"أوتيت من كل شيء".. هكذا صور القرآن الكريم بلقيس ملكة سبأ، وهل أبلغ وأعظم من ذلك وصفاً تظفر به امرأة عبر التاريخ؟!! بعد ثلاثة آلاف سنة من رحيلها، يبقى هذا الوصف تاجها الحقيقي الخالد، أثمن من كنوز مملكتها، وأعظم من سلطانها وعرشها الشهير، وبه خُلدت بعد ان زالت مملكة سبأ وتتالت فوق أنقاضها الممالك والدول. ملكت بلقيس سبأ بعد أبيها الهدهاد، الذي جمع وجوه مملكته حين حضرته الوفاة ليسلمها الحكم قائلاً: "إني رأيت الرجال، وعجمت أهل الفضل وسيرتهم، وشهدتُ من أدركت من ملوكها، فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس رأياً وعلماً وحلماً". والحادثة الأشهر في حياة تلك الملكة اليمنية التي تجاوزت مسرح أحداثها، وتناقلتها الشعوب بروايات متباينة، واستلهمتها روائع ابداعات الفنانين الأوربيين في عصر النهضة مثل رافائيل ورويموندي وجبرتي، هي حكاية زيارتها سليمان بن داود. وقد شهد لها القرآن الكريم أنها كانت من أوائل دعاة الديمقراطية وحكم الشورى في التاريخ، حينما أورد أنها استشارت قومها في الرد على الهدهد الذي يقال إنه جاءها بدعوة سليمان قائلة: "يا أيها الملأ، افتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون". أم وقد أفتوها بالقبول، فيروى أنها دخلت بيت المقدس بجمال تحمل اللبان والطيوب والذهب والأحجار الكريمة، فأحسن سليمان وفادتها، وفي الرواية: "وبهرها بحكمته وقوته وعجائب ما تصنع الجن له"، وقيل انه تزوجها وولدت منه ولداً اسمه (رحبعم)، وقيل انه زوجها ذا بتع من همدان وردّهما إلى اليمن، حيث بنيت لها ثلاثة قصور مذهلة: غمدان وسلحين وبينون، في منطقة مأرب التي شهدت تألق حضارة سبأ العظيمة. حكمت بلقيس دولة قوية، بنت السدود وزرعت الأرض، وفتحت آفاق المعرفة في مختلف العلوم والفنون والآداب، حتى شبهها القرآن الكريم بالجنة "لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال"، ويعدد الهمداني في "الاكليل" أنواع المزروعات الكثيرة التي كانت موجودة في اليمن حينها ومنها عشرون نوعاً من العنب، مركزاً على عبقرية اليمنيين في إنشاء السدود والصهاريج والخزانات، خاصة سد مأرب الشهير، الثورة الهندسية في تفكير الانسان في الألف الأول قبل الميلاد. أنصف اليمن، موئل الحضارات، المرأة حينما خلد تاريخه بعض النساء العظيمات ملكات، كبلقيس وأروى. وأروى – بالمناسبة- كانت زوجة الملك المكرم الصليحي، الذي أعاد توحيد اليمن، وأقره الخليفة الفاطمي المستنصر بالله على الملك، وبعد تدهور علاقته بمركز الدعوة في مصر واصابته بالفالج، اعتزل الحكم لصالح زوجته سيدة بن أحمد (أروى) التي اتخذت من ذي جبلة عاصمة لمملكتها. وليتذكر دائما بعض الرجال ممن لا يقرون لزوجاتهم حتى بحق التفكير وإبداء الرأي، أنه – قبل ألف عام- وحينما لم يكن العالم الغربي مضاءً بأنوار العلم وبهاء المعرفة، ولم يكن الانسان قد غزا بعقله وتطوره الفضاء بعد، أدرك الملك الصليحي والذي لم يدرس في جامعات أوربا وأمريكا، ان الذكاء ورجاحة العقل والقدرة على تسلم المسؤولية وحكمة القرار، كلها ليست خواصاً ذكورية حصراً، وكم نترحم اليوم على روح ذلك الرجل الواعي حين نسمع بعض أبناء جنسه يتشدقون بمقولتهم السخيفة عن النساء "الرؤوس الجميلة.. دوماً فارغة". المهم ان جدتنا أروى أصرت على حقها بالملك بعد وفاة زوجها وابنها، ودخلت في سبيل ذلك بصراع مع سبأ بن احمد مظفر الصليحي ابن عم زوجها، فتدخل الخليفة الفاطمي المستنصر في مصر وكتب إلى سيدة يقول: "قد زوجتك بأمير الأمراء سبأ على مائة ألف دينار" وأنهى الخلاف بتزويجهما زواجاً ظل صورياً، واضطر سبأ بعده ان يتعاون معها، وقامت الملكة الحكيمة لنصف قرن (وهي أطول فترة حكمها ملك صليحي) بما شُهد لها من البأس والذكاء والحضور القوي بتدبير شؤون حكم بلادها في السلم والحرب. السيرة المشرقة لملكات كبلقيس وأروى وزنوبيا ونفرتيتي وكليوباترا وشجرالدر وغيرهن تحرض في السؤال: إذا كنا نحن نساء اليوم – وضمن تسهيلات العلم وكماليات تكنولوجيا القرن العشرين- مرهقات بطموحات شخصية بسيطة، نعاني صعوبة التوفيق بين مسؤوليات أعمالنا وبين واجبات عائلية لا تنتهي، وأين هي من أعباء الحكم وجحيم الصراعات السياسية ودسائس ومؤامرات القصور، وثقل هموم إدارة البلاد والعباد التي كانت خبز تلك الملكات اليومي، فمتى كن "جلالتهن" يجدن الوقت ليستمتعن بممارسة دورهن الطبيعي ونعمة انسانيتهن في ملاذ العائلة وواحة الأصدقاء ودفء التفاصيل الحميمة؟!.. وهل كانت لهن أبداً حياة خاصة؟!. أجل كن عظيمات وجبارات وخلدهن التاريخ بعد مماتهن.. ولكن في حياتهن هل كن حقاً سعيدات؟!. اليوم في سائر بلدان العالم تتبوأ المرأة مختلف مواقع المسؤولية والقرار وأعلاها، رئيسة ورئيسة وزراء ووزيرة وسفيرة ومديرة وعالمة ورائدة فضاء وقائدة طائرة بل وسائقة حافلة أيضاً.. لم يبق أي منصب عصياً عليها. أمر مفرح وانجاز تطلب جهوداً وتضحيات أجيال من النساء الواعيات نصفق له مشجعين؟.. طبعاً لكن بشرط ألا تسمح وهي الكائن الرقيق الذي استلهمته الطبيعة من روحها وأبدعته على شاكلة عطائها المتدفق لأية مملكة أو مسؤولية ان تحرمها العرش الذي لا يضاهيه عرش آخر.. أنوثتها.. جنتها الأرضية.. () حرم الرئيس الأسبق: علي ناصر محمد..