عليهم أن يفيقوا من سباتهم ويتيقنوا ويدركوا بأن هذه البلاد وهذه الأمة التي يعدونها لقمة سائغة لم ولن تتاح لهم فرصة حكمها أو تسيدها مهما كانت الظروف أو المتغيرات، وحتى لو أشرقت شمسهم المزعومة من المغيب، وأنهم سيظلون دائماً وأبداً أولئك المغفلون المذمومون وإلى يوم يبعثون. منذ الأيام الأولى للثورة وفي وقت كان الشباب المنتفضون في ساحة التغيير بصنعاء لا يزالون يعدون بالعشرات، لاحظنا بعضاً من ممارسات السيطرة والاستحواذ وإقصاء الآخر من قبل بعض العناصر الحزبية المنتمية إلى ما يسمى ب"اللقاء المشترك"، إلا أننا عمدنا حينها على تجاهلها والتغاضي عنها وفي كثير من الأحيان.. كنا نكذب أنفسنا معتبرين ما نلاحظه شيئاً من التهيؤات، لا لشيء إنما إيمان منا بأن ليس من مصلحة تلك الأحزاب السيطرة على الساحات وإقصاء الآخرين منها، في وقت هي بحاجة ماسة لكل فرد صغيراً كان أو كبيراً رجلاً أو إمرأة، يسندها ويعلن انضمامه إلى صفوف الثوار. مرت الأيام وبدأ زخم الثورة يرتفع ودائرتها تتسع ومعها توالت على مسامعنا شكاوى الشباب والثوار من القمع والتعسف وتسويق الاتهامات بالتخوين والدسيسة والانتماء إلى جهازي الأمن القومي والسياسي، وما فتئنا نتداول ونناقش تلك الشكاوى حتى سمعنا صرخات المعتدى عليهم بالضرب جسديا، لنكتشف بعدها أن تلك العناصر "المؤدلجة" نصبت نفسها وصية على الثورة والساحات وولية على الثوار, وأن الأمر كله من أوله إلى آخره أصبح بيدها فهي التي تطعم الناس، وهي التي تسقيهم، وهي من تحدد ما إذا كان (س) من الشباب المحتجين ثائراً حقيقياً أم عميلاً، و(ص) محتجاً جاداً أم متآمراً وخائناً. ورغم نصائحنا المتواصلة للكثير من تلك العناصر "المسيسة" بعدم جدوى تلك الممارسات البعيدة كل البعد عن العمل الثوري إلا أنها لم تعرنا أي اهتمام, ولم نجد أمامنا من سبيل لوضع حدٍ لتلك الانتهاكات سوى الصمت واتباع موقف المتفرج، وطبعاً لم يكن ذلك نتاج عجزٍ عن البوح وعدم القدرة على المواجهة والتصدي لمن يقفون وراء ذلك، بقدر ما كان بهدف المحافظة على مسار الثورة ووحدة صفوف الشباب. كنا ندرك تماماً أن أي صراع أو مصادمات من شأنها أن تنشب بين صفوف المحتجين في ذلك الوقت ستكون بمثابة مادة دسمة وفرصة ذهبية يستغلها النظام وأنصاره المنتشرون في كل مكان، في سبيل إخماد وهج الثورة وشق صفوف الشباب، وبالتالي أجبرنا على كبت الضيم وتجرع مرارة الصمت عن الخطأ حتى بالكتابة ولأكثر من الشهر. قلنا لا ضير إن صبرنا وتحملنا ظلم, وقهر, وتعسف, وانتهاكات تلك الأحزاب عدة أسابيع مقابل حفاظنا على وحدة صفوفنا، وتمكننا من إسقاط النظام، سمونا بتفكيرنا فوق مستوى عقلياتهم الضيقة وأهدافهم الآنية، نظرنا إلى البعيد وفضلنا الهدف العام والأسمى عن الأهداف الآنية والمصالح الذاتية المقيتة، وهو الأمر الذي اعتدوه لأنفسهم مكسباً تاريخياً غير مسبوق وبالتالي كان استغلالهم له حقيراً ودنيئاً. تركنا لهم فرصة السيطرة والاستيلاء على المنصات في مختلف الساحات، وهي المنابر الإعلامية الموجهة والمحركة والمسيرة للثورة، وأتحنا لهم فرصة استقبال التبرعات وجمع الأموال والتصرف بالعيني منها واختيار تسميات "الجُمع" في كل أسبوع، وطريقة كتابة البيانات المعبرة عن الشباب وأسلوب اختيار وتحديد المتحدثين باسم الشباب في الفضائيات ووسائل الإعلام، وكل ما له صلة بالثورة والثوار، هكذا لم نحبذ الدخول معهم في مصادمات بل إننا قدمناهم وآثرناهم على أنفسنا وتنازلنا لهم عن معظم حقوقنا إن لم نقل كلها. كل ذلك كان على أمل أن يتعظوا ويتعلموا معنا التضحية وإيثار الآخر وتقديم المصلحة العامة على المصالح الحزبية والشخصية، لكن ما حدث - مع أسفنا الشديد - لم يكن في الحسبان، فقد أصيبت تلك العناصر ومن يقف وراءها بداء العظمة والهوس، وبدل ما يتعظ ويتعلم أولئك المرضى معاني ودلالات تلك القيم الإنسانية والثورية والوطنية النبيلة تكونت لديهم قناعات بأن تضحيات الآخرين تلك هي نوع من الخضوع والاستسلام، وحينها أصبحوا في أنظار أنفسهم وحدهم "زعماء" فيما الباقون رعية، وهو الأمر الذي أفضى إلى قيامهم بمضاعفة أساليب القمع والانتهاكات التي مارسوها بحق البسطاء من الثوار، لتطال قيادات شبابية وشخصيات حقوقية وإعلامية ثقل الواحد منها يوازي في الأساس حجم وثقل وشعبية العشرات من قياداتهم العليا. بصراحة لم أكن أحبذ الخوض في هكذا تفاصيل لولا إيماني بأن النظام الذي ثرنا لأجله قد سقط, ولأنني صرت ألاحظ في الساحات صحوة شبابية غير مسبوقة، تؤكد بأن جميع الشباب سواء المنضوين منهم في إطار ائتلافات أو أولئك الذين انتهجوا سبيل النضال الفردي، أصبحوا يدركون تماماً حقيقة تلك الأحزاب وأهدافها ومراميها الآنية والمستقبلية، وبالتالي أضحى الجميع يبذلون جهوداً حثيثة في سبيل التصدي لها ووقفها، ليس فقط تفادياً لما قد ترتكبه من فضاعات بحق هذا الشعب المغلوب مستقبلاً، وإنما أيضاً انتصاراً لأنفسهم وقرنائهم مما ارتكبه أولئك المؤدلجون من آثام بحقهم فيما مضى من الثورة وحتى اليوم. ما يدمي القلب أن تلك السيطرة وتلك الهالة التي افتعلتها تلك الأحزاب لنفسها داخل الساحات لم تفضِ إلى شيء حتى اليوم فيما يتعلق بمسألة حسم الثورة وإنقاذ البلاد من الأزمات التي تعصف بها، فكل الآمال التي علقها الشباب والثوار على تلك الأحزاب طيلة الفترة الماضية من أيام الثورة والتي أرقتنا بترديدها طيلة العقدين المنصرمين والمتعلقة بإنقاذ الوطن وانتشاله من مستنقع الفساد الذي يعانيه، جميعها ذهبت سدى وكل نضالاتهم وجهودهم ومواقفهم لا تزال مقتصرة على المشاورات واللقاءات السرية والاجتماعات في الغرف المغلقة. ختاماً ليع أولئك الطامحون ممن وُضعت على عقولهم وضمائرهم غشاوة أن المستقبل الذي ينتظرهم سيكون قاتماً، وأنهم سيدفعون ثمن ما اقترفته أياديهم بحق الشباب عقوداً طويلة، وعليهم أن يفيقوا من سباتهم ويتيقنوا ويدركوا بأن هذه البلاد وهذه الأمة التي يعدونها لقمة سائغة لم ولن تتاح لهم فرصة حكمها أو تسيدها مهما كانت الظروف أو المتغيرات، وحتى لو أشرقت شمسهم المزعومة من المغيب، وأنهم سيظلون دائماً وأبداً أولئك المغفلون المذمومون وإلى يوم يبعثون.