مواضيع ذات صلة فهمي هويدي (كاتب ومفكر مصري) [email protected] انتقلنا في مصر من إرهاب السلطة إلى إرهاب المجتمع. إذ في ظل الاستقطاب الحاد الذي نعيشه، وفي غياب مؤسسات أو أوعية للحوار، وفي غياب ثقافة ديمقراطية تجعل الحوار بديلا عن الشجار، فإن التجاذب والتراشق صارا من أبرز سمات المرحلة التي نعيشها. لم تعد لنا مشكلة كبيرة مع السلطة. بعدما انتخب الأغلبية رئيسا أيده البعض وعارضه آخرون، لكنه بعد انتخابه اكتسب شرعية لا يستطيع أحد أن يطعن فيها وإن اختلف معها. المشكلة الأكبر الآن بين تيارات المجتمع التي توزعت في الوقت الراهن على معسكرين، شاع وصفهما بالقوى الدينية والمدنية. وهو وصف انتقدته في مقام آخر، لأنه يضع الطرفين على النقيض من بعضهما البعض، وذلك غير صحيح، في حين أن الوصف الأدق أنه بين قوى إسلامية وعلمانية بالأساس، على هوامشها مؤيدون للرئيس محمد مرسي ومعارضون له، لأسباب سياسية لا تتعلق بالهوية الدينية أو المدنية. في العراك الراهن يوصف مؤيدو الرئيس مرسي بأنهم سرقوا الثورة وخانوها وباعوا الشهداء وبأنهم ظلاميون متخلفون يريدون إعادة مصر إلى العصور الوسطى، ويحولونها إلى مجرد إمارة في دولة الخلافة. بالمقابل يرد بعض الإسلاميين باتهام العلمانيين بأنهم ملحدون وكفرة وعملاء للغرب ودعاة للإباحية والتحلل. وهناك ألفاظ وأوصاف أخرى خارجة يتبادلها الطرفان تصدمني حين أطالعها في الشتائم المتبادلة، أستحي من ذكرها فضلا عن أنها مما لا يليق الاستشهاد به في أي سياق أو منبر محترم. ولأن لغة الهجاء والسباب صارت هي الأصل، فإن الذين انتقدوا استجابة البعض لدعوة الرئيس مرسي لبحث الخروج من الأزمة الراهنة، لم يوردوا حججا موضوعية في نقدهم، ولكن منهم من استسهل إضافة أسمائهم إلى ما وصف بأنه قائمة «العار». حين خرجنا من مرحلة موت السياسة إلى انخراط الجميع وتقافزهم في بحر السياسة، لم نجد أوعية مهيأة لاستقبال ذلك الزحف الكبير. وكان من الصعب علينا أن نجري حوارا لم تتعود عليه. فلم يجد الناس أمامهم سوى الشوارع والميادين يخرجون إليها، وشاشات التلفزيون يصيحون عليها. وكنا في السابق قد غضضنا الطرف عن خلافاتنا لأن السلطة المستبدة كانت خصما مشتركا. ولم ننتبه إلى أن تأجيل تلك الخلافات كان في حقيقته «هدنة» موقعة ضمنا، وليس اقتناعا بضرورة العيش المشترك والتمسك بأهداب السلم الأهلي. وحين سقط ذلك الخصم أصبحنا في مواجهة بعضنا البعض، فتم استدعاء ما كان مؤجلا وإيقاظ ما كان نائما أو مغيبا، فتعاركنا واستمر احترابنا إلى أن وصلنا إلى مرحلة ما عاد أحد فينا يحتمل الآخر أو يقبل به، وأصبح شعار الإقصاء مشهرا على واجهاتنا الإعلامية وفضائنا السياسي، وفي خضم الاحتراب نسينا الحلم المشترك واستسلمنا لشهوة الانتصار على الآخر حتى إذا تم ذلك على جثة المواطن. تعاركنا بتبادل النعوت والاتهامات وبوابل الكلمات، وبالاعتصامات والمليونيات. ولم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر، لأن الأسوأ تمثل في إحلال الغرائز محل العقل، وانخراط العقلاء في الاستقطاب البائس الذي قسم البلد ولوث أجواءه. بالتالي فإن كل طرف لجأ إلى تخويف الآخر، وليس إلى حمله أو إقناعه. وفي هذا الخضم تم التقاذف بالأوصاف التي سبقت الإشارة إليها. ورأينا مليونية في ميدان التحرير يرد عليها بمليونية مضادة في ميدان نهضة مصر. ووجدنا اعتصاما أمام مقر المحكمة الدستورية، وفي مقابلة اعتصام أمام مقر الرئاسة في قصر الاتحادية. ثم فوجئنا باعتصام احتجاجي على ما تبثه بعض الفضائيات أمام مدينة الإنتاج الإعلامي. ولم يخل الأمر من اشتباكات بالأيدي، تطورت إلى إطلاق للرصاص سقط بسببه عشرة من القتلى في «موقعة الاتحادية» يوم الأربعاء قبل الماضي. لم تعد السلطة تخيفنا، بل إن الشرطة التي ظلت تخيفنا طول الوقت أصبحت تخاف من الناس في بعض مراحل ما بعد الثورة على الأقل، لكننا صرنا نخاف من بعضنا البعض. ورغم أن الإرهاب كله أمر مقيت لكني صرت أخشى من إرهاب المجتمع بأكثر من خشيتي من إرهاب السلطة، إذا جاز لنا أن نختار بين الشرين. فالسلطة كيان محدد يمكن اختصامه، في حين أن المجتمع بحر واسع لا تعرف شخوصه. والسلطة مؤقتة وزائلة يوما ما، أما المجتمع فهو باق حتى تقوم الساعة. وإرهاب السلطة يظل إجراء مهما بلغت قسوته، أما إرهاب المجتمع فهو جزء من ثقافة خطرة تشوه أجياله وتهدد كيانه. الأمر الذي يسوغ لي أن أقول إن إرهاب السلطة مرض يصيب الجسم ولكن إرهاب المجتمع وباء يحل بالأمة وتعم به البلوى. إذا صح أن ذلك التجاذب من مخلفات مرحلة الاستبداد التي شوهت قيم المجتمع ومزقت أواصره، فإن ذلك يشجعنا على أن نراهن على أمل إقامة نظام ديمقراطي يعيد للمجتمع صوابه، ويرد إلى القوى السياسية ثقتها في بعضها البعض، ومن ثم يعيد إلى الحوار قيمته المهدرة.