صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محكمة من بيروت إلى لاهاي... حكاية 3257 يوماً في الطريق الوعرة إلى العدالة - الرأي الكويتية - بيروت - ليندا عازار
نشر في الجنوب ميديا يوم 15 - 01 - 2014


بيروت - ليندا عازار
بعد نحو تسع سنوات على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، تنطلق غداً المحاكمات في هذه الجريمة التي ارتسم معها في سماء لبنان «قوس قزح أزماتٍ» توالت وتوالدت في الطريق الى انتصاب قوس العدالة.
... من «السان جورج» عند الواجهة البحرية لبيروت حيث اغتيل الحريري بنحو 2 طن من المتفجرات حوّلت «بلاد الأرز» لأعوام لاحقة «برميل بارود»، الى لايتشندام الضاحية الشمالية لمدينة لاهاي، عاصمة العدالة الدولية، حيث تبدأ المحاكمات لأربعة متهَمين من «حزب الله» (من اصل خمسة) في جريمة 14 فبراير 2005، «طريق وعرة» تختصر واحدة من أخطر الحقبات في تاريخ لبنان الحديث الذي غالباً ما بدا على مدى الأعوام التسعة الماضية كأنه يمارس لعبة «الرقص على حافة الهاوية» بعدما دخل مسار العدالة في «حقل أفخاخ» في السياسة والأمن.
... من الساحل الشرقي للبحر المتوسّط الذي شهد على الجريمة - الزلزال التي شكّلت الحلقة الأبرز في «المدّ الدموي» الذي بدأ مع محاولة اغتيال النائب مروان حمادة في الاول من اكتوبر 2010 وصولاً الى 27 ديسمبر 2013 تاريخ تفجير الوزير السابق محمد شطح على مرمى العين من ضريح الرئيس رفيق الحريري وما بينهما من اغتيالات ذهب ضحيتها ايضاً 9 شخصيات وقيادات سياسية وعسكرية واعلامية، الى جنوب غرب الساحل الهولندي على بحر الشمال حيث «رسا» ملف جرائم الاغتيال (التي يثبت ترابطها مع اغتيال الرئيس الحريري)، 3257 يوماً كُتبت خلالها حكاية محكمة أريد لها ان تُدخِل لبنان الى «زمن العدالة» وتُخرجه من «زمن القتل على الهوية السياسية».
... بين شعار «الحقيقة» في اغتيال الرئيس الحريري الذي ظلّل «ثورة الأرز» التي انفجرت في 14 مارس 2005 من «رحم» جريمة 14 فبراير بوجه النظام السوري وحلفائه في لبنان، وبين تَحوُّله حقيقة بعد نحو خمس سنوات على ولادة المحكمة رسمياً في الاول من مارس 2009، «صولات وجولات» من «الكباش» السياسي الداخلي والتدافُع الخشن بين فريقيْ 8 و14 آذار، بدا معها لبنان في «عين» الواقع الاقليمي والدولي الذي «يغلي» في «عقر داره»، والوضع المحلي المصاب ب «حمى الجوار» وبصراعٍ داخلي على السلطة والتوازنات السياسية والمذهبية.
نحو تسعة أعوام من «الكرّ والفرّ»، اختصرها عنوان المحكمة الدولية الذي شقّ طريقه تباعاً، منذ وصول لجنة تقصي الحقائق الدولية و«توصيتها» بتشكيل لجنة تحقيقٍ دولية بدأت عملها في يونيو 2005، الى قيام المحكمة ذات الطابع الدولي بالقرار 1757 الذي صدر تحت الفصل السابع في 30 مايو 2007، وما رافق هذه الولادة «القيصرية» وأعقبها من اهتزازات أمنية وسياسية لم يخرج معها لبنان من «فوهة البركان» الذي عاد الى «فوران» جديد منذ ان خرج الى العلن اول المؤشرات «الاعلامية» الى ان القرار الاتهامي سيوجّه «الاصبع» الى عناصر من «حزب الله» باغتيال الرئيس الحريري، ما فتح مجدداً «باب العواصف» السياسية التي سرعان ما تداخلت مع «عصف» الأزمة السورية التي وضعت لبنان في «مرمى النار» وكشفته بالكامل على الصراع الاقليمي الكبير الذي قيل ان جريمة 14 فبراير كانت احدى تجلياته «المبكّرة».
اول فصول حكاية التحقيق الدولي بدأ في 15 فبراير 2005، حين أصدر مجلس الامن الدولي آنذاك قراراً طلب فيه من الامين العام للأمم المتحدة (كوفي انان) «متابعة الوضع في لبنان عن كثب ورفع تقرير عاجل حول مسببات هذا العمل الارهابي (اغتيال الرئيس الحريري) وظروفه ونتائجه»، وسط غضبة عارمة، لبنانية من القوى المناهضة لسورية، ودولية وعربية «انفجرت» بوجه دمشق التي وُضعت منذ اولى لحظات جريمة 14 فبراير في «قفص الاتهام» السياسي الذي تُرجم في بيروت بشعار «نريد معرفة من قتل رفيق الحريري... نريد الحقيقة» الذي تصدّر «طلائع» ثورة الارز «جنباً الى جنب» مع «ثلاثي» السيادة والحرية والاستقلال ومطلب انسحاب الجيش السوري من لبنان واقالة «رؤوس النظام الأمني».
وفي 18 فبراير، لاقى الامين العام للمنظمة الدولية «الصوت العالي» للقوى المناهضة لسورية في لبنان التي اعلنت مع اطلاقها «انتفاضة الاستقلال» رسمياً «الاصرار على المطالبة بلجنة تحقيق دولية باشراف الامم المتحدة لكشف مدبري جريمة اغتيال الرئيس الحريري ومنفذيها ومحاكمتهم»، فأعلن انه سيرسل بعثة تقصي حقائق الى بيروت لجمع المعلومات اللازمة ورفع تقرير ضمن المهلة المحددة له.
ولم يكد ان يمرّ أسبوع تخللته مراسلات مع الرئيس اللبناني آنذاك اميل لحود، حتى وصلت الى بيروت البعثة في 25 فبراير 2005 برئاسة نائب رئيس الشرطة الايرلندية بيتر فيتزجيرالد وضمت محققين ومستشاراً قانونياً ومستشاراً سياسياً، قبل ان يلحق بالبعثة في 6 مارس من العام نفسه وبالاتفاق مع السلطات اللبنانية خبراء بالمتفجرات والأسلحة الباليستية والحمض النووي وفحص مواقع الجرائم.
وفي 24 مارس، اي بعد شهر على عملها في لبنان الموضوع في «فوهة بركان» كان انفجر في 14 من الشهر نفسه على شكل ما عُرف ب «ثورة الارز» او «انتفاضة الاستقلال» بوجه سورية وحلفائها اللبنانيين، أصدرت بعثة تقصي الحقائق تقريرها الذي اشار الى «انَّ التحقيق اللبناني (باغتيال الحريري) يعاني عيوباً خطيرة ولا يملك القدرة ولا الالتزام الضرورييْن للتوصل الى نتيجة مرضية وذات صدقية»، لافتاً الى «انَّ من الضروري تأليف لجنة دولية مستقلة، ذات سلطة تنفيذية ومؤهلات ذاتية في كل حقول الخبرة ذات الصلة، وذلك بهدف تركيز الضوء على كل أوجه هذه الجريمة».
و«الطريق الى المحكمة» عبر سكة التحقيق الدولي مرّ في السابع من ابريل 2005 باصدار مجلس الأمن القرار 1595 القاضي بتأليف لجنة تحقيق دولية مستقلة، مقرها لبنان، «لمساعدة السلطات اللبنانية في تحقيقها في كل أوجه «العمل الارهابي»، بما في ذلك المساعدة في كشف المرتكبين والداعمين والمنظمين والشركاء».
وأشار القرار، الذي صدر بعد موافقة الحكومة اللبنانية واعرابها عن الاستعداد للتعاون الكامل مع لجنة تحقيق دولية ضمن نطاق السيادة اللبنانية ونظامها القانوني، الى «انَّ من الضروري ان تحظى اللجنة بالتعاون الكامل من جانب السلطات اللبنانية، بما في ذلك الوصول الى كل المعلومات والأدلة من وثائق وافادات ومعلومات حسية متوافرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق»، لافتاً الى «انَّ لجنة التحقيق تملك سلطة جمع أي معلومات وأدلة اضافية، من وثائق ومعلومات وادلة حسية ومقابلة كل المسؤولين والاشخاص الآخرين في لبنان وتتمتع بحرية التنقل على كامل الاراضي اللبنانية، بما في ذلك الوصول الى كل الاماكن والمنشآت التي تعتبر انها ذات صلة بالتحقيق».
ومرّ شهران ونيّف قبل ان ينطلق عمل اللجنة الدولية رسمياً في 16 يونيو 2005، بعد سلسلة تحولات في المشهد السياسي اللبناني شكلت امتداداً لاطاحة «انتفاضة الاستقلال» بالحكومة التي كان يترأسها عمر كرامي (استقال في 28 فبراير)، ولعل أبرزها تكليف نجيب ميقاتي رئاسة «حكومة الانتخابات» في 19 ابريل من العام نفسه، وانسحاب الجيش السوري في 26 أبريل 2005 وبدء الانتخابات النيابية في29 مايو على اربع مراحل في ظل «التحالف الرباعي» (تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي و«حزب الله» وحركة «امل»)، وهي الانتخابات التي عادت وانبثقت منها حكومة برئاسة فؤاد السنيورة في 19 يوليو من العام نفسه.
ولكن التحقيق الدولي لم يتأخر في الدخول على خط «هزّ» مشهد «التلاقي» الذي شكّل «الوعاء» السياسي الذي أجريت فيه الانتخابات النيابية، اذ سبق وواكب وأعقب وصول لجنة التحقيق الدولية عودة مسلسل الجرائم السياسية التي «ظلّلت» الاستحقاق النيابي، حيث اغتيل الصحافي سمير قصير (في 2 يونيو 2005) والأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي (في 21 يونيو من العام نفسه)، لتُستكمل «حلقات الموت» بعد الانتخابات اذ تعرّض وزير الدفاع الياس المر والصحافية مي شدياق لمحاولتيْ اغتيال في 12 يوليو و25 سبتمبر 2005.
وبعد هذا التاريخ، دخل المشهد اللبناني مرحلة من «الصراع الشرس» في السياسة والأمن اتسم بالتصعيد التصاعُدي، ولا سيما منذ ان وجّه التقرير الأول الذي رفعه رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس الى الأمين العام للأمم المتحدة( كوفي انان) في العشرين من أكتوبر 2005 والذي شكل «قنبلة» في بيروت، أصابع الاتهام الى الجهاز الامني اللبناني السوري متحدثاً عن «تورط اكيد لمسؤولين امنيين كبار في سورية ولبنان في جريمة اغتيال الرئيس الحريري»، علماً ان هذا التقرير جاء بعد أقل من شهرين على توصية القاضي الالماني الى القضاء اللبناني بتوقيف الجنرالات الاربعة اللواءان جميل السيد وعلي الحاج والعميدان ريمون عازار ومصطفى حمدان الذين شكلوا ركيزة ما وُصف حينها بانه «الجهاز الامني اللبناني» وتم القبص عليهم في 20 اغسطس 2005.
وبعد اقل من شهرين على تقرير ميليس الذي عكس وضع لبنان على «خط زلازل» اقليمي والذي كانت طبعته «مفارقة» ظهور نسختين منه في الأمم المتحدة تضمنّت الأولى التي كان يفترض ان تكون «سرية» أسماء عادت وشُطبت في التقرير الرسمي وكانت لكل من الضباط السوريين ماهر الأسد شقيق الرئيس بشار الأسد وآصف شوكت صهر الرئيس السوري ومدير الاستخبارات العسكرية وسلفه اللواء حسن خليل واللواء بهجت سليمان واللواء جميل السيد، اختتم «عام الاغتيالات» بتفجير النائب والصحافي جبران تويني (في 12 ديسمبر 2005)، وهي الجريمة التي فتحَت أزمة وزارية اذ قرر وزراء الطائفة الشيعية الاعتكاف عن حضور جلسات الحكومة، بعد اصرارها على استعجال طلب تأليف محكمة ذات طابع دولي من الأمم المتحدة لمحاكمة قتلة الحريري، وسط اتهام فريق «8 آذار» الأكثرية بالتفرُّد في الحكم. ومن هنا بدأ مطلب «الثلث المعطّل» (الثلث زائد واحد) يُطرح تحت مسمى «المشاركة الفعلية في القرار».
وتحت وطأة رفْض قوى 14 آذار وضْع الحياة السياسية تحت «مقصلة» الاغتيالات ومحاولتها انهاء ما اعتبرته التغطية من 8 آذار على استراتيجية النظام السوري القائمة على قلْب المعادلات السياسية ب «اصطياد الخصوم»، رفعت الحكومة اللبنانية، في رسالة وجهتها الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان في 13 ديسمبر 2005 طلباً الى مجلس الأمن بمحاكمة مَن تُوجه اليهم التهم أمام محكمة ذات طابع دولي وتوسيع نطاق عمل لجنة التحقيق لتشمل كل الجرائم التي وقعت منذ محاولة اغتيال النائب مروان حماده (في 1 اكتوبر 2004)، الأمر الذي تلقفه مجلس الأمن الدولي عبر القرار الرقم 1644 في 15 ديسمبر 2005 الذي مدد عمل لجنة التحقيق حتى يونيو 2006 وأجاز للجنة تقديم مساعدة تقنية الى السلطات اللبنانية في التحقيقات في سائر جرائم الاغتيال ابتداء من الاول من اكتوبر 2004. كما اورد القرار انه اخذ علماً بطلب الحكومة اللبنانية محاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري امام محكمة ذات طابع دولي، واناط بالامين العام للامم المتحدة آنذاك التشاور مع الحكومة اللبنانية حول المطلبين الاخيرين ورفع توصيات في شأنهما الى مجلس الامن في الوقت المناسب.
وشكّل القرار 1644 عملياً الخطوة الأولى على طريق انشاء «المحكمة الخاصة بلبنان»، وقد شدد على واجب سورية «ان تتعاون في شكل كامل ومن دون شروط مع اللجنة وطالبها بالتجاوب، على نحو لا لبس فيه، في المجالات التي يلتمس رئيس اللجنة التعاون فيها وان تنفذ من دون تأخير أي طلبات تصدر عن اللجنة في المستقبل، طالباً منها تقديم تقرير عن التقدم المحرز في التحقيق كل ثلاثة أشهر».
ومع ارساء «خريطة الطريق» القانونية لتشكيل المحكمة الدولية تعزّزت الازمة السياسية التي فجّرها اعتكاف الوزراء الشيعة الذي استمر سبعة أسابيع اتهمت خلالها قوى الرابع عشر من آذار دمشق بالوقوف وراء هذه الخطوة لمنع الأكثرية من الحكم من جهة ولتعطيل اي اتجاه لتشكيل محكمة دولية من جهة أخرى.
الا انه وعلى وقع استمرار عمل لجنة التحقيق الدولية التي كان تسلّم رئاستها القاضي سيرج براميرتس في 11 يناير 2006 مكملاً من حيث انتهى ميليس، حمل بداية فبراير 2006 بوادر انفراج، اذ قرر الوزراء الشيعة العودة الى الحكومة بالتزامن مع اطلاق رئيس البرلمان نبيه بري مبادرة سياسية تقضي بوقف الاعتكاف وعقد جلسات حوار وطني ابتداء من اول مارس من العام نفسه لمناقشة القضايا السياسية الأساسية المطروحة، وأهمها المحكمة وأزمة رئاسة الجمهورية (في ضوء مطالبة 14 آذار للرئيس لحود بالاستقالة) وموضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وسلاح «حزب الله» وتصحيح العلاقات اللبنانية السورية عبر اقامة علاقات ديبلوماسية بين بيروت ودمشق.
وعلى طريقة «اول دخوله مفاجأة ايجابية بطوله»، حمل انطلاق الحوار الذي ترأسه بري اقراراً بالاجماع وك «بند اول» لموضوع انشاء محكمة دولية لكشف قتلة الرئيس الحريري وهو الاقرار الذي اكتسب رمزية خاصة لانه حصل بحضور الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصر الله، وشكّل الممرّ لاصدار مجلس الأمن بتاريخ 26 مارس 2006 القرار الرقم 1664 الذي تضمّن طلباً الى الأمين العام للأمم المتحدة للتفاوض مع حكومة لبنان على اتفاق يرمي الى «انشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع من تثبت مسؤوليتهم عن التفجير الارهابي الذي أدى الى مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وآخرين استناداً لأعلى المعايير الدولية في مجال العدل الجنائي».
وتبعاً لهذا القرار، دارت مفاوضات بين الأمانة العامة للمنظمة الدولية والوفد القضائي اللبناني المكلف بذلك في نيويورك كما في بيروت واستمرت حتى سبتمبر 2006. وبنتيجة هذه المفاوضات وُضعت عدة مسودات عُدلت تباعاً وآخرها مشروع الاتفاقية لانشاء المحكمة الخاصة ونظامها الأساسي الذي أحاله الأمين العام للامم المتحدة بتاريخ 10 نوفمبر 2006 الى رئيس الوزراء اللبناني آنذاك فؤاد السنيورة والذي أفضى الى استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة بذريعة عدم اعطائهم الوقت الكافي لابداء ملاحظاتهم على المشروع.
وجاء هذا «الصِدام» السياسي، بعد اشهر من «الغليان» الذي كانت أفرزته «حرب ال 33 يوماً» الاسرائيلية على لبنان في يوليو 2006 والتي تركت «ندوباً» عميقة في الحياة السياسية في البلاد اذ خرجت من «ملعب النار» الى «حريق» سياسي تصاعد من «دخان» الاتهامات «بالعمالة» التي وُجهت الى قوى 14 آذار التي ذهب الرئيس السوري بشار الأسد بعد اعلان «حزب الله» ما وصفه ب «الانتصار الالهي» الى حد اعتبارها «منتجاً اسرائيلياً».
كما لاحت مؤشرات «الصِدام» مع ابداء رئيس الجمهورية آنذاك اميل لحود اواخر اكتوبر 2006 ملاحظاته على مسودة الاتفاق بين الامم المتحدة والجمهورية اللبنانية في شان تأسيس المحكمة الخاصة للبنان وعلى مشروع نظام المحكمة المؤرّخين في 18/ 10/ 2006، وهي الملاحظات التي اعتُبرت من 14 آذار «أطروحة مثيرة للريبة والشك ورفضا للمحكمة الدولية وتنفيذاً لأوامر اقليمية قلقة»، و«هرطقة تثبت بما لا يدع مجالا للشك عدم أهلية لحود في الموقع الذي يحتله»، مكررة الدعوة الى استقالته.
وعلى جري عادته في لعب دور «الاطفائي» والساعي الى استيعاب «الصدمات»، لجأ الرئيس بري في مطلع نوفمبر 2006 مجدداً الى «ديبلوماسية الطاولة» فدعا الى جلسات للتشاور من أجل حسم الأزمة السياسية. الا انَّ التشاور، الذي امتدّ أربع جلسات، لم يُحرز أي تقدم بعد رفض قوى الأكثرية اعطاء المعارضة «الثلث المعطل» (الثلث زائد واحد) الذي اعتبرته «14 آذار» سلاحاً تريده «8 آذار» لقطع الطريق امام اقرار نظام المحكمة ذات الطابع الدولي.
وحملت الساعات القليلة التي تلت اعلان فشل التشاور الذي تَزامن مع تسلُّم الحكومة مسودة انشاء المحكمة الدولية، تطوراً بالغ الخطورة رتّب تداعيات سياسية وأمنية في الأشهر التي ستليه اذ قدّم الوزراء الشيعة الخمسة في الحكومة استقالتهم في 11 نوفمبر 2006 وتبعهم الوزير المسيحي يعقوب الصراف القريب من الرئيس اميل لحود، وذلك قبل 48 ساعة من عقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء لمناقشة واقرار مسودة مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي (وضعه رئيس كتلة المستقبل آنذاك سعد الحريري على ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعيد استقالة الوزراء)، وهي جلسة كان رئيس الجمهورية آنذاك قرر مقاطعتها.
وسرعان ما فتحت استقالة الوزراء الشيعة «جبهة جديدة» لجدل دستوري حاد حول شرعية الحكومة بعد انسحاب وزراء طائفة بكاملها منها، من دون ان يقفل باب الاتهام من فريق «ثورة الأرز» لسورية باستمرار السعي ل «تفخيخ» طريق العدالة والعودة الى الامساك بزمام الأمور في لبنان.
الا ان دخول لبنان في مرحلة ما وصفته «8 آذار» بالحكومة «الفاقدة الشرعية» و«المناقضة لميثاق العيش المشترك»، لم يوقف «قطار» المحكمة. فعلى وقع رفض 14 آذار ملاحظات لحود، وغداة ابلاغ الأخير الرئيس السنيورة ان حكومته أصبحت فاقدة للشرعية والدستورية «وغير مؤهلة لاتخاذ قرار بالموافقة على مثل هذه المعاهدات الدولية التي تعتبر من المواضيع الأساسية والمهمة (اتفاقية المحكمة)»، وافقت الحكومة في جلستها المنعقدة بتاريخ 13 نوفمبر 2006 على مشروعيْ الاتفاق ونظام المحكمة الأساسي، وتم ابلاغ الأمين العام للأمم المتحدة بذلك في اليوم نفسه.
ولم يتأخّر «الانشطار» اللبناني في تظهير نفسه امام الامم المتحدة، اذ ردّ الرئيس لحود موجهاً في 14 نوفمبر 2006 رسالة الى كوفي انان تضمّنت شرحاً «لوضع الحكومة غير الدستوري وللمخالفات الدستورية التي ارتكبتها هذه الحكومة»، وأعلمه بان القرار بالموافقة على مشاريع وثائق الاتفاق الدولي «لا تلزم الدولة اللبنانية»، وأرفق كتابه بملاحظاته القانونية على المشاريع المذكورة.
وبتاريخ 15 نوفمبر 2006، رفع الأمين العام تقريره حول انشاء المحكمة الخاصة بلبنان الى مجلس الأمن وضم اليه رسالة الحكومة اللبنانية بالموافقة على مشاريع وثائق الاتفاقية ورسالة رئيس الجمهورية المشار اليها أعلاه مع مرفقاتها. وجرت المناقشة في مجلس الأمن الذي اطلع على كافة وثائق الملف، فوجَّه رئيس المجلس بتاريخ 21/11/2006 كتاباً الى الأمين العام أبلغ اليه فيه بترحيب أعضاء المجلس بالاتفاقية التي توصلت اليها الأمم المتحدة مع الحكومة اللبنانية ونظام المحكمة الأساسي، ودعاه الى الشروع مع حكومة لبنان وطبقاً للدستور اللبناني بالخطوات النهائية لعقد الاتفاق.
وكان وكيل الأمين العام للشؤون القانونية نيقولا ميشال قد أدلى أمام مجلس الأمن في جلسة المشاورات التي عقدت في 20/11/2006 بان قرار الحكومة اللبنانية بدعم مشروع الاتفاق ومشروع النظام الأساسي لا يكفي باعتبار ان العملية الدستورية اللبنانية الهادفة الى ابرام الاتفاق مع الأمم المتحدة لم تكتمل ولا تزال بحاجة الى اتخاذ خطوات فيما يخص منح الحكومة موافقتها الرسمية على الاتفاق «وهي خطوة تمهيدية ضرورية لتوقيع المعاهدة وتقديمها الى البرلمان ليقرها، وأخيراً لعملية التصديق نفسها».
وعلى وقع تقدُّم مسار تشكيل المحكمة على مستوى مجلس الامن، »ضرب» مسلسل الاغتيالات مجدداً. وشكّل مقتل وزير الصناعة بيار الجميل في 21 نوفمبر 2006 صدمة قوية، سواء لناحية توقيته أو لناحية تنفيذ الجريمة في وضح النهار من مسلحين أمطروا الجميّل بالرصاص وكان يستقلّ سيارته «المموّهة» في احدى ضواحي بيروت الشمالية.
وتعددت التفسيرات حول اغتيال الجميل، فالمعارضة اي قوى 8 آذار قالت ان هذه العملية تضرّ بها، فيما اشارت «14 آذار » الى ان الهدف هو تعطيل نصاب الحكومة مع استقالة ستة وزراء وقتل وزير فتصبح مستقيلة حكماً بفقدان أكثر من ثلث أعضائها.
واختارت 14 آذار سياسة «الهجوم الدفاعي» والردّ بما اعتبرته «سيف» العدالة الدولية. وبعد اربعة ايام على اغتيال الجميّل اي في 25 نوفمبر، دعا السنيورة الى عقد جلسة لمجلس الوزراء قاطعها رئيس الجمهورية آنذاك «لعدم شرعية الحكومة»، وعرض فيها رئيس الحكومة على المجلس المعاهدة المتعلّقة بالمحكمة لابرامها، وفوَّض وزير العدل أو من يكلِّفه توقيع المعاهدة.
وتوّج «الكرّ والفر» حول المحكمة باطلاق 8 آذار تحركها في الشارع، في الأول من ديسمبر 2006 حين دشّنت اعتصامها المفتوح في ساحات وسط بيروت محاصِرة القصر الحكومي.
وأطلّ العام 2007 مثقلاً ب «الارث الثقيل» لعاميْ 2005 و2006. ووسط احتدام المأزق السياسي الذي وضع البلاد في «عنق الزجاجة» فيما «شبح الاغتيالات» يلاحق كل قادة 14 آذار، بدت المحكمة الخاصة بلبنان متفيئة قراراً دولياً كبيراً بتشكيلها «مهما كان الثمن». وقد تم توقيع الاتفاق المبرم بين الجمهورية اللبنانية والأمم المتحدة في شان انشاء محكمة خاصة للبنان من جانب الحكومة اللبنانية والامم المتحدة على التوالي في 23 يناير و6 فبراير 2007.
ومع تعاطي 8 آذار مع المحكمة على انّها في سياق المناخ الدولي الرامي الى محاصرة سورية التي بقيت وفق تقارير لجنة التحقيق الدولية محور الشبهة الرئيسية باغتيال الحريري، اعتبر هذا الفريق ابرام الاتفاقية غير قانوني ويخالف الأصول الدستورية لان رئيس الجمهورية لم يُبرم المعاهدة بالاتفاق مع رئيس الحكومة قبل عرضها على مجلس الوزراء للابرام وفق المادة 52 من الدستور.
وبعدها أرسل الرئيس السنيورة الى مجلس النواب مشروع القانون للاجازة للحكومة ابرام الاتفاقية مع الأمم المتحدة، وهو ما اعتبره فريق 8 آذار مخالفاً للدستور باعتبار «ان احالة مشاريع القوانين التي ترفع من مجلس الوزراء الى مجلس النواب هي من صلاحيات ومهام رئيس الجمهورية حصرياً»، ولذا رفض رئيس مجلس النواب تسلم هذه الاحالة «لمخالفتها الأصول الدستورية» وبحجة انَّ المحكمة الدولية تشكل تدخلاً سافراً في الشؤون اللبنانية الداخلية، ومن الضروري تالياً تعديل قانونها بما يحفظ السيادة اللبنانية. وعليه، حضر الى لبنان المستشار القانوني للأمين العام للأمم المتحدة نيكولا ميشال وعمل على التقاء الأفرقاء اللبنانيين كافة للحصول منهم على ملاحظاتهم حول المحكمة ونظامها الاساسي الا انه اصطدم بحائط «حزب الله »، الذي رفض تقديم أي ملاحظات.
وتحت وطأة اصرار بري على الاحتفاظ ب «مفاتيح» البرلمان ورفضه تحديد موعد لجلسة عامة لاقرار مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي، لجأت قوى «14 آذار» في 3 ابريل 2007 الى ما اعتبرته «آخر الدواء الكيّ»، وكانت اولى الخطوات الممهدة لولادة المحكمة الدولية ب «الفصل السابع» في مجلس الأمن وذلك عبر العريضة الموقّعة من نواب الأكثرية ال 70 والتي رُفعت الى الأمم المتحدة وأمينها العام بان كي - مون عبر ممثله الشخصي في لبنان غير بيدرسون وتدعو الى «اتخاذ كافة الاجراءات البديلة التي يلحظها ميثاق الأمم المتحدة والتي تؤمن قيام المحكمة الدولية التي وافق عليها مجلس الأمن بما يؤدي الى تحقيق العدالة ويعزز السلم الأهلي ويحمي العدالة والسلم الدوليين».
وفصّلت المذكرة في خمس صفحات كافة المحطات والقرارات التي شهدتها قضية تشكيل المحكمة منذ اغتيال الرئيس الحريري، و«العراقيل التي وضعت في وجه ابرامها وفق الأصول الدستوريّة من رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان»، مع سرد للسبل الدستوريّة التي جرى سدّ المنافذ اليها». واستندت العريضة في «حيثياتها» الى الرغبة في «تفادي الشلل الكامل في البلاد ولا سيما الضرر الذي ينتج عن امتناع لبنان عن ابرام اتفاقية المحكمة الخاصة بلبنان»، والى استمرار «موقف رئيس الجمهورية، الذي كانت قد مدّدت ولايته خلافاً لمضمون (ال 1559)، في محاولته تعطيل الصلاحيات الدستورية لحكومة لبنان الشرعية، ورفض رئيس المجلس النيابي قبول احالة مشروع القانون الذي يجيز للحكومة اللبنانية ابرام الاتفاقية التي وقعتها مع الأمم المتحدة رغم انعقاد المجلس في دورته العادية».
وقال زعيم الغالبية البرلمانية النائب سعد الحريري حينها: «أرسلنا العريضة الى الامم المتحدة لنقول لاخوتنا في الوطن ان هذه هي فرصتهم الاخيرة وهي بمثابة انذار. فاذا اردتم المحكمة ضعوا ملاحظاتكم عليها ولنناقشها في مجلس النواب ونقرها واياكم (...) الان فهناك عريضة بين يدي الامم المتحدة وعندها سيتحرك مجلس الامن من تلقائه لتطبيق الفصل السابع»، مضيفاً: «لن نسمح لهم بعرقلة قيام المحكمة (...) نحن رجال رفيق الحريري وهم توابع لمصالح نظام سوري بائس او لدولة ايران البعيدة جدا عنا».
وبعد هذه العريضة، واطلاق قوى «8 آذار» تحذيرات «بالصوت العالي» من تداعيات الفصل السابع باعتباره «مساً بسيادة المؤسسات اللبنانية الدستورية» وتحميله المنظمة الدولية «مسؤولية ما يمكن ان ينجم عن ذلك من فتنة داخلية في لبنان»، افاد نيكولا ميشال الأمم المتحدة في 2 مايو 2007 «ان اقرار المحكمة في عملية دستورية يواجه عقبات جسيمة» واشار في الوقت نفسه الى «ان جميع الاطراف المعنية اكدت موافقتها المبدئية على تشكيل المحكمة».
وبعد اقلّ من اسبوعيْن، استُكمل مسار انشاء المحكمة «قيصرياً» برسالة وجّهها الرئيس السنيورة في 14 مايو الى بان وطلب فيها ان يتخذ مجلس الامن «قرارا ملزما» يفضي الى انشاء المحكمة في اشارة ضمنية الى الفصل السابع.
وما ان تلقت الامم المتحدة رسالة رئيس الوزراء اللبناني، حتى انطلقت حركة مشاورات مكثفة في اروقة المنظمة الدولية، وبدأ «الخط الساخن» يعمل بين عواصم القرار، ولا سيما واشنطن وباريس ولندن التي باشرت الاعداد لمشروع قرار تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة يفرض عملياً انشاء المحكمة.
وعلى وقع اشتداد لعبة «عض الاصابع» في بيروت حيال مشروع القرار الذي شغل مجلس الأمن، انفجرت فجر 20 مايو 2007 «حرب المئة يوم » في نهر البارد بين الجيش اللبناني وتنظيم «فتح الاسلام » الارهابي، وهي الحرب التي وضعتها قوى الأكثرية في سياق المحاولات «الأمنية » ل «اغتيال المحكمة » وترهيب لبنان من اي اقرار لها «بالفصل السابع ». الا انه وعلى طريقة «ما كُتب قد كُتب»، صدر في 30 مايو 2007 القرار 1757 الذي أقر المحكمة بموجب الفصل السابع، بموافقة 10 اعضاء في مجلس الأمن وامتناع خمس دول عن التصويت هي روسيا والصين وقطر وجنوب أفريقيا واندونيسيا.
وجاء في القرارالذي تلقّفه الوفد اللبناني بقيادة وزير الثقافة طارق متري على انه «انجاز» ديبلوماسي وسياسي، انه بناءً على الاتفاق المبرم بين الامم المتحدة والجمهورية اللبنانية في شأن انشاء محكمة خاصة للبنان وعلى الرسالة الموجهة الى الامين العام للأمم المتحدة من رئيس وزراء لبنان والتي أشار فيها الى ان الغالبية البرلمانية أعربت عن تأييدها للمحكمة وطلب فيها ان يعرض طلبه انشاء المحكمة الخاصة على المجلس على سبيل الاستعجال وبناءً للاحاطة التي قدمها المستشار القانوني والتي لاحظ فيها ان انشاء المحكمة من طريق العملية الدستورية يواجه عقبات جدية، يبدأ سريان أحكام الوثيقة المتعلقة بانشاء محكمة خاصة للبنان اعتباراً من 10 يونيو 2007، اي مع فترة سماح عشرة ايام لاقرارها في البرلمان اللبناني قبل هذا التاريخ والا فان مجلس الأمن سيبرم المعاهدة من جانب واحد نيابة عن الدولة اللبنانية، أسوة بما فعل في رواندا ويوغوسلافيا، وهو ما حصل.
وقد اعتُبر ال 1757 سابقة في تاريخ الأمم المتحدة، اذ لم يسبق ان تشكلت محكمة خاصة بقرار من مجلس الأمن للنظر في «تفجير ارهابي» (المحاكم الدولية اختصت بجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان).
وفور صدوره، في اليوم 836 على اغتيال الحريري، وكان ذلك مساء أربعاء، «انشطر» لبنان عموديا وأفقياً الى «نصفين» في مقاربة القرار ومفاعيله: فقوى «14 آذار» كانت مرتاحة، فيما قوى 8 آذار «مرتابة». وعلى وقع توزيع شبان من انصار الاكثرية و«تيار المستقبل» ورودا بيضاء وحلويات شرقية ملفوفة باوراق كُتبت عليها كلمة «العدالة» عند التقاطعات الرئيسية في العاصمة، وبعدما أضاءت الشموع ضريح الرئيس رفيق الحريري في باحة مسجد محمد الأمين، كان النائب سعد الحريري اول المهنئين بصدور ال 1757 وقد بدا في كلمة نقلتها شبكات التلفزة متأثرا جدا. وقال «ان هذا القرار يمثل خطوة تاريخية في مسيرة حماية لبنان»، داعياً الى «الوحدة والتضامن والتلاقي وليس الانقسام» وقائلا «أمدّ اليد الى شركائنا في الوطن. كفانا انقساما وتشرذما. فلنضع آراءنا واقتراحاتنا على طاولة واحدة».
في المقابل اكد «حزب الله» ان «القرار بقدر ما يشكل تجاوزاً للدولة اللبنانية واعتداء على شؤونها الداخلية بقدر ما هو مخالف للاصول القانونية ولمواثيق ومبادئ الامم المتحدة والاهداف التي قامت من اجلها»، معتبراً ان «فريق السلطة (في لبنان) قدم خدمة جليلة للادارة الاميركية حيث وضع بين يديها ورقة سياسية يمكن ان تستعملها للضغط السياسي»، في حين اعلنت صحف المعارضة ب «الخط العريض» ان لبنان بات تحت «وصاية دولية».
وفيما كان لبنان في «عين العاصفة» السياسية، عاد «عصْف» الاغتيالات، وكان «الهدف» هذه المرّة النائب وليد عيدو ( من كتلة النائب سعد الحريري ) الذي تمّ تفجيره بسيارة مفخخة في 13 يونيو 2007 (في محلة المنارة). واعتُبر عيدو، الذي سقط مع نجله الأكبر خالد، «شهيد المحكمة الدولية ».
وعلى وقع الخلافات الداخلية المستحكمة، التي تصاعدت وترسخت بالاتهامات المتبادلة بين الحكومة والمعارضة، مضى شهران، قبل ان يحلّ 14 أغسطس، التاريخ الذي حمل موافقة هولندا على استضافة المحكمة الدولية. ومرة جديدة أطلّ «شبح» الاغتيالات «المرافق» لمراحل ولادة المحكمة، حاصداً النائب عن حزب الكتائب اللبنانية انطوان غانم، وكان ذلك في 19 سبتمبر 2007.في الفترة التي تلت، بدأ «صراع الاستحقاق الرئاسي » يكتب فصوله واستمر «شد الحبال» طوال أشهر وسط «أعصاب مشدودة» و«انفاس محبوسة».
فجلسات انتخاب رئيس جديد للجمهورية تحوّلت «مسلسلاً» من التأجيل وسط اصرار فريق 8 آذار على عدم تأمين النصاب، متمسكاً بموقفه القائل بضرورة ان يكون الافراج عن الاستحقاق الرئاسي من ضمن «سلّة متكاملة» تشمل اقرار تعديلات قانون الانتخاب وتشكيل حكومة وحدة وطنية قبل انتخاب الرئيس. وبهذا، انتهت ولاية الرئيس اميل لحود ودخلت البلاد، عشية دخولها العام 2008 في فراغ رئاسي طويل كان ملأه في 12 ديسمبر 2007 اغتيال مدير العمليات في الجيش اللبناني و«العقل العملاني » فيه اللواء فرانسوا الحاج الذي كان من «مهندسي» انتصار الجيش اللبناني على تنظيم «فتح الاسلام» في «حرب المئة يوم» في نهر البارد (انتهت في سبتمبر 2007) وأبرز المرشحين لخلافة العماد ميشال سليمان في قيادة الجيش في ظل ارتفاع أسهم انتخاب الاخير رئيساً للجمهورية.
ولم يكن 2008 عاماً سعيداً بالنسبة الى اللبنانيين. فالشهر الأول منه الذي سجل في بدايته انتقال رئاسة لجنة التحقيق الدولية الى القاضي الكندي دانيال بلمار الذي لم تَظهر في بداية عمله اي اشارات على تبدُّل مسار الشبهة في جريمة الحريري»، حمل اغتيال الرائد في قوى الأمن الداخلي وسام عيد ( في 25 يناير )، الذي كان «العقل المعلوماتي » في فرع المعلومات، واتضح لاحقاً انه كان مطلعاً على معلومات وافرة في ملف اغتيال الحريري وانه حقق اختراقات وتحديداً في ملف «خريطة الاتصالات » المتصلة بالجريمة والتي عادت وشكلّت لاحقاً القاعدة التي تم الاستناد اليها ليوجّه بلمار (العام 2011) قرار الاتهام الى اربعة من «حزب الله» بجريمة 14 فبراير 2005.
ولم تحمل الأيام اللاحقة من ال 2008 أي انفراج في الأفق السياسي، فظلت البلاد من دون رئيس يحكمها واستمر تعطيل المؤسسات الدستورية وبقي الشلل يسود لبنان من «قلبه» المسكون بالاعتصام المفتوح، وتلاحقت الاشكالات الأمنية التي حصدت عدداً من الضحايا المدنيين وانذرت بان البلد يقف «على فوهة بركان».وفي غمرة الأفق المسدود داخلياً و«فقاقيع» التوتر التي كانت تظهيراً ل «الغليان» الاقليمي، ولا سيما ل «الحرب الباردة» والآخذة «حرارتها» في الارتفاع بين سورية والمجتمع الدولي، تقاطعت معلومات عن ضعف في سداد وتأمين الأموال اللازمة للمحكمة الخاصة بلبنان (يتكفّل لبنان ب 49 في المئة من تمويلها)، غير انَّ الأزمة سرعان ما حلت وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة، في 12 مارس 2008 انَّ كل التحضيرات اللازمة لانشاء المحكمة استكملت.
وحلَّ «ساخناً» شهر مايو 2008 حاملاً معه بذور انفجار جاء الأخطر منذ انتهاء الحرب الأهليّة في لبنان، حين نفّذ «حزب الله » في 7 مايو عملية عسكرية في بيروت وحاول اقتحام الجبل الدرزي لتقفل هذه الصفحة على توقيع اتفاق الدوحة في 21 مايو والذي توصّل اليه القادة اللبنانيون بعد حوار «ماراثوني» لمدة خمسة ايام أمّن «خريطة الخروج» من «خط النار» وانتخاب رئيس جديد للجمهورية (العماد سليمان) في 25 منه وتشكيل حكومة وحدة وطنية حصلت فيها «8 آذار» على «الثلث المعطّل» مع التعهّد «بعدم الاستقالة او اعاقة عمل هذه الحكومة»، و«الامتناع عن أو العودة الى استخدام السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية».
وبعد نحو عشرة أشهر كانت بدأت تملأها «ضوضاء» انتخابات يونيو ال 2009 النيابية التي أرادتها «14 آذار» لتنفيذ «7 مايو» سياسي في «الصناديق» يمحو مفاعيل أحداث 7 مايو العسكرية، وتعاطت معها «8 آذار» على انها المدخل لاسترداد ما وصفته ب «الأكثرية المسلوبة»، انطلق «قطار» المحكمة الدولية من لايتشندام في الاول من مارس 2009 ليبدأ المسار في اتجاه قوس العدالة.
شهداء سقطوا على طريق... المحكمة
سمير قصير (2 يونيو 2005)
جورج حاوي (21 يونيو من2005)
جبران تويني (12 ديسمبر 2005)
بيار الجميل (21 نوفمبر 2006)
وليد عيدو (13 يونيو 2007)
أنطوان غانم (19 سبتمبر 2007)
فرنسوا الحاج (12 ديسمبر 2007)
وسام عيد (25 يناير 2008)
محمد شطح (27 ديسمبر 2013)
لجنة التحقيق حجزت الضباط ... والمحكمة أخلت سبيلهم
لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة والمحكمة الخاصة بلبنان هما منظمتان منفصلتان. وقد انتهت ولاية اللجنة في 28 فبراير 2009، ونُقل اختصاصها إلى المحكمة الخاصة بلبنان، وسُلّمت المعلومات التي جمعتها اللجنة إلى المدعي العام في المحكمة الخاصة بلبنان.
أحد الإجراءات الأولى التي اتخذتها المحكمة الخاصة بلبنان إصدار أمر بإطلاق سراح الضباط اللبنانيين اللواءان جميل السيد، وعلي الحاج والعميدان مصطفى حمدان وريمون عازار الذين كانت السلطات اللبنانية أوقفتهم بناء على تقرير اول رئيس للجنة التحقيق الدولية القاضي ديتليف ميليس في 30 أغسطس 2005 في إطار دور مفترض لهم في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وصدر أمر تخليتهم الذي نُفذ في 29 ابريل 2009 بعدما قرّر قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة بلبنان، استناداً إلى المعلومات المتوافرة للمحكمة، أنه لا يوجد سبب يدعو لاحتجازهم.
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.