الانحرافات السلوكية الوافدة من زمن العولمة أخذت تغزو المجتمع اليمني تحت مبرر تحقيق المنفعة الخاصة، وهي الوحيدة التي أخذناها من هذا النظام وبطريقة ميكافيللية "الغاية تبرر الوسيلة" حتى ولو كان تنفيذ الوسيلة بطريقة منحرفة، ومبنياً على تقويض قيمنا الدينية والاخلاقية. فالغرب بعولمتهم تجمعوا من عدة ثقافات ونحن العرب تفرقنا إلى عدة دويلات.. وهم تمدنوا وتحضروا وساد حياتهم النظام والقانون ونحن "تقبيلنا" وعدنا إلى زمن الجاهلية، تحكمنا الأعراف القبلية.. هم شكلوا اقتصاداً واحداً تحكمه مؤسسات مالية، ونحن شكلنا اقتصاداً فردياً وقبليا لا يصب في تاريخنا القومي.. هم خدموا المستهلك بصناعاتهم ذات المعايير والجودة، ونحن غشينا المستهلك بصناعات مقلدة ومغشوشة لا تحمل مواصفات ولا جودة، استنزفت دخل المستهلك ولم تسد حاجته.. ومن يشاهد ويقيم اسواقنا اليوم يجدها غارقة بسلع غير معمرة، يتم استيرادها وتصنيعها بحسب الطلب وبحسب القدرة الشرائية للمستهلك، حتى ان الغش اصبح اليوم ثقافة تسود المجتمع.. فمن الغش التجاري المستفحل إلى الغش التعليمي في صروحنا العلمية والثانوية إلى الصروح الاكاديمية لخلق جيل جاهل، يعول عليه قيادة وخدمة البلاد مستقبلا. فالغش التعليمي والعلمي يخلق جيلاً اجتماعياً مشوشاً في أخلاقه ومبادئه، ولديه انفصام بوطنيته، وتكون حياته الاجتماعية والرسمية كلها غش في غش لأن الدور التربوي هنا مفقود، بدءاً من الأسرة وحتى المدرسة وعندما يفقد الجانب التربوي يفقد الجانب التعليمي هو الآخر، فلم تعد هناك قدوة حسنة أمام الطالب في الأسرة والمجتمع المحيط به وكذا المدرسة، فالكل يشرع لعملية الغش وباستمراء حتى ان الطالب ينمو خلال مراحله العمرية متسلحا بهذا السلوك المنحرف، ولا يثابر في تحصيله العلمي خلال مراحل الدراسة، ويتخرج منها وهو معاق علمياً وتعليمياً رغم أنه يحمل مؤهلات وشهادات دراسية ويكون متهافتاً مع المتهافتين على تبوء مناصب عليا، فإذا وصل إليها يكتشف حينها انه يقود البلد من موقعه إلى الهاوية، فقد كان نجاحه على حساب الآخرين المثابرين الذين سهروا الليالي في تحصيلهم العلمي على أمل الوصول والتمكن من تحديث البلاد بطريقة علمية وادارية حديثة، ولكن الحسرة أنهم وجدوا انفسهم في مؤخرة الركب ولم يستطيعوا ان ينافسوا الجهل الذي أخذ يكبر ويصعد والقائم على الغش والمحسوبية سواء في المدرسة أو الوظيفة وهذا ما هو سائد اليوم. ان الجهل والأمية هما اللذان يحكمان في مؤسساتنا الادارية المدعومة بقوة نافذة ما أدى إلى فساد مالي وإداري وخيم.. ان الغش والفساد كانا ولا يزالان مرضاً سرطانياً يستحكم على مفاصل الدولة ويعطل وظائفها، لأن كل مغشوش فاسد وكل ما كان قائماً على الغش فهو باطل حتى الزواج. إذن ومن هذا المنطلق فإن اصلاح الوضع قائم على اصلاح التعليم، الذي هو أساس نهضة كل أمة فمدخلات ومخرجات التعليم هي أساس وحضارة الشعوب.. والعملية التعليمية عندما تمر بمرحلة خطيرة وتلفظ أنفاسها الأخيرة، لا بد أن يعي القائمون عليها الخطر المحدق بالبلاد وبجيلها الذي ارتهن في احضان الجهل، وهو يحمل مؤهلات كرتونية لعقول كرتونية فارغة لا تجيد أبجديات التعامل مع الحياة. إن العملية التعليمية تواجه ضربات بمعاول الجهل المتعمد والذي ظهر جليا من خلال ظاهرة الغش المستفحل منذ اعوام، ولم يتم الحد من هذه الظاهرة وتجريمها.. فمن كان يتوقع ان تعز مدينة الثقافة والعلم والأمن والاستقرار والتحضر تسجل اليوم الرقم القياسي في المخالفات الامتحانية لهذا العام، ومن يصدق أيضا ان تعز سجلت الرقم القياسي في مستوى معدلات الجريمة لعام 2009م، وهذا إن دل على شيء فانما يدل على ان هناك أيادي خفية تريد الاساءة لهذه المحافظة من خلال الثقافة الوافدة عليها، ومن يصدق ان مشائخها وسلطتها المحلية يقتحمون المراكز الامتحانية بمليشياتهم المسلحة ليثبتوا لرعيتهم انهم قادرون على تجاوز الخطوط الحمراء، وهو نوع من استعراض العضلات لمشائخ لا يحترمون العملية التعليمة، لأن معظمهم أميون تم تفريخهم ب250 توقيعا وبطاقة من مكتب شؤون القبائل. إذاً فلا بد من وقفة جادة ومسؤولة بوضع استراتيجية تعليمية وبوضع ضوابط للتعليم الحكومي والأهلي بمختلف المستويات مع الاهتمام بدور المعلم ومستوى معيشته.. إن العالم اليوم تغيرت سياسته في التعليم إلى الأحسن ونحن إلى الأسوأ.. هم غيروا الطالب من متلقٍ إلى كادر ونحن غيرنا الطالب من متلقٍ إلى محارب.. هم تسلحوا بالعلم وتحضروا بالمدنية ونحن تسلحنا بالبندقية وتمنطقنا بالقبيلة.. لقد فقد كل شيء هيبته حتى المدرس هو الآخر فقد احترامه وهيبته، كان المعلم في الماضي إذا سلك طريقا سلك الطالب طريقا آخر، أما اليوم فالمدرس هو من يخاف من الطالب فلم يكد المعلم أن يكون رسولاً بل إما مضروبا أو مقتولا، والسبب ان المعلم هو من فقد احترامه أمام الطالب كونه طوال العام يستجدي المال منه إضافة إلى امتهانة أعمال خارج المدرسة، حيث يعمل في الصباح مدرساً وفي المساء مليساً ومنهم من يعمل في الصباح معلماً وفي المساء مقوتاً، ومنهم من يقود في الصباح اجيالا وفي المساء دراجة نارية. تخيل معي أخي القارئ ما هي الثقافة التي يكتسبها المدرس من عالم سائقي الدراجات النارية، والتي يتعامل بأخلاقياتها في طابور الصباح وفي الفصول الدراسية؟!! فكيف تكون مخرجات هذه المدارس من سائقي الدراجات النارية؟!!. لا بد من دراسة العوامل التي أدت إلى انتكاس التعليم في اليمن وتشخيص مكامن الخلل من كافة الجوانب ومعالجتها لايجاد مستوى تعليمي خالٍ من كافة الاختلالات والانحرافات السلوكية. إن الطالب اليوم وهو يدخل المركز الامتحاني بعد غياب متواصل طوال العام عن المدرسة يختم العام الدراسي بممارسة كافة طرق الغش في قاعات الامتحان وتحت تهديد السلاح لمن يقف في وجهه، فمن خلال مظهره نجده مفخخا ببراشم الغش. ورغم ان هذه الظاهرة قد اخذت بالانتشار منذ سنوات لكن للاسف لم تعالج وانما تحولت إلى ظاهرة منظمة وبأكثر بجاحة، حتى انهم استخدموا كل الوسائل وآخرها مكبرات الصوت في ايصال الغش إلى كل طالب.. وبهذه الطريقة المشينة ما هو ذنب الطالب المجتهد طوال العام، عندما يتساوى مع الطالب المهمل الذي يحصل في الأخير على أعلى معدل ويدخل أعلى وأغلى الجامعات الغربية، بينما الطالب المجتهد لا يحق له حتى التفكير والطموح للوصول إلى مستقبل علمي يحقق له طموحه أمام أبناء النخبة الفاسدة، التي وصلت إلى أعلى هرم في القيادة بطرق التدليس والغش، ومثله ابنه الذي هو الآخر يريد أن يصل بالطريقة التي وصل بها أبوه.. وقد قالوا: "ومن يشابه أبه فما ظلم" لكن نحن نقول ظلم وأفسد نفسه وغيره وأفسد حتى الأجيال من حوله.