هناك خرائط متعددة حديثة في رسم مستقبل الدول العربية وجعلها أكثر عددًا مما هو مرسوم في الاتفاقية المشهورة بسايس بيكو المنعقدة في 1916م وما بعدها. ولعلّ أشهر تلك الخرائط، هي خريطة بيترز رالف والتي يُقال عنها إنها لاقت استحسان بعض الاستراتيجيين الأمريكيين، لكن لا يمكن أن يُوثق فيها تحديدًا لسبب بسيط؛ وهو أنها مجرد مقترح ظاهر على السطح ولا دليل على اعتماد القوى الغربية عليه، والشيء الأهم هو أن هناك ظواهر تقسيم قد بدأت فعلًا بغض النظر عن مساره الدقيق. أو قد يُقال بوجود وسائل محددة ومؤثرة لإضعاف أي جهود لنهضة المنطقة سياسيًّا، وليس من المعقول أن أمريكا –مثلًا- التي خططت ودبرت كثيرًا من الأمور في شؤون العرب الداخلية -بانتهاكات صارخة للقوانين الدولية- فاحتلت العراق وضربت اليمن والسودان والصومال جوًّا وتدخلت باستمرار في الشأن المصري والبحريني وغيرهما أن تكشف للشعوب المسلمة خطتها المستقبلية لما تريد الوصول إليه في شؤوننا.فهذا ينافي حتمًا طبيعة العمل الاستخباراتي السياسي والعسكري. فمن المهم جدًّا أن تُدرس بوادر التقسيم أو الإضعاف القادم لا سيّما وأن بوادره الحقيقية أطلت برأسها. فالسودان انقسم فعليًّا، وقد صعدت قوى جديدة تطمح للاستقلال كإعلان دويلة البغدادي ومساعي جماعة الحوثي، وأيضًا كردستان، ولعلّ الوضع الحالي هو فرصتهم السانحة. والمشكلة الأساسية ليست في التقسيم في حد ذاته بالرغم أنه مشكلة، بل في انحراف منهج هذه القوى الجديدة والتي تصب في نفس مشروع التقسيم بشكل مباشر أو غير مباشر. فإعلان دولة البغدادي أحدث تصدعًا أكثر مما هو عليه في المشروع الجهادي في المنطقة، وجماعة الحوثي تستمد قوتها من عدو العرب اللدود وهم الفُرس. والشيء الجديد في هذه الأمور هو أن ظواهر التقسيم مبنيّة على عامل خطير وهو العرق والمذهب، ولا تسأل عن الآثار المدمرة لهذه الاستراتيجية الشيطانية. لكن -في المقابل- هناك عوائق حقيقية قد تقلّب أو تغيّر محاولات إفشال مطامح الشعوب العربية وتقسيمها، وأهمها هو النجاح ولو جزئيًّا للثورات العربية؛ فإذا استقلت أحد الدول العربية الكبرى عن الخضوع لهذه المشاريع، فستكون حتمًا بمثابة الأب الروحي لغيرها من الشعوب، ويكون لها أثر إيجابي على باقي المنطقة كما بدت ملامحها في التعامل غير المسبوق لحكومة مُرسي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في التهدئة مع غزة في نهاية عام 2012م والتي رضخت دولة الاحتلال لأول مرة بشروط فُرضت عليها، وهذه النتيجة –استقلال الشعوب- تحاربه الدول المحلية بشراسة قبل الدول الغربية. وإذا ما استقرأنا الواقع وقارنّاه بالتاريخ؛ لوجدنا أنّ ثورات الشعوب العربية لا زالت في بداية طريقها؛ فهي لم تُكمل نصف العقد، لا سيّما وأن أهداف هذه الثورات كبيرة ومفصلية، فعادة مثل هذه التغيرات التاريخية تستمر أحيانًا لعقود حتى تستقر، بل ولم يظهر لأيّ منها ملامح استقرار حتى الآن؛ لذلك احتمالية خروج هذه النتيجة -وهي استقلال واستقرار دولة كبرى ولو جزئيًّا- لا تزال ممكنة جدًّا ولو بعد أمد، شريطة استمرار الشعوب في المطالبة بتحررها محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا مع وقود كافٍ من الصبر والكفاح، وجهود لا تنكفئ عن نشر الوعي وثقافة الحقوق والواجبات.