وسط أجواء الاستفتاء على الدستور الملتهبة ظهر الأستاذ محمد حسنين هيكل في حوارات متواصلة على السي بي سي، أحد أذرع الإعلام الأسود الموجَّه ضد الرئيس الشرعي المنتخب، وقد صال الرجل وجال مع مشاهديه محافظا على مشهده الأسطوري وبريق عباراته وهو يوجِّه غمزاته ولمزاته للفكرة الإسلامية بصفة عامة وللإخوان المسلمين بصفة خاصة. وقد كان حوار الخميس الماضي 20/12/2012 مركّزا بصورة محترفة على صناعة مشهد من السواد الكثيف والمخيف على مستقبل مصر إذا تم إقرار الدستور الجديد، فقد شكك في نزاهة المرحلة الثانية من التصويت بالقول: «المرحلة الثانية من الاستفتاء ستشهد خروقات أكبر لأنها حاسمة، ثم تحذيره من المصير الخطير الذي ينتظر مصر إذا كانت كلمة الشعب ب»نعم»، قائلا: «لو اعتمد مرسي نتيجة الاستفتاء سيخطو بمصر إلى مصير نازي»، مشيدا بمواقف تلميذه النجيب حمدين صباحي بالقول: «صباحي كان على حق عندما طالب المصريين بالتوصيت بلا على الدستور»، ثم يبثّ الرعب في قلوب المصريين محذرا من سوء الوضع الاقتصادي ناقلا الخبر من مصدره بالقول: «فاروق العقدة أخبر الرئيس أنّ الاقتصاد في خطر»، متجاهلا البيان الرسمي للبورصة المصرية بتحقيقها مكاسب أسبوعية تقدَّر بنحو13.8 مليار في أسبوع ساخن من الأحداث! هكذا سار في حواره الأخير، كلام ناعم وتحليل هادئ بدا خلاله يحاول إلجام اندفاع من تحاوره نحو التهييج، لا كي يحق الحق ولكن ليفسح المجال أمام نفسه حتى يوجِّه صواريخه بهدوء محاولا هدم البيت على رأس صاحبه! كان في الحلقات السابقة يبدو كمن يشارك من بعيد في مظاهرات جبهة الإنقاذ مبديا إعجابه بما أسماه «مشهدا بديعا عند قصر الاتحادية»، لكنه وبعد أن تبخّر المشهد البديع ولم يستطع أصدقاؤه تكراره في الجمعة التالية ظهر في حوار الخميس الماضي وكأنه يقود المظاهرة بنفسه ضد الرئيس وجماعة الإخوان ولم يستطع تغطية ما يريد بعبارات الإنصاف والحيادية التي غلّف بها مظاهرته، فقد وصف الرجل جماعة الإخوان بأنّها أكبر خداع بصري في التاريخ، وأنّ وجودها في الحالة السياسية حالياً صدمة وخداع! فأيّ إجحاف هذا؟! أكبر فصيل في مصر ليس إلاّ خداع بصري! إنّ هيكل يقف طوال تاريخه المديد خصما لدودا للفكرة الإسلامية ويقف سدا منيعا لحصارها داخل الصدور، وإن كان لا بد فليكن حصارها داخل أقبية المساجد دون خروج. وأزعم أنّني أقرأ وأتابع كتابات هيكل منذ كنت طالبا في الشهادة الابتدائية وكنت أحفظ مقالاته الأسبوعية «بصراحة»، كما أتابع حواراته بصورة شبه منتظمة وأحيانا أشاهد بعضها مرتين، وأعتقد أنّ الرجل عبر هذا التاريخ الطويل لم ينصف الفكرة الإسلامية بكلمة واحدة ولم يتحدث عن التيار الإسلامي في أيّ مرة إلاّ باستخفاف، وإن أنصف مرة فسرعان ما يمحوها، وفي المقابل لا أذكر أنّ هيكل وجَّه نقدا حقيقيا ومنصفا لتجربة عبد الناصر في الحكم! في إطار ما سبق وفي أجوائه لم أفاجأ بكم الهمزات والإشارات التي حفلت بها أحاديثه هذه الأيام، فقد رأى أنّ طلب الرئيس مرسي فور فوزه زيارة قصر الحكم نوعا من التلهف على «هيلمان السلطة» دون انتظار لأداء القسم، وقد كرر عبارة «هيلمان السلطة» أكثر من مرة، وقد خانته ذاكرته بأنّ ذلك الرئيس المتلهف لهيلمان السلطة لم يبت في ذلك القصر ليلة واحدة وما زال يعيش في شقته التي كان يسكنها قبل أن يصبح رئيسا! وركّز هيكل على إبراز الرئيس، بعد مقابلته، كرئيس غير ملمّ بالملفات الرئيسة في البلاد وغير مدرك لأبعاد ما تواجهه الدولة من مصاعب، وقد خانته ذاكرته أنّه صرّح عقب مقابلته للرئيس بالقول أنّ أكثر ما طمأنه في اللقاء هو أنّ الرئيس متابع جيد للموقف ومدرك للصورة الكاملة كما هي موجودة (الشروق – الثلاثاء 11 أيلول 2012 – 9:50). وقبل ذلك بيوم واحد أعلن هيكل تحذيره المشهور بالانقلاب على شرعية الرئيس محمد مرسي لأن البديل ثورة إسلامية شاملة ونسي هيكل أنّه دشّن أقوى حملة رفض لرئاسة محمد مرسي لمصر قبل انتخابات الإعادة وذلك في حديثه لقناة «الحياة» قائلاً: «لا أوافق على حكم الإخوان لمصر، ولا حكم إسلامي لمصر حتى ولو كان عبد المنعم أبو الفتوح»! وعلى هذا النسق من التناقض في الآراء والأقوال يسير هيكل هذه الأيام، فقد قال في أحد حواراته مع سي بي سي: «لقد تنبأت بثورة 25 يناير قبل وقوعها بسنوات في أحد كتبي»، ونسي أنّه قال لبرنامج العاشرة مساء في اليوم التالي لنجاح ثورة يناير أنّ أحدا في العالم لم يكن يتوقع قيام تلك الثورة وضرب على ذلك عدة أمثلة. وقال في حديثه للسي بي سي أنّه قال للرئيس مرسي أنّه (هيكل) التقى بالشيخ حسن البنا عشرين مرة، بينما قال في معرض كلامه عن الشيخ البنا في أحاديثه للجزيرة «مع هيكل..تجربة حياة»، أنّه التقى بالشيخ البنا مرتين، وقد تحدّث يومها عن اللقاءين بصورة هزلية تنبئ عن مخاصمة صاحبها للفكرة الإسلامية والمخاصم ينظر لخصومه بمنظار مجحف. ليته يعيد التفكير أو على الأقل يحافظ على ذاكرته! * كاتب مصري، مدير تحرير مجلة المجتمع [email protected]