انتقلت خلافات الإسلاميين في مرحلة الربيع العربي، من حالة الكمون إلى حالة الظهور والبروز، خصوصا في الدول التي تولّت الحكم والسلطة فيها اتجاهات إسلامية، كما هو الحال في مصر وتونس، فقد ظهرت معارضات إسلامية قوية لإسلاميي السلطة، تنتقد الحاكمين الجدد، وتأخذ عليهم تأخرهم وتوانيهم في تطبيق الشريعة، وتنعتهم بتمييع المبادئ والأفكار التي كانت تدعو إليها من قبل. في تونس ظهرت معارضة الاتجاهات السلفية، ومنها تنظيم «أنصار الشريعة» المتأثر بمنهج القاعدة وفكرها، لحكومة حركة النهضة الأولى والثانية، تنحصر مطالب تلك الاتجاهات تحديدا بمطالبة حكومة النهضة بتطيبق الشريعة، منتقدة «بشدة تراجع الحركة عن المطالبة بالتنصيص على مصدرية الشريعة الإسلامية في الدستور، وإكتفائها بالإبقاء على الفصل الأول من الدستور السابق الذي يقول إنّ تونس دينها الإسلام». الاتجاهات السلفية التونسية، بما فيها تنظيم «أنصار الشريعة»، لا تتوافق مع سياسات حكومة النهضة، وهي لا تثق بتوجهاتها، بل تنتقدها وتهاجمها بشكل علني، وتشير تقارير صحفية إلى أنّ الأمن التونسي حاول اعتقال أمير تنظيم «أنصار الشريعة» المعروف باسم «أبي عياض»، لكنه لم يتمكن من ذلك، ليظلّ الرجل متواريا عن الأنظار مكتفيا بإصدار بعض الرسائل، وإجراء المقابلات الصحفية، أبو عياض في رسائله ومقابلاته انتقد بشدة سياسات حكومتي النهضة في معاملتها للسلفيين. يظهر من الأحداث المتلاحقة والوقائع الجارية أنّ العلاقة بين حكومة النهضة وتنظيم أنصار الشريعة متوترة جدا، وهي مرشحة لمزيد من التصادم والمواجهات العنفية. في مصر لم يدم التوافق طويلا بين جماعة الإخوان المسلمين والدعوة السلفية في الإسكندرية، فبينما كانت العلاقة بين حزبي «الحرية والعدالة» الذراع السياسية للإخوان المسلمين وحزب «النور» السلفي الذراع السياسية للدعوة السلفية في الإسكندرية محكومة بقدر كبير من التعاون والتنسيق، انقلبت تلك العلاقة إلى حالة من القطيعة والتباعد على خلفية إقالة الرئاسة للدكتور خالد علم الدين القيادي في حزب النور ومستشار الرئيس مرسي، وتفاقم الخلافات بينهما بسبب المبادرة التي تقدَّم بها حزب النور للخروج من الأزمة الخانقة بين الرئاسة وجبهة الإنقاذ الوطني. حينما يعود الإسلاميون، على اختلاف توجهاتهم، بالذاكرة إلى ما قبل الثورات، ليتذكروا تلك الأحوال التي كانوا يعيشونها، بين التضييق والملاحقة، والسجون والاعتقالات، وما منَّ الله به عليهم، من التمتع بحرية الدعوة والحركة، وتأسيس الأحزاب، وإقامة الاجتماعات والتجمعات، بلا قيود ولا شروط، يحسن بهم أن يتخلصوا من مضايق التفكير، وشذوذات السلوك، التي تحملهم على الانشغال ببعضهم، والغفلة عن التصدي للتحديات المهددة للمشروع الإسلامي برمّته. ثمة قضايا وموضوعات وميادين يتلاقى عليها الإسلاميون، على اختلاف اتجاهاتهم، وهي تستنزف طاقاتهم جميعا، وتستوعب جهودهم وخبراتهم ومعارفهم مجتمعين، فلماذا ينشغلون بالاختلافات البينية بينهم، ويغفلون عن القيام بتلك المهام الجسام، ألا يدرك الإسلاميون أنّ نجاح التجربة يعطي زخما للمشروع الإسلامي ذاته، ويوسع دوائر المؤيدين والمناصرين له، وأنّ فشل التجربة يصيب الإسلاميين في مقاتلهم، ويحمل الناس على الانفضاض من حولهم، لأنهم ليسوا أهلا للحكم وتولي مقاليد السلطة؟ هل يغيب عن الإسلاميين، على اختلاف اتجاهاتهم، أنّ أعداء مشروعهم «الإسلامي» في الداخل والخارج لن يتركوهم في الساحة وحدهم، بل سيفجّرون الألغام في وجوههم، وسيشعلون الحرائق من تحت أرجلهم في كل مكان، وسيحوّلون البلاد إلى قنابل متطايرة من حولهم، وما يجري في مصر هذه الأيام لا يعدو أن يكون نموذجا كاشفا لحجم تلك التحديات التي ستواجه أيّ توجه إسلامي يسعى لإقامة دولة إسلامية؟ فيا أيها الإسلاميون، الذين تمنون أنفسكم بدولة الخلافة في كل حين، وتحلمون بها ليل نهار، ألا يستدعي منكم ذلك إعادة النظر في طرائق تفكيركم، ومراجعة أنماط سلوكياتكم، الحاكمة لطبيعة العلاقة فيما بينكم، فما تريدونه وتسعون إليه لن يكون بانفراد فصيل إسلامي دون الآخرين، بل سائر الاتجاهات الإسلامية مجتمعة تعجز عن حمله وتحقيقه وإنجازه، وهم من بعد ذلك يحتاجون إلى قواعد جماهيرية واسعة وعريضة مستعدة للالتفاف حول ذلك المشروع لحمايته وحفظه. ما يجمع الإسلاميين أكثر ممّا يفرّقهم، وما يقيمهم في صعيد واحد أشدّ ممّا يجعلهم جماعات متفرقة متناحرة، وليستذكروا تجارب غيرهم من الإسلاميين، حينما تفرقوا وتناحروا كيف ضاع المشروع من بين أيديهم جميعا، كما كان حال المجاهدين الأفغان، حينما حرروا بلادهم من الاحتلال الروسي، فبعد نجاحهم في معركة التحرير انهزموا شر هزيمة في معركة البناء والتعمير، ما هو مطلوب أن يتجاوز الإسلاميون حساباتهم الضيقة، ويرتفعوا إلى مستوى تحديات الدين والوطن التي لا يقوى عليها إلاّ الكبار من القادة والرجال.