رغم محدودية النتائج العملانية لقصف تل أبيب، واعتراض العدد الأكبر من الصواريخ قبل أن تصل إلى العاصمة الحقيقية لإسرائيل، فإن هذه المفاجأة التي رفعت الروح المعنوية للفلسطينيين وأطالت أعناقهم، سوف تظل إحدى أهم صفحات الحرب الدائرة على غزة وعلى الشعب الفلسطيني، وربما تكون أكثر وقائع هذه الجولة تجذراً في الوجدان العام وخلوداً في الذاكرة الجمعية. ذلك أن قصف تل أبيب المتعالية على محيطها، يعد أكثر أهمية من قصف أي موقع آخر في القلعة التي لم تعد حصينة، بما في ذلك القدس أو مطار اللد أو مفاعل ديمونة، لما تنطوي عليه هذه العملية الباهرة من قيمة رمزية، ومدلول تاريخي، وأثر سيكولوجي، أحسب أن الإسرائيليين هم الأعمق فهماً من غيرهم لمغزى تسجيل هذه السابقة الفلسطينية غير المسبوقة في مجرى الصراع المديد بين العين والمخرز. وليس من شك في أن الجرأة في اتخاذ هذا القرار كانت أكثر أهمية من القرار ذاته، وأن ضرب هذه المدينة "النيويوركية" الصاخبة التي كانت تسمع عن الحروب السابقة بدون أن تراها، هو أبعد مدى من توجيه صاروخ قد لا يصل هدفه، بل وأبلغ رسالة عن صلابة الروح الفلسطينية من أي نتيجة حربية ترتجى من وراء هذا المتغيّر الذي يومئ إلى أن شيئاً ما، لم يكن محسوباً حسابه، قد حدث بالفعل. وفي الذاكرة الغضة، وقفت تل أبيب أمام ثلاثة مسؤولين عرب كانوا قادرين، كل على حدة، على اتخاذ قرار ضربها بالصواريخ بعيدة المدى، فيما حالت دون رابعهم وامتلاك مثل هذه القدرة الصاروخية، ونعني به الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي أذهب مشروعه لإنتاج "القاهر" و"الظافر"، إدراك اغتيالات "الموساد" للعلماء الألمان وتلامذتهم المصريين. أول هؤلاء الثلاثة كان حافظ الأسد، الذي انكفأت قواته في حرب العام 1973 إلى مشارف دمشق، ولم يحل دون تطويق القوات الإسرائيلية لعاصمة الأمويين سوى الدبابات العراقية التي كانت قد وصلت لتوها من على بعد أكثر من ألف كيلومتر. إلا أن الرئيس الذي استأسد على حماة فيما بعد، لم يجرؤ في أشد ساعات تلك الحرب خطورة على استخدام ما لديه من صواريخ كانت قادرة على ردع الغزاة، كضرب تل أبيب مثلاً. الثاني كان السيد حسن نصرالله، الذي أبلى بلاءً حسناً في حرب العام 2006، وهدد في حينه بضرب تل أبيب بالاسم إذا ما تم قصف قصبة بيروت، إلا أنه لم يقدم على هذه الخطوة، إدراكاً من السيد، الذي ضل سبيله مؤخراً، لمدى ما قد تجره مثل هذه الجرأة من عواقب وخيمة. أما الثالث فقد كان الرئيس الراحل صدام حسين، الذي كان له شرف إرساء هذه السابقة، وامتلاك الجرأة على اتخاذ القرار الكبير وتنفيذه دون تردد العام 1991، فيما كانت السماء العراقية مستباحة، وكان الحصار يطوق بلاد الرافدين بإحكام شديد، بينما تل أبيب الآمنة على نفسها تبدو بعيدة المنال تماما. هكذا تتجلى الأهمية الاستثنائية لقصف تل أبيب، بكل ما تنطوي عليه هذه المدينة الحصينة من معانٍ مركزية وأبعاد سياسية؛ أولها نهاية عصر الردع الإسرائيلي، وثانيها كسر المعادلة الكلاسيكية البائسة، إذ تنطق هذه الواقعة الضئيلة في نتائجها على الأرض، والباذخة في تداعياتها على مشهد الصراع المفتوح، بحقيقة أن زمن الغطرسة الحربية قد ولّى وأن الأنف الإسرائيلي الطويل قد انكسر وملأ رعافه شاشة تلفزيون بالكامل. وبعد، فقد بعث قصف تل أبيب في الروح الفلسطينية مضاءً شديداً، وأيقظ في الذاكرة العربية المثخنة بالانكسارات صوراً تاريخية حزينة، وأهدى لسابقة صدام حسين تحية كبيرة، وغيّر من روتينية المشهد الكئيب الذي فاضت به الحروب العربية الإسرائيلية الكثيرة، وسطر شعوراً بالجدارة والاستحقاق لم يكن ذات يوم على هذه الدرجة من الاكتمال، لدى الذين اكتوى وعيهم سابقاً بأن الجيش الإسرائيلي لا يقهر. [email protected]