عقدة أوديب مفهوم ومصطلح من مفاهيم علم النفس ومصطلحاته؛ وقد غدت معروفة على نطاق واسع منذ أن استوحاها سيغموند فرويد من أسطورة أوديب اليونانية . وهي، كما نعرف، عقدة نفسية تطلق على الابن الذي يحب والدته ويتعلق بها ويغير عليها من أبيه لأنه يراه قريناً ومنافساً له، فهو يكرهه إلى حد التفكير في قتله بطريقة مجازية أو حقيقية، كما جرى في الأسطورة اليونانية . غير أن أمر هذه العقدة الأوديبية أكثر تعقيداً من هذه الصورة البسيطة المتقدمة . وعلماء النفس يشيرون إلى أن الطفل في مرحلة ما بعد الأوديبية (أي في مرحلة نضوجه) يحاول أن يأخذ مكانة خاصة في النظام الثقافي بشكل عام . ومن هنا تكون عقدة أوديب عند فرويد ذات صلة بالقانون والأخلاق والضمير، وكل أنواع السلطات الدينية والاجتماعية . وما يعنينا هنا من أمر هذه العقدة هو الجانب الرمزي الخاص بالأدب العربي، والشعر منه على نحو خاص . وما أثاره النقاش الذي جرى مؤخراً عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش على صفحات جريدة الدستور الأردنية، وبعض المواقع الإلكترونية، وما تضمنه من مزاعم خاصة بأخذه بعض النصوص التوراتية التي "أثّرت فيه، وعليه، إلى درجة الاستلاب" كما يقول الشاعر موسى حوامده . وكيف أن درويش "مستل من غيره"، السياب وأدونيس ونزار قباني، على حد تعبير الناقد محمد صابر عبيد، وأنه أساء إلى القضية الفلسطينية ليس فقط ببعض مواقفه السياسية، وإنما أيضاً في اعتماد قصيدته المشروع وغير المشروع على تراث أعداء هذه القضية، كما يمكن أن يفهم من مجمل ما قاله الباحث الفلسطيني أحمد أشقر، بطريقته الخاصة البعيدة قليلاً عن السياقات النقدية المعهودة . أقول إن هذا وغيره كثير مما قيل ضمن هذا الحوار، يجعل من الصعب تجنب الإشارة إلى وجود هذه العقدة الأوديبية التي ترمي، في هدفها الرمزي المعلن وغير المعلن، إلى قتل الشاعر الذي يحتل موقع الأب غير المنازع في الشعر الفلسطيني المعاصر . وتنبغي الإشارة إلى أن هذه العقدة ليست جدديدة ؛ فهي مترسخة في تراثنا الأدبي الحديث، وشعرنا العربي منه على نحو خاص . ويبعث عليها في العادة، وبطريقة لا شعورية غالباً، رغبة كامنة بضرورة قتل الأب، واستئناف العمل بعيداً عن سلطته الضاغطة، بحيث تبدو رغبة كثير من شعراء القصيدة العربية الحديثة في الخلاص من بعض الرموز المهيمنة في تاريخهم وتراثهم الشعري، نوعاً من جريمة قتل مجازية تجسّد فيها هذه الرموز شخصية الأب والأنا الأعلى الذي يمارس في خيال الابن وذاكرته هذه السلطة المحددة والمقيِّدة . ونحن هنا أمام حالة معروفة تُشبه تلك التي تحدّث عنها الناقد الأمريكي هارولد بلوم عام 1997 تحت عنوان "قلقا التأثير" (The anxiety of influence) . وملخّصُها الذي يقع في إطار العقدة الأوديبيّة، أن كل شاعر إنكليزي أو أمريكي يعاني، منذ الشاعر الإنكليزي ميلتون، قلقاً ناشئاً عن كونه تالياً من الناحية الزمنية لشعراء سابقين له، قلقاً شبيهاً بقلق أوديب في علاقته بأبيه . أما صلة الشاعر التالي فتتم عبر قصيدة أم، أو مجموعة قصائد للشاعر السابق الذي يمّثل دور الأب، حيث تولد لدى الشاعر الابن أحاسيس يمتزج فيها الحب والإعجاب بالحسد والخوف وربما الكراهية، أيضاً . ويؤدي هذا إلى جعل الشاعر التالي أو الابن يتخلص من السابق، ولو توهماً، بكتابة قصيدة يقنع نفسه بأنها تتجاوز القصيدة الأم بعد أن يكون قد قرأ تلك القصيدة الأم قراءة تشوّهها، أي تُبرز ما فيها من نقاط ضعف يراها الشاعر التالي متوهماً لكي يُتاح له بهذه الطريقة أن يضيف شيئاً جديداً لم يقلْه الشاعر السابق . ولم يذكر بعض الذين أمسكوا بمحمود درويش متلبساً بالجرم المشهود لأنه نقل من مصادر توراتية دون أن يشير إليها ولم يوثقها، كما ينبغي، أقول لم يذكروا أن التوراة والكتاب المقدس كلّه لم يتناول بعض الوقائع التاريخية باعتبارها أحداثاً واقعية حدثت في الماضي، بل كحكايات وأشكال لمثل نمطية سابقة، وأنه يعتمد نوعاً من التنميط في قراءة واقعتين متماثلتين في الماضي والحاضر والمستقبل . وهو، كما يقول نورثروب فراي في كتابه عن (الكتاب المقدس والأدب)، نوع من التنميط الذي يمثل مجازاً لغوياً يتحرك في الزمان . فالمثال يوجد في الماضي، والممثول يوجد في الحاضر، أو يوجد المثال في الحاضر والممثول في المستقبل، فتكمن حقيقة التنميط من حيث هو نمط فكري وما يفترضه ويؤدي إليه في نظرية عن التاريخ، أو بعبارة أدق، عملية تاريخية تسمح بافتراض معنى أو نقطة تشير إلى التاريخ، وأن حدثاً معيناً أو أحداثاً معينة ستؤشر عاجلاً أو آجلاً في ما يعنيه ذلك المعنى وتلك النقطة، ليصير ممثولاً لما حدث سابقاً . وما فعله محمود درويش في ما نقله من التوراة لا يختلف، في إطاره العام، على صعيد المجاز اللغوي والشعري، عما فعلته التوراة نفسها مع مصادرها الأدبية والتاريخية الأخرى، مع ما يرافق ذلك على مستوى الشعر من تغيير وتحويل وتداخل نصوص يشبه ما كان ابن رشيق يسميه في "العمدة" ب"التوليد" الذي يعني تنويعاً ضرورياً، وتأويلاً على الواقعة أو معنى العبارة المأخوذة من شاعر سابق أو مصدر آخر، ونقلاً لها من حال إلى حال أخرى، أو تثبيتاً نمطياً لإشارة أو معنى يستثير الفضول في ثباته وديمومته، كما هو الحال في موضوعة الموت التي لجأ درويش فيها في المرحلة الأخيرة من حياته، وبطريقته الخاصة المركبة، إلى بعض المصادر التوراتية، وبالكيفية التي أوضحها الشاعر سامي مهدي في مناقشته الموضوع على صفحات جريدة الدستور . وبعض الذين شاركوا في حوار شرفات ثقافية الخاص برفض (الأصنام في الشعر والثقافة) مثل يوسف زروقة، قد أشار صراحة إلى ما كان دعا إليه هو نفسه في مناسبات سابقة من ضرورة "قتل الأب المتسلط أمثال الشابي وسائر الشعراء الرواد"، بعد أن لاقى ما كتبه الشاعر موسى حوامدة عن درويش هوى في نفسه "لكونه نقداً لإطروحات تأليه المبدع" وفي تاريخنا العربي اتخذت هذه القضية الخاصة ب"تأليه المبدع" أشكالاً وصوراً مختلفة لا تقل ضراوة عما تعرض له هنا محمود درويش شاعراً وإنساناً . وقصة أبي العلاء المعري في مجلس الشريف الرضي حول أبي الطيب المتنبي معروفة، وكذلك قصة أولئك الشعراء الذين قيل إن عددهم وصل إلى الأربعين من الذين تطوعوا لهجاء المتنبي، لدى مروره ببغداد، استجابة لإغراء الوزير المهلبي لهم بالشاعر الذي رفض أن يوظف شعره لمدح رجل مثل هذا الوزير بعد هروبه (أي الشاعر) من مصر أثناء حكم كافور الإخشيدي . والأمر لا يتعلق هنا بشخص هذا الوزير أو غيره ممن كانت لهم مع المتنبي مواقف معادية مختلفة، ولا حتى بالمتنبي الذي لا ينكر أحد مقدار صلفه وكبريائه، بل بهؤلاء الشعراء الذين أحسوا بالضيم لأنهم وقعوا في الظل بسبب من هيمنة الشاعر الأوحد على السوق الشعرية والنقدية في عصره وبعد عصره، على الرغم من أن بعضهم، مثل الشريف الرضي، كانوا شعراء كباراً بكل المقاييس النقدية الموضوعية والمنصفة . ومن المعروف لنا أن المعركة النقدية حول أبي تمام في القرن الثالث الهجري لم تهدأ أو تخف حدتها إلا بعد ظهور المتنبي في القرن الرابع . وظل شعراء كبار مثل أبي نؤاس وابن الرومي خارج إطار هذه التداولية النقدية والسياقات الشعرية القائمة . وما أورده ابن النديم في الفهرست من أسماء الشعراء الذين لهم دواوين في القرن الرابع، لم يكن يساوي شيئاً كبيراً بالقياس إلى أعداد هؤلاء الشعراء الذين كانوا يعدون بالمئات، وربما وصل عددهم إلى الألف، كما يؤكد بعض الباحثين ومؤرخو أدب هذا العصر . إنها جناية النقد في زمن أبي تمام والمتنبي في الماضي، مثلما هي جنايته على الشعراء الآخرين لدى ظهور السياب وأدونيس ومحمود درويش، في الحاضر . . ترْك أعداد متزايدة من الشعراء من دون عناية نقدية كافية تناسب إمكاناتهم وكدّهم وإنجازاتهم التي يرقى بعضها، كما قلنا، إلى مستويات إبداعية كبيرة، والاكتفاء بالشاعر الفرد الذي ينبغي على هذا النقد أن يدع كل صوت غير صوته لأنه الشاعر المحكي والآخر الصدى، كما كان المتنبي يقول عن نفسه . ومثل هذه الحال التي لا يمكن أن يكون مثل هذا الشاعر الفرد مسؤولاً عنها كما أسلفنا، هي التي تدفع إلى وقوع المحذور . أعني تجاوز ردّ الفعل النقدي الموضوعي والمتوازن إلى محاولة الانتقام من الشاعر الفرد الذي كان سبباً في كل هذا الحيف الذي نزل بحق الشاعر الآخر الواقع، بهذه الكيفية أو تلك، في هذا الظل العالي، على نحو يصل بهذا الشاعر أحياناً إلى مستوى الإحساس بمشاعر صاحب العقدة الأوديبية الرامية إلى التخلص بصورة واعية أو غير واعية من الأب، بل قتله، كما يقترح يوسف زروقة في النص الذي سبقت الإشارة إليه . أو القيام بقراءة تشوّه قصيدته وتبرز ما فيها من نقاط ضعف، بل هي تتعدى أحياناً هذه القصيدة إلى صاحبها الذي لا بدّ أن يكون قد وقف في حياته مواقف فيها من الخلل ما يدعو إلى إسقاط شعره أو بعض شعره، أو إعادة النظر فيه وإسقاط هالة الإعجاب المحيطة به، في أقلّ تقدير . ولن يكون غريباً والحال هذه أن يتصدى الشاعر الآخر نفسه إلى عملية النقد ويتحول إلى ناقد بعد أن يرى عدم جدوى انتظار المدد من مثل هذا النقد المقوّم والمعدّل للميل يأتي من (النقاد الكبار) والنقد المحترف نفسه . والأمر لا يتصل بشعراء صغار أو متوسطي الحال فحسب، بل بشعراء آخرين أكثر قوة وقدرة على الإبداع، وامتلاك مشاريع شعرية حقيقية وجادة، كما أسلفنا . والشاعر سامي مهدي الذي كانت مقالته في موضوع محمود درويش في الدستور، من أكثر الإسهامات دقة وموضوعية ومهنية، لا يخرج عن هذا التوصيف . أعني هذا الوضع الذي يجد صاحبه الشاعر الجاد، نفسه مدفوعاً إلى رفع الحيف الذي سببه له ولجيله ذلك الشاعر الفرد ونقاده الكثيرون . ونحن نخص الشاعر سامي مهدي هنا بالذكر لأنه صاحب مشروع نقدي جاد، وليس فقط صاحب مشروع شعري جاد، أيضاً . وقد خاض سامي مهدي، في الواقع، كفاحاً بطولياً في محاولته رفع الحيف عن شعره وشعراء جيله، حتى إذا كان مثل هذا الهدف موارباً وغير معلن . وذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن دوافع هذا المشروع في مراحله الأولى، في أقل تقدير، ربما لم تكن بعيدة، في إطارها العام، عن أجواء العقدة الأوديبية، موضوع حديثنا في هذا المقال . أي الموضوع إياه الذي يجد فيه شاعر (تعبان على نفسه) مثل سامي مهدي، كما نقول في العراق، بعيداً عن الاهتمام النقدي الواسع بعد أن اختص بهذا النقد شعراء آخرون مثل السياب من العراقيين، وأدونيس من العرب، ورامبو من الفرنسيين . وهو ما أوقعه في تناقض جعل موقفه الأخير من الشاعر محمود درويش هنا مختلفاً بعض الاختلاف عن موقفه من الشاعر بدر شاكر السياب من ناحية، وموقفه من الشاعر علي أحمد سعيد أدونيس، من ناحية ثانية . والمهم أن الشاعر، مدفوعاً بنداء عميق لمخيلته الشعرية في بحثها الخفي عن الكمال، قد يلجأ، في علاقته بشعراء آخرين، إلى مواقف نقدية من هذا النوع، وقد لا تكون متوازنة وصائبة دائماً .