عبدالرحمن شلقم وعلي عبدالسلام التريكي.
كان دور شلقم كبيراً وحاسماً حين قام بمناورة بارعة سدّد من خلالها ضربة قاضية إلى النظام في مجلس الأمن الدولي، بموافقته على القرار الشهير الذي أدى إلى اقتلاع الطاغية. كتم شلقم مشاعره حتى مرور القرار ثم أعلن انشقاقه، فالتفت العالم بأسره إلى الرجل. أمّا التريكي، فكان حاضراً على مدى عقود في علاقات النظام الدولية، وخصوصاً في علاقاته الأفريقية.
لم يكن هاجس هذا الكتاب حاضراً لدى إجراء الحوارات مع اللاعبين الخمسة، لكن بقاء الملف الليبي مفتوحاً شجّعني على جمعها، علّها تساعد في كشف جوانب جديدة من شخصية هذا المستبدّ الذي أقام طويلاً. بعض ما ورد فيها سيدفع المحققين إلى السؤال عنه، فقد كشف نوري المسماري أنّ ضابطاً صغيراً اسمه عبدالله السنوسي أرسل إليه في عام 1978 ثلاثة جوازات سفر لوضع تأشيرات إلى إيطاليا عليها، وكانت الباسبورات للإمام موسى الصدر ورفيقيه. لاحقاً صار السنوسي، عديل القذافي، كبير الجلادين في النظام ورئيس الاستخبارات العسكرية وبطل مذبحة سجن بوسليم التي أودت بأكثر من 1200 سجين.
كان القذافي مستبدّاً وقاتلاً كبيراً. لكنّ ذلك لا يبرر أبداً الطريقة التي استُخدمت في قتله. كان من مصلحة ليبيا والمنطقة توفير محاكمة عادلة له وتركه يروي قصته وما ارتكبه في الداخل والخارج. ثم إنّه لا يكفي شطب المستبدّ لتنعم بلاده بالحرية والديموقراطية. تكشف النتائج الأولى ل «الربيع العربي» أنّ المرحلة الانتقالية ستكون طويلة ومؤلمة ومكلفة وإن اختلفت حدّتها باختلاف المسارح وظروفها. إن قوى جديدة تخرج من صناديق الاقتراع. تيارات إسلامية لم يسبق أن امتُحنت في موقع القرار. ستجد هذه القوى نفسها أمام أسئلة جديدة، وتحدّيات جديدة تتعلق ب: تداول السلطة، والاقتصاد، والموقف من الأقليات، وحقوق المرأة، والحريات الشخصية... ستجد هذه القوى نفسها ترتطم بعالم لا تمكن إعادته إلى قرون مضت، ولا تمكن معالجة مشكلاته بوصفات قديمة. وأخطر ما يمكن أنْ يحدث هو أنْ يتخلص بلد من استبداد رجل ليسقط تحت استبداد جماعة أو فكرة.
من المبكر الجزم إلى أين تتجه تونس واليمن ومصر وليبيا وسورية. كَشَفَ «الربيع العربي» حجم التخلف المتجذّر في مجتمعاتنا. كَشَفَ أنّ أفكارنا قديمة وكتبنا قديمة ومدارسنا قديمة، وأنّ اللحاق بالعصر يستلزم معركة واسعة تهدِّد مسلّماتٍ وُلِدْنا في ظلّها ولم نجرؤ سابقاً على وضعها موضع تساؤل. لا مبرر للمقارنة مع المسار الأوروبي. بيننا وبينه الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وفصل الكنيسة عن الدولة وأفكار الفلسفة الألمانية وتأكيد علاقة النصوص بتواريخ ولادتها والحقّ المقدّس في النقد والتشكيك والتساؤل.
لا يدّعي هذا الكتاب تأريخ مرحلة. إنه كتابُ صحافيٍّ يوفّر شهاداتٍ لرجالٍ عَرَفوا خيمة المستبد وعملوا معه في مراحل مختلفة وتعرّفوا عن كثب على شخصيته وأسلوبه وما ألحقه من أضرار ببلاده، وبالعالم أيضاً.
" الحياة "


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.