لم تكن اليمن بشطريها تعرف معنى للجرعات رغم إمكاناتها ومواردها المحدودة في حكوماتها الفتية مطلع الستينات، وقتها كانت اليمن تستورد المشتقات النفطية من دول الجوار ويباع بالسعر الزهيد لعدم الإقبال على هذه المادة الحيوية بحكم إمكانات الناس البسيطة. وبعد إعلان الوحدة المجيدة لعام 1990م وما تلاها من أحداث متسارعة، وعودة أكثر من مليون مغترب من دول الجوار إثر أزمة الخليج المعروفة وانحسار 80% من تحويلات المغتربين من العملة الصعبة بعد أن عاد الأغلبية إلى أرض الوطن، وتزامن ذلك مع التوسع العمراني والنمو السكاني المتسارع وتوقيف المعونات والمساعدات عن اليمن في ظرف كانت المنطقة تعيش فيه حرباً ضروساً ممثلة بعاصفة الصحراء، التي عصفت بالأوضاع الاقتصادية في اليمن، وأمام هذه العوامل كانت اليمن مضطرة إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي ونادي باريس للاقتراض والنهوض بأوضاع البلاد الاقتصادية، حتى تتمكن الحكومة من الإيفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها. وشيء طبيعي أن تكون هناك شروط للصندوق تلزم الدولة بتنفيذها حتى يلتزم الصندوق بتقديم القروض الميسرة والبيضاء لليمن، والمطلوب تسديدها على المدى البعيد والقريب، ومن ضمن هذه الشروط إصلاح المؤسسات الاقتصادية والخدمية والإنتاجية، حيث يشترط صندوق النقد الدولي أن تتخلص هذه المؤسسات من العمالة التي تشكل بطالة مقنعة، وأن يتم تفعيل قانون التقاعد على الواقع وألاَّ تكون هذه المؤسسات متضخمة تصرف عليها الدولة من المال العام دون تقديم أي مردود للخزانة العامة، وشروطاً أخرى للتقشف وأهمها: أن ترفع الدولة يدها عن دعم المشتقات النفطية حتى لا يستفيد من الدعم سماسرة وشركات وفرق تهريب المشتقات النفطية والمضاربة بها في بورصات على الهواء، في سواحل أفريقيا ودول أخرى بدعم من الدولة عن طريق الخطأ وهذه نقطة مهمة، وكانت اليمن قد شهدت تطبيق أول جرعة في عام 1995م بعد أن شارف اقتصاد البلاد على الانهيار، وكانت آخر جرعة في رفع تسعيرة المشتقات النفطية والوقود في عام 2005م قوبلت بمقاومة ورفض من المواطنين، رافقها رفع رواتب الموظفين والمستفيدين من إعانة الضمان الاجتماعي إلى 100% ووضع سقف أدنى راتب يتلقاه الموظف أو المتقاعد أو المتعاقد وهو 20.000 ريال، مطلع هذا العام يبدو ان الحكومة تواجه ضغوطاً من المانحين، والذين يشترطون وفقاً لمؤتمر لندن الذي انعقد بشأن اليمن في 27 يناير 2010م أن تقوم الحكومة بإصلاحات اقتصادية وإدارية وسياسية حقيقية، ومن ضمن الإصلاحات رفع يدها عن دعم المشتقات النفطية، وقد لوحظ ان الحكومة ممثلة بوزارة النفط أصدرت وعلى استحياء يوم 31 يناير تعميماً يلزم شركات النفط بإضافة خمسة ريالات في قيمة كل لتر بنزين وأربعة ريالات في قيمة كل لتر ديزل، ويبدو أن هذه الجرعة على أقساط وتمهيداً لجرعة كبيرة قادمة إن نفذت ستقصم ظهر المواطن وستكون لها انعكاسات خطيرة، وحتى لا يحدث المحذور وقبل أن يقع الفأس في الرأس مطلوب من الحكومة ان تعمل وفق برنامج اقتصادي مدروس، يهدف إلى الإصلاح الحقيقي وألاَّ يقتصر الإصلاح على زياد تعرفة الوقود الحالية، لأن الظروف تغيرت ولم يكن الحال كما هو عليه في عام 1995م حتى 2005م، وعلى الحكومة أن تبدأ بتقليص النفقات بما فيها ميزانية شؤون القبائل التي تقدر بمليارات، وكذا تقليص الهبات والعطايا وبدل السفر للطواقم غير الفاعلة في الوزارات أو في الحكومة، وأيضاً تقليص الصرف بالعملة الصعبة على سفارات وقنصليات في دول ومدن بعيدة، يكفي أن يمثل الجمهورية اليمنية فيها سفير غير مقيم، كما يجب على الحكومة أن تقلص الرواتب الكبيرة التي تقدر بالملايين لأعيان وشخصيات ووجاهات هي أصلا ليست بحاجتها، وأن تقدم وزارة المالية على خطوة شجاعة وذلك بتحرير جمع الضرائب وتحديداً ضريبة القات من المقاولين.. ووفقا لمعلومات مؤكدة ودراسات اقتصادية فإنه لا يذهب إلى خزينة الدولة من ضرائب القات إلا النزر اليسير والمليارات للحيتان. أيضاً يجب على الحكومة تفعيل دور لجنة المناقصات.. وذات مرة قرأت في صحيفة "22 مايو" ضراً حول تشييد أربعة حمامات في شاطئ جولدمور السياحي بعدن بكلفة 65 مليون ريال أي ما يعادل ربع مليون دولار بتمويل من صندوق النظافة وتحسين مدينة عدن، وهو رقم مبالغ فيه، وقرأت خبراً آخر عن افتتاح 5 فصول وملحقاتها في إحدى مديريات أمانة العاصمة ب 25 مليون ريال.. هذه أمثلة قس عليها مئات الحالات المشابهة وأرقام مالية مخيفة وجودة أقل وإصلاحات أخرى الحكومة هي أدرى بها. على حكومة مجور أن تشرع في تنفيذها تزامناً مع رواتب القوات المسلحة والأمن وقطاعات العمال والموظفين للحد من ظاهرة الرشوة وتطبيق قانون من أين لك هذا يا هذا؟!!.. وأن تقوم بتهيئة الشارع لجرعة قادمة، وتتخلص من عقدة تنفيذ الجريمة أولاً وبعد مظاهرات واعتصامات واعتقالات، تقوم برفع الرواتب حيث وأن الأسلوب كان سائداً في دول عربية قامت بإصلاحات مقلوبة أثناء الحرب الباردة والفرق والظرف الذي نعيشه يفوق كثيراً.