قيادي إصلاحي يترحم على "علي عبدالله صالح" ويذكر موقف بينه و عبدالمجيد الزنداني وقصة المزحة التي أضحكت الجميع    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    عاجل: الحوثيون يعلنون قصف سفينة نفط بريطانية في البحر الأحمر وإسقاط طائرة أمريكية    دوري ابطال افريقيا: الاهلي المصري يجدد الفوز على مازيمبي ويتاهل للنهائي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر    أجواء ما قبل اتفاق الرياض تخيم على علاقة الشرعية اليمنية بالانتقالي الجنوبي    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    رصاص المليشيا يغتال فرحة أسرة في إب    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل اختفى الجدل عن ساحتنا الثقافية؟
نشر في الجنوب ميديا يوم 29 - 10 - 2012

الجدل البنّاء دلالة صحة وعافية لأي ثقافة تسعى إلى التقدم والنهوض، مقولة تتأكد صحتها من خلال العودة إلى التاريخ حيث شهدت الثقافة العربية حالة شبيهة خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة، وتكررت الصورة خلال نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، في الحالتين ساعد الجدل على بناء رؤية محددة للثقافة: أصولها وتوجهاتها، إضافة إلى تقويم المنجز وتعديل المسار . الجدل إضافة وتراكم، زخم يغذي الثقافة بكل ما ينعشها، وذلك الجدل الذي خفتت حدته خلال العقود القليلة الماضية يكاد يختفي اليوم عن الساحة الثقافية العربية وهي الظاهرة التي حاولنا الاقتراب منها خلال التحقيق التالي .
يرى الكاتب والفنان المسرحي مرعي الحليان أن الجدل الثقافي قد اختفى من الساحة اليوم، ففي السابق كان هناك نقاش غذته ثقافة الجيل السابق الذي كان جيلاً قارئاً مطلعاً على الإشكاليات الكبرى ويمتلك رأياً، وقد أدى الجدل بين ممثلي مختلف التيارات في هذا الجيل إلى حوارات مستفيضة احتضنتها صفحات الجرائد والمجلات، وكان لها تأثير في الأجيال اللاحقة، ففي الشعر مثلاً كان هناك جدل شيق بين الاتجاه الكلاسيكي والحداثي استقطب أسماء وكتابات أنتجت ثقافة شعرية لا بأس بها، وكانت هناك أيضاً جلسات نقدية لنقاش الكتابات الجديدة، وفي مجال المسرح حدث حوار بين تيار يدعو إلى أن يراعي المسرح الجمهور، وينتج خطابه على مستوى هذا الجمهور، ويراعي ما يثيره، وبين تيار آخر يقول إن على المسرحي أن ينتج خطاباً مسرحياً جاداً لا يراعي إلا مقتضيات الفن والجمهور هو الذي ينبغي عليه أن يرتقي إلى مستوى ذلك الخطاب الجاد، وكان له أثر في الحراك المسرحي، ونجد الحال نفسه في التشكيل اليوم اختفى كل ذلك، وفي المسرح بالأخص أصبح الأمر مرتبطاً بالمهرجانات وحتى هذه يقل الحضور لها .
إن أسباب هذا التراجع تعود إلى عوامل عدة منها انشغال المثقفين الذين قادوا تلك الحركة بحياتهم الخاصة وانكفائهم على ذواتهم، في الوقت الذي لم تظهر الأجيال التالية استعداداً للقيام بالدور نفسه، كما أن الهجمة الشرسة لثقافة الاستهلاك جعلت العقول كسلى وغير مستعدة لبذل الجهد في سبيل إنتاج ثقافي عميق، وطبع الأجيال الجديدة بطابع السلبية، ومن جهة أخرى فالأمر أيضاً مرتبط بعدم امتلاك الهيئات الثقافية والمؤسسات الأهلية استراتيجيات لإقامة ذلك الحوار واستمراره، وهي معنية به بشكل كبير، معنية بأن تجمع مختلف ممثلي التيارات على منبر واحد وأن تقيم بينهم نقاشاً مثمراً، وبأن تقيم تواصلاً بين مختلف المجالات الثقافية، فيحاور المسرحي التشكيلي والروائي الشاعر، والعكس، فيتعرف كل منهم إلى المناطق المشتركة بينه وبين الآخر، وكيف يمكنه أن يستفيد منها في فنه، فهذا جزء من مهمة تلك المؤسسات، وهو الجزء الأهم لأنه هو الذي يحرك المشهد ويستدعي القراءة وينتج مختلف الآراء، النقاش هو الذي يربي الأجيال الحاضرة ويسهم في بناء رؤاها، وتكوينها لمواصلة الطريق .
لقد انتقل الجدل اليوم بشكل ما إلى صفحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي يمكن تسميتها "الخانة السرية"للحوار، لكن فاعلية هذا الجدل ستبقى محدودة لأنه يفتقر في أحيان كثيرة إلى العمق الثقافي، وأكثر أطرافه فاقدون للوعي اللازم بالموضوعات التي يطرحونها، كما أن محدودية وخصوصية المواقع التي ينشأ فيها هذا الجدل تفقده صبغة الجماهيرية أو العمومية اللازمة لكل حوار ثقافي .
أما الفنان التشكيلي علي العبدان فيرى أن الجدل الثقافي لم يختف من الساحة الإماراتية ما دام هناك مجتمع يحتوي أناساً يمتلكون وجهات نظر متعددة وينطلقون من خلفيات فكرية متنوعة، لكن ربما تكون وسائل هذا الجدل تغيرت من المنابر والوسائل التقليدية إلى وسائل حديثة، كمواقع التواصل الاجتماعي مثلا، فهذه تمتلئ بالنقاش المستمر، وكذلك فإن الكتب والدراسات التي ينشرها نقاد وباحثون متخصصون تحمل في طياتها أفكاراً عميقة، تارة بتعرضها لتجارب متعددة في أحد المجالات الثقافية والفنون المرتبطة بها، وتارة بنقاش الكاتب لاتجاه معين، وتقييمه بإيجابياته وسلبياته، قد فعلت هذا في كتابي "القرن العشرين"حول الفن المعاصر في الإمارات، وتعرضت لتجربة الفنان حسن شريف بالتحليل والتقييم، كما تعرضت منذ أيام في محاضرة عن "الصوت في الخليج"إلى بعض الإشكاليات في الصوت والموسيقا في الخيلج والإمارات، وانتقدت اقتصار العرب على "مقام الكرد"وحده، فهذا أيضاً من باب الجدل والحراك الثقافي المستمر .
ربما يكون الجدل على صفحات الجرائد والمجلات قد تراجع، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى سياسة المحرر الثقافي الذي يحظر هذا الموضوع وينشر ذلك، ولا يعود إلى واقع النقاش في المجتمع، ونحن لا نزال إلى اليوم نشهد هذا النقاش في منابر عدة ومثاله الأبرز في الأدب قصيدة النثر، فلا يزال يغذي المجالس وتطرح فيه مختلف الآراء، وربما يكون التراجع الملاحظ متعلقاً بتواضع ثقافة الأجيال الجديدة، فمن الملاحظ أن العقدين الأخيرين شهدا تراجعاً كبيراً في المحصول الثقافي بالنسبة للأجيال الجديدة، وانعكس ذلك على حركة التفاعل الثقافي، فأغلبهم يلج الميدان غير مزود بأدوات الحوار ولا الخلفية الضرورية لتكوين رأي مستقل، كما أن الجيل المخضرم الذي كان وراء الحراك الثقافي في الثمانينات، قد انسحبت أغلب شخصياته من الساحة ولم تعد تسهم في تفعيلها .
الشاعر إبراهيم الهاشمي يرفض تسمية ما كان من حراك ثقافي نشط قبل عقدين بالجدل والإشكال الثقافي، ويفضل تسميته بتواصل ثقافي، ويرى أن المستوى الثقافي ارتفع في الساحة الإماراتية، إلا أن الكاتب والشاعر والمفكر أصبح منهمكاً في الشغل اليومي، فهو في نهاية الأمر وفق الهاشمي موظف يبدأ عمله منذ الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساء، فلم يعد قادراً على متابعة مجريات المشهد الثقافي والتواصل معه .
ويرى أن الفعاليات الثقافية والأمسيات سابقاً كان عددها محدوداً وكان يمكن للمتتبع أن يتواجد فيها ويتتبعها، حيث كان الشاعر إذا نشر قصيدة جديدة، تنتشر في الوسط وتثير جدلاً ونقاشاً، اليوم الشعراء يصدرون دواوين ولا يتسنى للمتتبع قراءتها .
ويلفت إلى أنه اليوم ازدادت الفعاليات الثقافية والحراك بشكل كبير، وهو أمر إيجابي وفق رأيه، لكنه لا يشكل حالة تستمر .
من جانب آخر يشير إلى أن الساحة الثقافية سابقاً كانت تحترم الاختلاف وتتقبل الآخر رغم الصدام الحاد الذي كان يحدث .
يعتقد الشاعر أحمد المطروشي أن الساحة الثقافية في الإمارات تخلو بالفعل من حرارة الجدل الثقافي ذلك الذي كان سمة من سمات فترة ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهو لايزال يتذكر ذلك الانفعال الإيجابي الذي أحدثته قصيدة النثر في وجدان ومخيلة الشعراء الشباب آنذاك، ممن نشّطوا الساحة المحلية وخلخلوا ركود السائد على صعيد الذائقة التي كانت تنتصر للشعر القديم في شكله العمودي فقط، وإلى حد قليل لقصيدة التفعيلة، وهو يؤكد أن هذه الفترة من تاريخ الشعر الإماراتي كانت حيوية إلى الحد الذي جعلها أي قصيدة النثر من الممكنات التي لاردة عنها بعد أن تغلغلت في وجدان الشعراء الذين حرصوا على ممارستها والاستفادة من مخيلتها الشعرية التي أتت بالكثير مما هو جمالي وصادق وجريء وربما مناكف إلى الحد الذي فرض نفسه بقوة على الملتقيات والمؤتمرات والمشهد الشعري بوجه عام .
ويعلق أحمد المطروشي على انخفاض وتيرة الجدل الثقافي لأسباب تتعلق بشتات المثقفين، فالساحة الثقافية خلت من الحوارات الجادة، وهناك ما يشبه حالة الارتخاء الذي فرضته طبيعة المرحلة الراهنة التي عزلت المبدعين عن بعضهم البعض، فضلاً عن وصول فئة غير قليلة من كتاب القصيدة الشعرية في أشكالها التقليدية إلى قناعة برسوخ قصيدة النثر، ذلك لأنها تغلغلت في نسيج الحياة وازدادت أعداد من يتذوقونها أو يناصرونها فأصبح لها تيار كوني سواء في الشرق أو الغرب .
وفي هذا السياق فإن المطروشي يتوقع أن تعود للساحة الثقافية المحلية والعربية حرارة الجدل الثقافي، ذلك أن مفاجآت الثقافة في بعدها المعرفي والإنساني، يمكن أن تتيح للمثقفين اختبار حساسيات جديدة من القول السردي والشعري فيعود من جديد ألق تلك المرحلة الجميلة والمدهشة في تاريخ الشعر العربي .
ويعتقد المطروشي أن عودة إلى مثل تلك السجالات الإيجابية يجب أن تسهم المؤسسات والدوائر الثقافية والإعلامية في إثارتها من جديد، وذلك سيشكل من وجهة نظره قفزة نحو الحيوية الشعرية والإنسانية وانفلاتاً من جبرية الحياة التي تصيب المبدع بأنواع شتى من فقدان الإرادة والقدرة على التغيير والتجديد .
بدوره يرى الشاعر طلال سالم أن ثمة حالة من الركود الثقافي التي تعيشها معظم الأقطار العربية بدرجات متفاوتة، وما يحصل من وجهة نظره أن هناك أسباباً موضوعية لمثل هذا السكون الثقافي، ومنه ما يتعلق بالمثقف نفسه الذي يعيش حالة أنا وذاتية مفرطة في الحساسية وعدم الإتزان، هي بالضبط، الأنا التي لا تقبل الآخر، وقس على ذلك الأنا التي لا تقبل النقد، والشاعر الذي لا يلتمس وجهة نظر أخرى أو مختلفة والقاص أو الروائي الذي يعتقد أنه امتلك ناصية السرد، وكل من يعارضه أو يختلف معه، فهو بالضرورة يناصبه العداء، ومثل هذه الحالات من وجهة نظر سالم سببها انعدام وجود حالة نقدية حقيقية، متوازنة أو موضوعية أو شفافة، بل هناك نقد يضرب في ذات المبدع أو نقد يجامله، أو ينافقه ويروج بضاعته بمجانية مبتذلة وغير حقيقية .
مثل هذا الواقع الذي هو ليس نقدياً ولا موضوعياً، هو ما جعل عنصر المجاملة يسيطر على الساحة الثقافية، لقد خلق ذلك حالة من عدم التقبل لدى المبدعين في سوادهم الأعظم، وهو شيء لن يضيف للمبدع ولا للإبداع أية فائدة مرجوة .
ويحيل سالم على تلك "العراكات" إن جاز التعبير التي سجلتها الكثير من الصور الأدبية في أكثر من ملتقى ومؤتمر أدبي، في أكثر من قطر عربي، كان دافعه فكرة عدم التقبل ومثل هذه الأنا المضطربة التي لا تتسامح ولا تتواضع ولا تقبل فكرة الرأي المناقض أو المختلف .
ويعتقد سالم أنه إذا كانت الثقافة تسير على شاكلة هذه الطريقة التي تمت الإشارة إليها، فذلك يعني موت الجدل وبالتالي موت الإبداع .
ويضرب سالم مثلاً بالفن الموسيقي، الذي تنبني فيه نغمة الهارموني من خلاصة نغمتين متناقضتين، وربما يكون هذا مثالاً يمكن مقاربته بالثقافة التي تحتاج إلى تآلف مجموعة من الآراء والاختلافات التي تثري الجانب الثقافي، هي بالضبط تناظر حالة الجدل التي تفتقد لها الساحات الثقافية ذات النغمة الواحدة والصوت الواحد الذي لا يقبل القسمة سوى على نفسه فقط .
يرى الكاتب المسرحي أبو العلا السلاموني أن حالة الجدل الفكري والثقافي لم تنته، نظراً لأن مفهوم الثقافة الحقيقية يقوم على فكرة الجدل التي هي بالأساس دليل على التنوع الفكري والثقافي، ولكن هذا الجدل يكون قوياً أو ضعيفاً حسب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة به، وكذلك حالة المجتمع .
إن القضايا والمعارك الفكرية مستمرة باستمرار الفعل الثقافي، ففي فترة ازدهار الثقافة في حقبة الستينات من القرن الماضي في مصر على سبيل المثال، ظهرت معارك فكرية رفيعة أدت إلى ازدهار النوع الأدبي، مثل "معركة الفن للفن"والتي تبناها د . رشاد رشدي مقابل نظرية "الفن للمجتمع"والتي تبناها الناقد الراحل د . محمد مندور، وكان المجتمع وقتها يمر بحالة من الاستقرار النسبي، بعد ثورة يوليو ،1952 مما أعطى فرصة للجدل العقلي الحكيم، فلم يكن هناك جدل حاد، بل كان عبارة عن خلاف عقلاني يتسم بالتحضر، وقد جاءت هذه المعركة على سبيل المثال كنتيجة طبيعية لتحول المجتمع من البنية القديمة الطبقية التي كانت سائدة ما قبل الثورة إلى بنية مجتمع يدعو للاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وإلى حد ما يدعو إلى رأسمالية الدولة لا رأسمالية الأفراد، وقد بدأت المعركة بهدوء، لكنها أدت في النهاية إلى تغيير في الذهنية الثقافية السائدة وقتها، فوجدنا أن المسرح والأدب يتغيران، فمسرح الستينات تأثر بذلك فوجدناه يدعو ويناقش قضايا اجتماعية، كما يدعو لحرية الفكر، وهذا التوجه ظهر واضحاً في أعمال الكتاب المسرحيين، أمثال نعمان عاشور وميخائيل رومان ومحمود دياب وغيرهم، كذلك تجلى هذا التأثير في أعمال كثير من الروائيين، فنجيب محفوظ مثلاً كتب أعماله الواقعية في الرواية في هذه الفترة، وحتى أعماله في تيار ما وراء واقعية مثل "أولاد حارتنا«، حيث كان المجتمع ينهض ويتحول من مجتمع برجوازي إقطاعي إلى مجتمع يهدف لتحقيق وإرساء مبادئ الاشتراكية .
إن هذه المرحلة التي نتحدث عنها كان لها تمهيد في المرحلة السابقة لها، أي ما قبل ثورة يوليو ،1952 حيث كانت الليبرالية هي التيار الفكري السائد، فوجدنا في الثلاثينات والأربعينات معارك أدبية وفنية كثيرة منها ما قامت به بعض المدارس الأدبية، مثل جماعة "أبوللو"و"جماعة الديوان«، إضافة إلى معارك طه حسين والعقاد وسلامة موسى، وهذه المرحلة، على حد تعبير السلاموني كانت مرحلة استقرار فكري، أيضاً، رغم أنها كانت مرحلة الدفاع عن الوطن والمطالبة بتحريره من قبضة المحتل الإنجليزي .
نحن الآن في مرحلة تكاد نقول عنها إنها مرحلة تجريف فكري إلى جانب ما بها من تجريف اقتصادي وسياسي، وقد بدأت هذه المرحلة منذ أكثر من أربعين عاماً، وتحديداً مع سياسة الانفتاح التي انتهجها نظام الرئيس الراحل "أنور السادات«، والتي أدت إلى تدمير بنية المجتمع وأوجدت خللاً رهيباً في المنظومة الفكرية والثقافية، خاصة أن هذا الانفتاح أيده بزوغ التيارات المتطرفة، من خلال ظهور مجموعة من الجماعات الفاشية في توجهاتها حيث دعت إلى العنف، وبدأت تضرب الاتجاهات القومية والناصرية والفكر الاشتراكي، وللأسف دعمت الدولة هذا الاتجاه في البداية ورفعت شعار "العلم والإيمان«، وهي مقولة "حق يراد بها باطل"وقد بدأت هذه الجماعات تتغلغل في نسيج المجتمع، ما أدى إلى تراجع ثقافي .
حرية الاختلاف
ويتفق مع هذا الرأي الفنان التشكيلي عز الدين نجيب قائلاً: الحراك الثقافي، في الأساس، يقوم على تبادل المعرفة، وهذا التبادل لن يكون إلا من خلال الرأي والرأي الآخر، والذي يجمع بينهما حرية الاختلاف، وهذا هو جوهر الجدل .
ويضيف نجيب أن الجدل لن يتحقق إلا في ظل مجتمع يؤمن بالمعرفة وبفكرة التعدد التي هي جوهر الطبيعة الإنسانية، وهذا يتطلب فتح الأفق المعرفي، بشكل كبير، فعلى سبيل المثال عندما قامت ثورة 25 يناير كانت نسبة الأمية بين المصريين تصل إلى 40% وهي ما جعل الأمر ملتبساً، فهل قامت الثورة بغير وعي لدى الشعب؟ أم أن الشعور بالظلم وحده هو ما دفعه للاستجابة إلى وعي النخبة، حيث خرجت في صباح 25 يناير وكسرت جدار الخوف أمام الجماهير، أظن أنه لا يصح، بشكل مطلق، هذا أو ذاك، بل إن المؤكد أن هناك وعياً جديداً قد بدأ يشرق في أذهان الجماهير عبر السنوات الماضية، متسقاً مع ظاهرة تحرر الألسنة على القنوات الفضائية بشكل نسبي في السنوات الأخيرة، مما سمح لمختلف الفصائل السياسية برفع الأغطية عن أشكال الفساد وأسبابها، فعرفت الجماهير الكثير مما كان خافياً عليها، وهو ما ساعد على فتح الطريق أمامها للخروج إلى الشوارع والميادين، معلنة رفضها لما يفرض عليها من صنوف القهر والاستبداد والحرمان .
الثورة، إذاً، هي نتيجة لجدل سياسي وثقافي وفكري سبقها بسنوات شاركت فيه النخبة، وإن جاء بشكل تراكمي، فالثقافة بالتأكيد لا تتحقق في لحظة، بل تتحقق عبر سنوات من اكتساب الوعي والخبرة، هذا الوعي الذي امتلك قوة الجدل في السنوات الماضية، وجد محاربة وبضراوة وشراسة من قبل الأنظمة الاستبدادية، التي حاولت تهميش الدور المعرفي الذي تقوم به النخبة، ما أدى إلى الهوة التي نتحدث عنها بين المثقف والجمهور .
تشير الناقدة، د . أماني فؤاد، إلى أن مناخ التحرر يتيح لعملية النقد والجدل الازدهار مما يرسخ لرؤى جديدة يطرحها المبدع والمفكر والناقد، وحينها يكون من شأن النقد في المجال الأدبي والثقافي أن يهز كيان أي سلطة، سواء كانت سلطة النص أو سلطة الإبداع، أو سلطة الدور الذي عهد إليه طويلاً بإعادة إنتاج النص بالاقتصار على التفسير .
وتضيف أنه إذا كان الدين والفن صنوان للضمير والخيال، وإذا كانت الفلسفة صنوا للعقل ونشاطه الإداري الواعي الباحث دوماً عن المعنى المعقول للوجود الإنساني، وذلك في مواجهة ضغوط العلم التجريبي ونماذجه التطبيقية الصارمة، فإن النقد الجدلي هو القناة الحية النابضة التي تصل بين الأنساق المعرفية والإبداع، لأن نهضة الإبداع متعلقة بفكرة الجدل، ولولا اختلاف المدارس الأدبية، على سبيل المثال، في بدايات القرن العشرين وأثنائه ما وجدنا تطوراً في الشكل الإبداعي، فمدرسة الديوان التي اختلفت مع أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، أنتجت رؤية شعرية مغايرة، وكذلك مدرسة الشعر الحر التي تأسست في مصر على يد صلاح عبد الصبور وحجازي، اللذين اختلفا مع العقاد حين كان مشرفاً على لجنة الشعر في وزارة الثقافة، فأحال قصائدهما إلى لجنة النثر، لولا هذا الجدل، ما وجدنا هذه المدرسة تقوم بدور رائد في تغيير الذائقة الشعرية في مصر والعالم العربي .
كذلك ما قامت به جماعة "شعر"على يد أنسي الحاج وأدونيس ومحمد الماغوط والتي أسست لقصيدة النثر العربية .
كل هذه المعارك اعتمدت على قيمة ثقافية أساسية، هي "احترام الجدل"واتساع منطق الاختلاف .
تفاعل وتواصل
الدكتور عبد السلام ولد حرمة يقول "إن مسرب الأفكار الطبيعي ومدار تفاعل مختلف التشكلات الذهنية قائم في المقام الأول على البرهنة والاستدلال وغريزة الدفاع الفطري لدى كل امرئ عما حباه الله به من فهم وقدرة استيعاب ونظرة إلى الكون والحياة، وهي أمور تحتم مجتمعة أن يكون منطق الجدل والخلاف بين أهل العلم والأدب والفن هو أساس تطوير وإغناء معارفهم .
وقد دخل الجدل على نحو جامح إلى الحياة الأدبية العربية في وقت مبكر في بداية العصر الأموي مع شعر النقائض الذي كان له الفضل الكبير في ثراء اللغة العربية إبداعاً ونقداً لما أمدتها به من ثروة قاموسية كبيرة ومنهج في النحت والاشتقاق وإحياء الألفاظ سداً لحاجة المناقضة والملاحاة عند أولئك الفحول الذين مهدوا فنياً لما وصل إليه العقل العربي في بداية العصر العباسي الذي مكن دخوله من اعتبار الجدل والخلاف وتاريخهما هما أصل التفاعل والتواصل بين الأديان والمعتقدات والمذاهب الأدبية والفنية، سواء بين الملل والنحل المختلفة، أو داخل الملة الواحدة .
وتمدنا المصادر التاريخية بالعدد الهائل الذي يفوق الحسبان من الرسائل وكتب المناظرة التي ألفت أو ترجمت إلى العربية خلال فترة حركة الترجمة والتدوين في هذا العصر التي تعتبر هي فترة ازدهار الثقافة العربية الإسلامية بعد أن اتضح في فترة وجيزة من بدايتها أن المتكلمين العرب قد أتقنوا فن الحجاج واستوعبوا من خلاله نواميس المعرفة الكلية، ولم يلبث الفقهاء أن انضموا إليهم بعد أن اتضح للجميع أن النقاش تم له نهائياً أن يكون المران الذي يعول عليه في البحوث الفقهية وأساليبها .
وتؤكد الروايات التاريخية أنه لما أنشأ الفقهاء المدارس الأولى في القرن الرابع الهجري كانت أولى المهام الموكلة إليها هي تدريس الجدل المنطقي والفقه . ولا أدل على رسوخ عقيدة الجدل لدى الفقهاء من استمرارها لدى الأجيال اللاحقة من العلماء والمتكلمين إلى درجة أصبح أسلوب الجدال الحاد أحياناً مغتفراً، كما عبر عن ذلك أحد فقهاء المحظرة الشنقيطية في القرن الثالث عشر الهجري حرمة ولد عبد الجليل حين أنهى مناظرة فقهية طويلة مع مجموعة من العلماء يتصدرهم العالم محنض باب، بقوله:
ما في الجدال من التكذيب مغتفر
ركن المودة منا لا يزعزعه
شأن المجادل تأنيب وتكذيب
عواصف القول تكذيب وتأنيب
من المؤكد أن النزاهة الفكرية وتطور المعارف البشرية تقتضي هذا اللون الذي اختفى أو كاد من حياتنا الأدبية والفكرية واقتصر على مناكفات سياسية ذرائعية تنحو الكسب اليومي للحواريين والأتباع بعيداً عن التأمل العقلي وصياغة الفكر الإبداعي الذي يخلو من التعصب المذهبي كما وضحه الفيلسوف الألماني هيغل: من أن الجدل ليس صفة عارضة للتفكير ولا خاصية أو نشاط ذاتي له يمكن أن ينطبق على الموضوع من الخارج، بل له طابع موضوعي عام، فالمنهج لا ينفصل عن موضوعه، إنه المضمون وما يكمن في هذا المضمون من تناقض هو الذي يحركه، يجعل منه مبدأ عاماً يدرس الأشياء في طبيعة وجودها ذاته وفي حركتها . وهذا هو الجدل الذي نبحث عنه اليوم في الكتاب وصفحات الجرائد فلا نجده .
الكاتب والباحث محمد ولد أحظانا، يرى أن الجدل اختفى من الساحة الثقافية في هذه الفترة، على الأقل الجدل المفيد الذي يسخر له أساطين الثقافة والمعرفة جهدهم لاستجلاء الأصلح، واستنفار العقل المعرفي من أجل الرقي بالأفكار .
ويضيف "إذا أذنتم لي سأتساءل أنا أيضاً: هل غابت الساحة الثقافية نفسها؟ هل غاب الاهتمام أم غيبت الساحة نفسها؟ المهم أن السؤال يحيل على أزمة اهتمام فقد كانوا قديماً يتحدثون عن "الصرفة"في علم الكلام كسبب من أسباب انصراف قريش أو العرب عن محاكاة القرآن، خاصة إبراهيم ابن سيار النظام المعتزلي، فهل يمكننا أن نتحدث عن صرفة حالية عن الثقافة؟ إن الشواغل السياسية والاجتماعية والتجاذبات استحوذت على اهتمام الساحة العربية بحيث صرفتها عن الاهتمام بالثقافة، وبالتالي فإن كل متعلقات الثقافة من جدل وغيره، قد اختفت ولكن إلى متى؟ هذا أمر يتعلق باهتمام النخبة نفسها واهتمام الجمهور أيضاً .
المثقف العربي يكتب الآن عن السياسة والجمهور يتحدث في السياسة والأنظار مشدودة إلى الصورة، وبالتالي فإن حاسة السمع والبصر مشغولتان الآن ومشدودتان إلى الحدث السياسي والاجتماعي .
ويعتبر ولد أحظانا أن لهذا مضاعفات خطيرة على الجميع لأن الثقافة وما يصاحبها من وعي وتخطيط وعقل مغيبة الآن والانفعال بالحدث هو سيد الموقف وصارف للانتباه عن كل ما عداه . وبالتالي فإن الجدل الثقافي مستبعد الآن ومعلق حتى إشعار جديد .
أنبه هنا إلى أن الثقافة العربية لم تزدهر إلا في ظل الجدل، بداية من الجدل الشعري، والفقهي (المدارس الفقهية)، إلى عصر النهضة، حيث أسست المدارس الفكرية والشعرية معركة الشعر الحر والعمودي، الأصالة والمعاصرة، الحداثة، وفي تلك الحقبة كنا نعرف سيادة الروح الجمعية لدى المثقفين، الذين شكلوا جماعات ونواد وصالونات ومقاه، كان لها أثرها العميق في ما عرفته الساحة العربية من نهضة ثقافية وفكرية، وأدبية وفنية، أما الآن فقد سيطرت على المثقفين الروح الفردية، وهذا ما جعل الجدل يختفي، لأن الفرد يريد أن يحل محل تلك المؤسسات، المدارس، التي تنشأ حول فكرة أو مبدع معين، لتتحول إلى مدرسة ثقافية أو أدبية، وكان ذلك للأسف سبب انتقالنا من ثقافة الترجمة إلى ثقافة "الدبلجة«، وبالتالي لم تظهر المدارس عندنا كأصالتها التي ظهرت بها في الغرب، وظهرت بها عندنا في مستهل عصر النهضة وروادها .
ومما يثير الفزع أنك اليوم لا تشهد خصومات ثقافية نافعة، ومفيدة، للمثقفين والجمهور، لا يعني هذا أنني أشكك في وجود مثقفين كبار ومبدعين حقيقيين لا يقلون شأناً عن غيرهم، لكن هؤلاء المثقفين طمرتهم اللامدرسة، ومن هنا غاب الجدل .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.