رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    تعرف على أبرز المعلومات عن قاعدة "هشتم شكاري" الجوية التي قصفتها إسرائيل في أصفهان بإيران    أمن عدن يُحبط تهريب "سموم بيضاء" ويُنقذ الأرواح!    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    حالة وفاة واحدة.. اليمن يتجاوز المنخفض الجوي بأقل الخسائر وسط توجيهات ومتابعات حثيثة للرئيس العليمي    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    ايران تنفي تعرضها لأي هجوم وإسرائيل لم تتبنى أي ضربات على طهران    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    برشلونة يسعى للحفاظ على فيليكس    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    الرد الاسرائيلي على ايران..."كذبة بكذبة"    الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    اشتباكات قبلية عنيفة عقب جريمة بشعة ارتكبها مواطن بحق عدد من أقاربه جنوبي اليمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نبذة من حياة ابي الفضل العباس حامل لواء الامام الحسين (ع) في كربلاء


في ذكرى مولده الشريف..
نبذة من حياة ابي الفضل العباس حامل لواء الامام الحسين (ع) في كربلاء
تصادف اليوم 4 شعبان ذكرى مولد ابي الفضل العباس بن الامام علي بن ابي طالب واخي سبط رسول الله (ص) الامام الحسين (ع) وحامل رايته وناصره في معركة كربلاء ، وتيمّنا بذكراه سمّي هذا اليوم في ايران بيوم المضحي حيث تعم الاحتفالات في مدن البلاد ، وبهذه المناسبة نستعرض نبذة عن حياته الشريفة.
طهران (فارس)
لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من اُفق المجد العلوي، مُرتضعاً ثدي البسالة، مُتربّياً في حِجر الخلافة، وقد ضربت فيه الإمامةُ بعرقٍ نابضٍ، فترعرع ومزيجُ روحه الشهامة والإباء، والنّزوع عن الدَّنايا، وما شُوهد مُشتدّاً بشبيبته الغضة إلاّ وملء إهابه إيمانٌ ثابت، وحشوُ ردائه حلم راجح، ولبّ ناضج، وعلم ناجع.
فلم يزل يقتصّ أثر الحسين السّبط الشهيد عليه السّلام الذي خُلق لأجله، وكُوّن لأنْ يكون ردءاً له في صفات الفضل ومخائل الرفعة، وملامح الشجاعة والسّؤدد والخطر. فإنْ خطى سلام اللّه عليه فإلى الشرف، وإنْ قال فعَن الهُدى والرشاد، وإنْ رمق فإلى الحقِّ، وإنْ مال فعَن الباطل، وإنْ ترفّع فعَن الضيم، وإنْ تهالك فدون الدِّين.
فكان أبو الفضل جامع الفضل والمثل الأعلى للعبقرية ; لأنّه كان يستفيد بلجِّ هاتيك المآثر من شمسِ فَلَكِ الإمامة ( حسينُ العلمِ والبأسِ والصلاحِ )، فكان هو وأخوه الشهيد عليهما السّلام من مصاديق قوله تعالى في التأويل : ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا. فلم يسبقه بقولٍ استفاده منه، ولا بعملٍ أتبعه فيه، ولا بنفسيَّةٍ هي ظلّ نفسيَّته، ولا بمنقبة هي شعاع نوره الأقدس المُنطبع في مرآة غرائزه الصقيلة.
وقد تابع إمامه في كُلّ أطواره حتّى في بروز هيكله القدسي إلى عالم الوجود، فكان مولد الإمام السّبط عليه السّلام في ثالث شعبان، وظهور أبي الفضل العبّاس إلى عالم الشهود في الرابع منه سنة ستٍّ وعشرين من الهجرة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا اُحضر أمامه ولدُهُ المحبوبُ ليُقيم عليه مراسيم السُّنّة النّبويّة التي تُقام عند الولادة، ونظر إلى هذا الولد الجديد الذي كان يتحرّى البناء على اُمّه أنْ تكون من أشجع بيوتات العرب ; ليكون ولدها ردءاً لأخيه السّبط الشهيد يوم تحيط به عصب الضلال، شاهد بواسع علم الإمامة ما يجري عليه من الفادح الجَلل، فكان بطبع الحال يُطبّق على كُلِّ عضو يُشاهده مصيبةً سوف تجري عليه، يُقلّب كفّيه اللذين سيُقطعان في نُصرة حُجّة وقته، فتهمل عيونُهُ،
ويُبصر صدرَه عيبةَ العلم واليقين، فيُشاهده منبتاً لسهام الأعداء، فتتصاعد زفرتُهُ، وينظر إلى رأسه المُطهّر فلا يعزب عنه أنّه سوف يُقرع بعمد الحديد ، فتثور عاطفتُهُ وترتفعُ عقيرتُه، كما لا يُبارح فاكرته حينما يراه يسقي أخاه الماء ما يكون غداً من تفانيه في سقاية كريمات النّبوّة، ويحمل إليهنّ الماء على عطشه المرمض، وينفض الماء حيث يذكر عطش أخيه عليه السّلام ، تهالكاً في المواساة، ومبالغة في المفادات، وإخلاصاً في الاُخوّة، فيتنفس الصعداء، ويُكثر من قول : مالي وليزيد !. وعلى هذا فقس كُلَّ كارثةٍ يُقدّر سوف تلمّ به وتجري عليه.
فكان هذا الولد العزيز على أبويه وحامّته، كُلّما سرّ أباه اعتدالُ خلقتِهِ، أو ملامح الخير فيه، أو سمة البسالة عليه، أو شارة السّعادة منه، ساءه ما يُشاهده هنالك من مصائب يتحمّلها، أو فادحٍ ينوء به ، من جُرحٍ دامٍ، وعطشٍ مُجهدٍ، وبلاءٍ مُكرب. وهذه قضايا طبيعيّة تشتدّ عليها الحالة في مثل هاتيك الموارد، ممّن يحمل أقلّ شيء من الرّقّة على أقلّ إنسان، فكيف بأمير المؤمنين عليه السّلام الذي هو أعطف النّاس على البشر عامّة من الأب الرؤوف، وأرقّ عليهم من الاُمّ الحنون !
إذاً فكيف به في مثل هذا الإنسان الكامل (أبي الفضل) الذي لا يقف أحدٌ على مدى فضله، كما ينحسر البيان عن تحديد مظلوميّته واضطهاده.
وذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص21 : إنّ اُمّ البنين رأت أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض الأيّام أجلس أبا الفضل عليه السّلام على فخذه، وشمّر عن ساعديه، وقبَّلهما وبكى، فأدهشها الحال ; لأنّها لم تكنْ تعهد صبيّاً بتلك الشمائل العلويّة ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر، ولمّا أوقفها أمير المؤمنين عليه السّلام على غامض القضاء، وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسين عليه السّلام، بكت وأعولت، وشاركها مَن في الدار في الزفرة والحسرة، غير أنّ سيّد الأوصياء عليه السّلام بشّرها بمكانة ولدها العزيز عند اللّه جلّ شأنه، وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد، والسّعادة الخالدة.
ومعلوم أنّ تقبيل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كفّي ولده أبي الفضل العبّاس عليه السّلام وساعديه ليس هو من باب الشفقة والمحبّة فقط، بل هو من باب المقام والمنزلة أيضاً.
وروي أنّه لمّا كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين للهجرة، أي في ليلة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي الليلة الأخيرة من عمر الإمام علي عليه السّلام، حيث أخذ الإمام يودّع فيها أهل بيته وخاصّته، ويوصيهم بوصاياه ومواعظه، وفيها التفت إلى ولده أبي الفضل العبّاس عليه السّلام، وضمّه إلى صدره، وقال له: ولدي عبّاس، وستقرّ عيني بك يوم القيامة.
ولدي أبا الفضل، إذا كان يوم عاشوراء ، ودخلت الماء وملكت المشرعة، فإيّاك أن تشرب الماء وأن تذوق منه قطرة وأخوك الحسين عليه السّلام عطشان.
والشاهد من هذا الخبر هو قول الإمام أمير المؤمنين لولده أبي الفضل العبّاس عليهما السّلام: وستقرّ عيني بك في يوم القيامة ، فإنّ قرّة عين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لا يكون إلاّ بما يراه الإمام من علوّ مقام ولده أبي الفضل العبّاس عند الله تبارك وتعالى، ورفيع منزلته لديه.
العبّاس في نظر الأئمّة عليهم السّلام
إنّي لا أحسب القارئ في حاجةٍ إلى الإفاضة في هذه الغاية بعد ما أوقفناه على مكانة أبي الفضل عليه السّلام من العلم والتّقى ، والملكات الفاضلة ؛ من إباء وشمم ، وتضحية في سبيل الهدى ، وتهالك في العبادة ؛ فإنّ أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السّلام يُقدّرون لمَن هو دونه في تلكم الأحوال فضله ، فكيف به وهو من لُحمتهم وفرعِ أرومتهم ، وغصن باسق في دوحتهم ؟! وقد أثبت له الإمام السّجاد عليه السّلام منزلة كبرى لم يَنلها غيره من الشُّهداء ، ساوى بها عمّه الطيّار ، فقال عليه السّلام :
رحمَ اللّهُ عمِّي العبّاسَ بنَ عليٍّ ، فلقد آثرَ وأبلَى ، وفدَى أخاه بنفسِهِ حتّى قُطِعتْ يَداهُ ، فأبدلَهُ اللّهُ عزّ وجل جناحينِ يطيرُ بهمَا مع الملائكةِ في الجنّةِ ، كما جعلَ لجعْفرِ بنِ أبي طالبٍ . إنّ للعبّاسِ عندَ اللّهِ تباركَ وتعالى منزلةً يَغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ.
ولفظ ( الجميع ) يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة ، وقد نفى البُعد عنه العلاّمة المُحقّق المُتبحّر في الكبريت الأحمر ص47 ج3 .
ولعلّ ما جاء في زيارة الشُّهداء يشهد له : السّلامُ عليكُمْ أيُّها الرَّبّانيّونَ ، أنتُمْ لنا فرطٌ وسَلفٌ ونحنُ لكُمْ أتباعٌ وأنصارٌ ، أنتُمْ سادةُ الشُّهداءِ في الدُّنيا والآخرةِ . وكذلك قوله عليه السّلام فيهم : إنّهم لم يسبقهم سابقٌ ، ولا يلحقهم لاحقٌ . فقد أثبت لهم السّيادة على جميع الشُّهداء ، أنّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أيُّ أحدٍ ، وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل ، وقد انفرد عنهم بما أثبته له الإمام السّجاد عليه السّلام من المنزلة التي لم تكن لأيِّ شهيد .
ولهذه الغايات الثمينة والمراتب العُليا ؛ كان أهلُ البيت عليهم السّلام يُدخلونه في أعالي اُمورهم ما لا يتدخّل فيه إنسانٌ عادي ، فمِن ذلك : مُشاطرتُه الحسينَ عليه السّلام في غسل الحسن عليه السّلام .
وأنتَ بعد ما علمت مرتبة الإمامة ، وموقف صاحبها من العظمة ، وأنّه لا يلي أمره إلاّ إمامٌ مثله ، فلا ندحة لك إلاّ الإيمان بأنّ مَن له أيّ تدخل في ذلك بالخدمة من جلب الماء وما يقتضيه الحال [ هو ] أعظم رجلٍ في العالم بعد أئمّة الدِّين عليهم السّلام ؛ فإنّ جثمان المعصوم عليه السّلام عند سيره إلى المبدأ الأعلى تقدّست أسماؤه لا يُمكن أنْ يقربَ أو ينظر إليه مَن تقاعس عن تلك المرتبة ؛ إذ هو مقامُ قابَ قوسين أو أدنى ، ذلك الذي لم يطق الروح الأمين أنْ يصل إليه حتّى تقهقر ، وغاب النّبيُّ الأقدس في سبحات الملكوت والجلال وحدهُ إلى أنْ وقف الموقف الرهيب . وهكذا خلفاء النّبيِّ صلّى الله عليه وآله المشاركون له في المآثر كُلِّها ما خلا النّبوَّة والأزواج ، ومنه حال انقطاعهم عن عالَم الوجود بانتهاء أمد الفيض المُقدّس .
وممّا يشهد له أنّ الفضل بن العبّاس بن عبد المُطّلب كان يحمل الماء عند تغسيل النّبيِّ صلّى الله عليه وآله ، معاوناً لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام على غسله ، ولكنّه عصبَ عينيه ؛ خشية العمَى إنْ وقع نظرُهُ على ذلك الجسد الطّاهر .
ومثله ما جاء في الأثر عن الإشراف على ضريح رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ؛ حذراً أنْ يرى النّاظر شيئاً فيعمى ، وقد اشتهر ذلك بين أهل المدينة ، فكان إذا سقط في الضريح شيءٌ أنزلوا صبيّاً وشدّوا عينيه بعصابة فيخرجه .
وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر ، وليس لنا إلاّ التسليم على الجملة ، ولا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرّد بُعدنا عن إدراك مثلها ، خصوصاً بعد استفاضة النّقل في أنّ للنّبيِّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السّلام بعد وفاتهم أحوالاً غريبةً ليس لسائر الخلق معهم شركة ، كحرمة لحومهم على الأرض ، وصعود أجسادهم إلى السّماء ، ورؤية بعضهم بعضاً ، وإحيائهم الأموات منهم بالأجساد الأصليّة عند الاقتضاء ؛ إذ لا يمنع العقل منه مع دلالة النّقل الكثير عليه واعتراف الأصحاب به ، فيصار التحصّل : إنّ الحواس الظاهرة العاديّة لا تتحمّل مثل تلك الأمثلة القُدسية وهي في حال صعودها إلى سبحات القُدس إلاّ نفوس المعصومين عليهم السّلام بعضها مع بعض دون غيرهم ، مهما بلغ من الخشوع والطاعة .
لكنّ ( عباس المعرفة ) الذي منحه الإمام عليه السّلام في الزيارة أسمى صفة حظي بها الأنبياء والمقرّبون عليهم السّلام ، وهي : ( العبد الصالح ) تسنّى له التوصّل إلى ذلك المحل الأقدس من دون أنْ يُذكر له تعصيبُ عينٍ أو إغضاءُ طرفٍ ، فشارك السّبط الشهيد عليه السّلام ، والرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ، ووصيه المُقدّم مع الروح الأمين عليه السّلام ، وجملةَ الملائكة في غسل الإمام المجتبى الحسن السّبط صلوات اللّه عليهم أجمعين . وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها إلاّ ذَوو النّفوس القُدسيّة من الحُجج المعصومين عليهم السّلام ، ولا غرو إنْ غبط أبا الفضل الصّدِّيقون والشُّهداء الصالحون .
وإذا قرأنا قول الحسين للعبّاس عليهما السّلام ، لمّا زحف القوم على مخيّمه عشيّة التاسع من المُحرّم : اركَبْ بنفسِي أنتَ يا أخي حتّى تَلقاهُمْ . . . وتسألَهُمْ عمّا جاءَ بِهم . فاستقبلهم العبّاس في عشرين فارساً ، فيهم حبيب وزهير ، وسألهم عن ذلك ، فقالوا : إنّ الأمير يأمر إمّا النّزول على حكمه أو المُنازلة .
فأخبر الحسينَ عليه السّلام ، فأرجعه ليُرجئهم إلى غد.
1- منزلة العبّاس عند الإمام محمد الباقر عليه السّلام
جاء في كتب المقاتل إنّ الإمام محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، المكنى ب أبي جعفر، والملقّب من قبل جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الله تبارك وتعالى بلقب الباقر عليه السّلام، كان مع أبيه الإمام السجّاد عليه السّلام وجدّه الإمام الحسين عليه السّلام قد حضر كربلاء، ومر عليه يوم عاشوراء وهو ابن خمس سنين، فكان يدرك كلّ الوقائع المؤلمة التي وقعت فيه، ويتحسّس جميع الأحداث المفجعة التي اتّفقت لهم عنده، فكان المصاب الأليم يعصر قلبه، والرزايا العظيمة تستدرّ دمعه، وخاصّة عندما سمع بمقتل عمّ أبيه أبي الفضل العبّاس عليه السّلام، ذلك البطل الضرغام الذي كان معسكر الإمام الحسين عليه السّلام، وخاصّة مخيّم النساء آمناً في ظِلاله، ومطمئناً إلى حمايته ودفاعه، والذي بشهادته عليه السّلام أمِنَ العدوّ جانب الإمام الحسين عليه السّلام، وأيقن بالسيطرة عليه، وسهرت عيون الهاشميات، وباتت خائفة من الأسر، مرعوبة من السبي، وتسلّط الأعداء الجفاة عليهم.
ولذلك يمكن لنا القول بأنّ الإمام الباقر عليه السّلام تقديراً لمواقف عمّه أبي الفضل العبّاس عليه السّلام المشرّفة، وشكراً لمساعيه الطيّبة، وإعلانا عن مقام عمّه أبي الفضل العبّاس عليه السّلام عنده، ومنزلته لديه، قد لثم يدَي عمّه المقطوعتين، وقبّلهما بحرقة ولوعة ، اقتداءً بأبيه الإمام السجّاد عليه السّلام، وجدّه الإمام الحسين عليه السّلام، وذلك حين مرّوا به وبعمّاته والهاشميات على مصارع القتلى، وأطافوا بهم حول أجسادهم الموذرة وأعضائهم المقطّعة.
وبذلك يكون قد قبّل يدَي أبي الفضل العبّاس عليه السّلام ولثمها خمسة من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، وهم: الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، والإمام الحسن المجتبى عليه السّلام، فإنّهما قبّلا يديه في حال صغره، وحين كانتا مثبتتين في جسمه، والإمام الحسين عليه السّلام ، فإنّه قبّلهما في صغره مثبتتين، وفي كبره مقطوعتين، والإمام السجاد عليه السّلام والإمام الباقر عليه السّلام ، فإنّهما قبّلا يدَيه وهما مقطوعتان عن جسمه، مرميّتان على رمضاء كربلاء.
2- الإمام الصادق عليه السّلام ومنزلة العبّاس عنده
لقد روي عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام الشيء الكثير، والجم الغفير في حقّ عمّه أبي الفضل العبّاس عليه السّلام، وكلّ واحد منها ينبئ عن علوّ مقامه عنده، وسموّ منزلته لديه، بل كلّ واحد منها صريح في بيان ما لأبي الفضل العبّاس عليه السّلام من الجاه والجلال عند الله تعالى، وعند رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعند فاطمة الزهراء عليه السّلام، وعند الأئمّة من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وقد اشتهر منها قوله عليه السّلام في حقّه: كان عمّنا العبّاس بن علي عليه السّلام نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله عليه السّلام وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً.
ويكفي أبا الفضل العبّاس عليه السّلام هذا الوسام الكريم من الإمام الصادق عليه السّلام، الذي هو وسام من الله تعالى ، لأنّه عليه السّلام) يتكلّم عن آبائه عليهم السّلام، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، عن جبرائيل، عن الله تعالى، وقد أبان فيه عن مدى شخصيّة أبي الفضل العبّاس عليه السّلام الكبيرة، وكشف عبره عن مغزى نفسية العبّاس عليه السّلام الرحبة، وأفصح في طيّاته عن معنوياته الواسعة والصلبة.
وقد اشتهر منها أيضاً قوله عليه السّلام فيما علّمه شيعته وأصحابه إذا حضروا عند مرقد أبي الفضل العبّاس عليه السّلام أن يخاطبوه به من لفظ الزيارة المرويّة بسند صحيح متّفق عليه، والتي تبتدئ بتقديم التحيّة، وإهداء السّلام من الله وملائكته وأنبيائه ورسله، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، زاكيّة طيّبة في كلّ صباح ومساء على العبّاس ابن أمير المؤمنين عليه السّلام، وتنتهي بالدعاء والثناء، وطلب المغفرة والرضوان، ونيل الفلاح والنجاح للزائرين الوافدين، وتضمّ فيما بين البدء والختم معانٍ شامخة، ومقامات سامية تضاهي ما جاء من المعاني الشامخة في زيارات المعصومين عليهم السّلام، وتوازي ما روي من المقامات السامية لهم سلام الله عليهم أجمعين.
فالزيارة هذه إذاً صريحة في عظمة أبي الفضل العبّاس عليه السّلام، وجلالة قدره
الاِمام الصادق ( عليه السلام ) فهو العقل المبدع والمفكّر في الاِسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ ، وكان مما قاله في حقّه:
« كان عمّي العبّاس بن علي ( عليه السلام ) نافذ البصيرة ، صُلب الاِيمان ، جاهد مع أخيه الحسين ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً.. ».
وتحدّث الاِمام الصادق ( عليه السلام ) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:
أ نفاذ البصيرة:
أمّا نفاذ البصيرة ، فانها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلاّ من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لاِمام الهدى وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التأريخ ، فما دامت القيم الاِنسانية يخضع لها الاِنسان ، ويمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.
ب الصلابة في الاِيمان:
والظاهرة الاَخرى من صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) هي الصلابة في الاِيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع المادية ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الاَدلة على إيمانه.
ج الجهاد مع الحسين:
وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس ( عليه السلام ) أشاد بها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.
د زيارة الاِمام الصادق:
وزار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الاِمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته بقوله:
سلام الله ، وسلام ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين.. ».
لقد استقبل الاِمام الصادق عمّه العباس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الاِجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته قائلاً:
وأشهد لك بالتسليم ، والتصديق ، والوفاء ، والنصيحه لخلف النبيّ المرسل ، والسبط المنتجب ، والدليل العالم ، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم.. »
وأضفى الاِمام الصادق ( عليه السلام ) بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الاَوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي:
أ التسليم:
وسلّم العباس ( عليه السلام ) لاَخيه سيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) جميع أموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الاِيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي وسلامة القصد ، والاِخلاص في النيّة.
ب التصديق:
وصدّق العبّاس ( عليه السلام ) أخاه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في جميع اتجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وانّه على الحق ، وان من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.
ج الوفاء:
من الصفات الكريمة التي أضافها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) على عمّه أبي الفضل ( عليه السلام ) ، الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحق أخيه أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله.
لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتياته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.
د النصيحة:
وشهد الاِمام الصادق بنصيحة عمّه العبّاس لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ... ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول ( عليه السلام ) :
« فجزاك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت ، واحتسبت ، وأعنت فنعم عقبى الدار ... ».
وحوى هذا المقطع على إكبار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) وعن باب مدينته الاِمام أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.
ويستمرّ مجدّد الاِسلام الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه:
« أشهد ، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابّون عن أحبّائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته ، واستجاب لدعوته ، وأطاع ولاة أمره... ».
لقد شهد الاِمام الصادق العقل المفكّر والمبدع في الاِسلام ، واشهد الله تعالى على ما يقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله فهم الذين كتبوا النصر للاِسلام ، وبدمائهم الزكية ارتفعت كلمة الله عالية في الاَرض وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم ، وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لاِنقاذ الاِسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني أميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلف لواء الاِسلام ، ويعيد الناس لجاهليتهم الاَولى ، فثار أبو الفضل بقيادة أخيه أبي الاَحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحققت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الاِسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.
ويستمرّ الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العباس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول:
« أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة ، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداء ، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً ، وأفضلها غرفاً ، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبّيين ، والصديقين والشهداء ، والصالحين ، وحسن أُولئك رفيقاً.
أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل ، وانّك مضيت على بصيرة من أمرك ، مقتدياً بالصالحين ، ومتبعاً للنبيّين ، فجمع الله بيننا ، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين ، فانّه أرحم الراحمين.. ».
ويلمس في هذه البنود الاَخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدي الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيّه لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما دعا الاِمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلاّ الاَنبياء ، واوصيائهم ، ومن أمتحن الله قلبه للاِيمان.
3 الاِمام الحجّة:
وأدلى الاِمام المصلح العظيم بقيّة الله في الاَرض قائم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس ( عليه السلام ) جاء فيها :
« السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الواقي ، الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد ، وحكيم بن الطفيل الطائي.. »
وأشاد بقيّة الله في الاَرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان ، وهي:
1 مواساته لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد واساه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.
2 تقديمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلك بتقواه ، وشدّة تحرّجه في الدين ، ونصرته لاِمام الهدى.
3 تقديم نفسه ، واخوته ، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) .
4 وقايته لاَخيه المظلوم بمهجته.
5 سعيه لاَخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) .
مصرع أبي الفضل العباس عليه السلام 2015
ولما رأى أبو الفضل عليه السلام وحدة أخيه ، وقتل أصحابه ، وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى إليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق فلم يسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزين النبرات:
«أنت صاحب لوائي..».
لقد كان الاِمام يشعر بالقوّة والحماية ما دام أبو الفضل فهو كقوة ضاربة إلى جانبه يذبّ عنه ، ويردّ عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً:
« لقد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين ، وأريد أن آخذ ثأري منهم..».
لقد ضاق صدره ، وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته ، وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء فتحرّق شوقاً للاَخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
وطلب الاِمام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الاَطفال الذين صرعهم العطش فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل يعظهم ، ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه بعد ذلك إلى ابن سعد:
«يا بن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول: « دعوني أذهب إلى الروم أو الهند ، وأخلّي لكم الحجاز والعراق..».
وساد صمت رهيب على قوّات ابن سعد ، ووجم الكثيرون ، وودّوا أن الاَرض تسيخ بهم ، فانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً:
يا بن أبي تراب ، لو كان وجه الاَرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد . . .
لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السريرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخيه فأخبره بعتوّ القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الاَطفال ، وهم يستغيثون ، وينادون:
«العطش العطش..».
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاك ، من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الاَلم العاصف في محيّاه ، واندفع ببسالة لاِغاثتهم ، فركب فرسه ، وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجيش من بين يديه ، واستطاع أن يفكّ الحصار الذي فرض على الماء ، فاحتلّه ، وكان قلبه الشريف كصالية الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة ليشرب منه ، إلاّ أنه تذكّر عطش أخيه ، ومن معه من النساء والاَطفال ، فرمى الماء من يده ، وامتنع أن يروي غليله ، وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون وتشربين بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني
ان الاِنسانية بكل إجلال واحترام لتحيّي هذه الروح العظيمة التي تألّقت في دنيا الفضيلة والاِسلام وهي تلقي على الاَجيال أروع الدروس عن الكرامة الاِنسانية.
ان هذا الاِيثار الذي تجاوز حدود الزمان والمكان كان من أبرز الذاتيات في خلق سيّدنا أبي الفضل ، فلم تمكّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن يشرب من الماء قبله ، فأي إيثار أنبل أو أصدق من هذا الاِيثار ، ... واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخيم بعدما ملاَ القربة ، وهي عنده أثمن من حياته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانب ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبيّ صلى الله عليه وآله ، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:
لا أرهب الموت اذ الموت زقا حتى أواري في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا إني أنا العباس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وانّه لا يخشى الموت ، وانّما يستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخيه سبط النبيّ صلى الله عليه وآله .. وانه لفخور أن يغدو بالسقاء مملوءً من الماء ليروي به عطاشى أهل البيت.
وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب ، فقد ذكرهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ، ومحطّم فلول الشرك ، إلاّ ان وضراً خبيثاً من جبناء أهل الكوفة كمن له من وراء نخلة ، ولم يستقبله بوجهه ، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها ، لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء ، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ولم يعن بها بطل كربلاء وراح يرتجز:
والله ان قطعتم يميني انّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النبيّ الطاهر الاَمين
ودلل بهذا الرجز على الاَهداف العظيمة ، والمثل الكريمة التي يناضل من أجلها فهو انّما يناضل دفاعاً عن الاِسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنّة.
ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية وهو الحكيم بن الطفيل الطائي فضربه على يساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه حسبما تقول بعض المصادر وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم السلام وهو غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجراح ، وشدّة العطش ، وكان ذلك حقّاً هو منتهى ما وصلت إليه الاِنسانية من الشرف والوفاء والرحمة... وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأريق ماؤها ، ووقف البطل حزيناً ، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه ، وشدّ عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى إلى الاَرض ، وهو يؤدّي تحيّته ، ووداعه الاَخير إلى أخيه قائلاً:
«عليك منّي السلام أبا عبدالله...».
وحمل الاَثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جيوش الاَعداء ، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه ، وجعل يضمخه بدموع عينيه ، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً:
«الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدويّ...».
وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله ، وودّ أن الموت قد وافاه قبله ، وقد وصف السيّد جعفر الحلّي حالته بقوله:
فمشى لمصرعه الحسين وطرفه بين الخيام وبينه متقسم
ألفاه محجوب الجمال كأنّه بدر بمنحطم الوشيج ملثم
فأكب منحنياً عليه ودمعه صبغ البسيط كأنّما هو عندم
قد رام يلثمه فلم ير موضعاً لم يدمه عضّ السلاح فيلثم
نادى وقد ملاَ البوادي صيحة صم الصخور لهولها تتألّم
أأخي يهنيك النعيم ولم أخل ترضى بأن أرزى وأنت منعم
أأخي من يحمي بنات محمد اذ صرن يسترحمن من لا يرحم
ما خلت بعدك أن تشلّ سواعدي وتكف باصرتي وظهري يقصم
لسواك يلطم بالاَكف وهذه بيض الضبا لك في جبيني تلطم
ما بين مصرعك الفضيع ومصرعي إلاّ كما أدعوك قبل وتنعم
هذا حسامك من يذلّ به العدا ولواك هذا من به يتقدم
هونت يا باابن أبي مصارع فتيتي والجرح يسكنه الذي هو آلم
وهو وصف دقيق للحالة الراهنة التي حلّت بسيّد الشهداء بعد فقده لاَخيه ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الاَزري وضع الاِمام عليه السلام بقوله:
وهوى عليه ما هنالك قائلاً اليوم بان عن اليمين حسامها
اليوم سار عن الكتائب كبشها اليوم بان عن الهداة امامها
اليوم آل إلى التفرق جمعنا اليوم حلّ عن البنود نظامها
اليوم نامت أعين بك لم تنم وتسهّدت أخرى فعز منامها
اشقيق روحي هل تراك علمت ان غودرت وانثالت عليك لئامها
قد خلت اطبقت السماء على الثرى أو دكدكت فوق الربى أعلامها
لكن أهان الخطب عندي انني بك لاحق أمراً قضى علامها
ومهما قال الشعراء والكتّاب فانهم لا يستطيعون أن يصفون ما ألمّ بالاِمام من فادح الحزن ، وعظيم المصاب ، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخيه وهو لايتمكّن أن ينقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار ، وهو الصبور ، واتجه صوب المخيّم ، وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة:
«أين عمّي أبو الفضل ، ..».
فغرق بالبكاء ، واخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البكاء بشهادته ، وذعرت سكينة ، وعلا صراخها ، ولما سمعت بطلة كربلاء حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله بشهادة أخيها الذي ما ترك لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلاّ قدّمه لها أخذت تعاني آلام الاحتضار ، ووضعت يدها على قلبها المذاب ، وهي تصيح:
«وا أخاه ، واعبّاساه ، وا ضعيتنا بعدك...».
يالهول الفاجعة.
يالهول الكارثة.
لقد ضجّت البقعة من كثرة الصراخ والبكاء ، وأخذت عقائل النبوة يلطمن الوجوه وقد أيقن بالضياع بعده ، وشاركهنّ الثاكل الحزين أبو الشهداء في محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً:
«واضيعتنا بعدك يا أبا الفضل...».
لقد شعر أبو عبدالله عليه السلام بالضيعة والغربة بعد فقده لاَخيه الذي ليس مثله أخ في برّه ووفائه ومواساته ، فكانت فاجعته به من أقسى ما مُني به من المصائب والكوارث.
وداعاً يا قمر بني هاشم.
وداعاً يا فجر كل ليل.
وداعاً يا رمز المواساة والوفاء.
سلام عليك يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تُبعث حيّاً.
مقتبس من كتاب الخصائص العبّاسيّة / محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي
/ 2811/
وكالة الانباء الايرانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.