تشير المعلومات إلى أن مساعي توحيد ودمج مكونات الحراك الجنوبي، التي يقوم بها طارق الفضلي بتشجيع من علي سالم البيض، منيت بالفشل. ظاهريا يبدو أن الانقسام تم على أساس مفهومين للقضية الجنوبية: الاستقلال مع الاحتفاظ بالهوية اليمنية، ومشروع استعادة الجنوب العربي ضدا على ما يطلق عليه ب"اليمننة". لكن وراء هذين المفهومين تختفي الكثير من دواعي الانقسام تتوزع بين الرغبة في اخذ زمام الأمور إذا ما لعبت المصادفات دورها في تحقيق ما يتطلعون إليه، وبين أحقاد شخصية وأخرى من رواسب الصراعات القديمة. وكانت مصادر إعلامية تحدثت السبت الفائت عن ولادة كيان انفصالي في زنجبار أطلق عليه "المجلس الأعلى للثورة السلمية في الجنوب"، يرأسه علي سالم البيض، بدلا عن مجلس قيادة الثورة الذي أعلنه طارق الفضلي فور انضمامه للحراك الجنوبي قبل بضعة أشهر. وقالت المصادر أن الكيان الجديد ضم كل من "هيئة النضال السلمي"، و "المجلس الوطني الأعلى لتحرير الجنوب"، و"جمعية المتقاعدين العسكريين". وفيما احتفظت "نجاح" التي يرأسها النائبان ناصر الخبجي وصلاح الشنفرة، بكيانها المستقل، رفض كل من "التجمع الديمقراطي الجنوبي، تاج" ومقره لندن، و"المجلس الوطني الأعلى لتحرير الجنوب" يرأسه حسن باعوم، ما أسفر عنه اجتماع زنجبار المنعقد الثلاثاء الماضي، واعتبروا قراراته لا تعنيهم.
وقال "المجلس الوطني الأعلى للتحرير واستعادة دولة الجنوب"، في بيان بثه موقع تاج على الانترنت، إن إعلان زنجبار، لا يلزمه في شيء وأنه مواقف"أفراد ينصبون أنفسهم نيابة عن المجلس, وهم غير مفوضين بقرار منه, ولذلك فهم لا يمثلون إلا أنفسهم. وما ينطبق على المجلس ككل ينطبق على فروعه في المحافظات والمديريات". وأضاف: "إن عميد مناضلي ثورتنا السلمية، المناضل النادر المثال حسن باعوم كان وما يزال رئيسا للمجلس الوطني الأعلى لتحرير واستعادة دولة الجنوب المستقلة فقط". وتابع: "وإذا كان مجلسنا الوطني قد تبنى هذا الهدف السياسي وتحمل تبعات إعلانه محررا القضية الوطنية الجنوبية من الغموض وتعدد التعاريف والخطابات السياسية، فإنه في هذا الوقت الاستثنائي وتعاظم مد الثورة سياسيا وشعبيا، يحذر من تبعات استمرار العفوية في النضال، ومن مغبة الارتجال الحماسي والاندفاع العاطفي واتخاذ قرارات ومواقف غير مدروسة".
من جهته قال "التجمع الديمقراطي الجنوبي، تاج" في بيان له بمناسبة مرور 4 سنوات على تأسيسه إنه "يرفض سياسة الاحتواء والالتفاف وممارسة التضليل والخداع واستخدام الشعارات المضللة للجماهير وعدم الوضوح في الرؤية والهدف والتمسك بالهوية اليمنية والسعي لتفكيك قوى الاستقلال وتكوين مجالس وهيئات وإطلاق قيادات وهمية جديدة ويعتبر تاج إن سلوكا من هذا القبيل فيه تجاوز لقيم النضال الوطني وفيه تجاوز لأعراف العمل السياسي الديمقراطي ولا يخدم هدفنا النبيل في الحرية والاستقلال". وشدد على رفضه أيضا لما أسماها "أساليب الوصاية وتقرير مصير الشعب ومستقبل الأجيال من قبل شخص او حزب أو هيئة ويعلن عن عزمه وعن قدرته ومعه كل القوى الحية من أبناء الجنوب العربي المحتل على التصدي لمثل هذه التنطعات وسيسقطها ويكشفها ويعريها وأصحابها أمام الشعب".
وأوضح تاج في بيانه أن الصراع على الساحة الجنوبية في جوهره ومضمونه هو "صراع بين الهوية العربية لجنوبنا العربي الأبي وبين الهوية اليمنية... صراع بين من يريد الحرية واستعادة الهوية واستقلال القرار الجنوبي الرافض لكل أشكال الهيمنة اليمنية"، مشيرا إلى أن "تاج" ومن أسماها بقوى الاستقلال الاخرى "مثل المجلس الوطني لتحرير الجنوب والهيئة الوطنية للاستقلال في طليعة هذا الفصيل ورأس حربته و يناضل تاج من اجل تمزيق منظومة الخداع والتضليل والزيف الذي مارسه اليمنيون على بلادنا وتاريخنا وتحكموا بمصيرنا وقرروا نيابة عن شعبنا مصيره ومستقبل أجياله لمدة فاقت 50 عاما او يزيد ونناضل، من اجل إعادة القرار إلى الشعب وقواه الحية ونرفض تجاوز الجماهير كما نرفض الوصاية على مسيرة التحرير ونتصدى بكل قوة لمحاولات اختطاف مسيرتنا التحريرية باتجاه باب اليمن صنعاء".
في ذات السياق وصف حسن علي البيشي، الذي منح نفسه هذا اللقب بالغ الطول "مستشار رئيس المجلس الوطني الأعلى ورئيس لجنة الحوار في المجلس الوطني لتحرير الجنوب واستعادة دولته"، وصف اجتماع زنجبار بالعمل السلبي. وقال في بيان منفصل: "إن ما حصل في الاجتماع المزعوم يوم 30 يونيو 2009 في زنجبار في منزل الشيخ طارق الفضلي، والشروع في تكوين مجلس قيادة الثورة وهيئة رئاسته فنحن في المجلس الوطني الأعلى، نؤكد بأننا لسنا جزء منه ولا نؤيد ولا نعترف بنتائجه أو التعيينات التي وردت فيه، ونؤكد أيضا بأن الأخ المناضل الجسور حسن احمد باعوم يعترض على هذا التشكيل الخاطئ، ويعتبر إن القفز والتجاوزات على الأطراف والهيئات يصنع قرارات ارتجالية، وغير مدروسة، لا تخدم في الأساس القضية الوطنية الجنوبية، ولا وحدة الصف الجنوبي:. ليس مؤكدا ما إذا كان البيض نفسه يعترف بالهوية اليمنية أم لا. لكن طارق الفضلي أفصح في خطابه الذي ألقاه في زنجبار يوم 22 مايو الماضي عن تبنيه رؤية متطرفة للقضية الجنوبية تضع استعادة ما كان يسمى ب"الجنوب العربي" في صدارة اهتماماته، لاسيما وأنه نجل آخر سلاطين آل فضل وهي إحدى السلطنات التي انتظمت في كيان فيدرالي برعاية الانجليز سمي "اتحاد الجنوب العربي".
ومن شبه المؤكد أن هذه الانقسامات مرشحة للتفاقم كلما ازدادت وتيرة الحراك الجنوبي، وكلما أصبح وهم استعادة دولة الجنوب اقرب للتحقق. ومن الواضح أن ثمة استعادة حرفية (مرضية أيضا) لأساليب، ولافتات، ومسميات، وشعارات الكفاح ضد الانجليز حينما تحول المضمون الأخلاقي والوطني للنضال ضد المستعمر إلى مغذي فعال للإقصاء والتشرذم والتخوين.. وهذا في نظري ليس ذكيا بالمرة، لأنها ببساطة رايات بالية تفقد بريقها وعدالتها وأخلاقيتها، حينما يتعلق الأمر بخصم ليس مصنوعا من نفس طينة البريطانيين.
ما يحصل الآن لمكونات الحراك، هو نفسه ما حدث قبل وأثناء ثورة أكنوبر. ففيما تبدأ جبهات المقاومة في التناسل مثل البعوض، تتعدد التصورات عن الكفاح، وتتكاثر المضامين الإيديولوجية، وفي نهاية المطاف تتقاتل. وفي لحظة ما، يكاد يختلط تحرير الجنوب من الانجليز بتحريره من الجبهات الأخرى. يعرف قادة الحراك أكثر من غيرهم، أن تلك تجربة مختلفة، ضد عدو مختلف. لكنهم رغم ذلك، يواصلون النسخ واللصق دون هوادة: جبهة تحرير الجنوب، الجبهة الوطنية للتحرير، حركة التحرير... وهلم جرا. بقي فقط جوج حبش ونايف حواتمة وقسطنطين زريق، وبرع برع يااستعمار.
بعد جلاء البريطانيين، تولى قحطان الشعبي الحكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. ولم يمض سوى عام واحد حتى اجتاح الحنين الى الماضي فصيل يساري راديكالي. ورويدا رويدا، راح يستسلم لفكرة التمترس على سفوح الجبال لمكافحة حكومة قحطان، الذي كان قبل قليل رفيق السلاح، وأحد قادة الجبهة القومية البارزين. الرغبة في الكفاح تصبح هوس مميت في البلدان المتخلفة. لكن قيادة الجبهة حينها، تداركت الأمر، وقررت أن استخدام وسيلة كفاح قديمة ضد خصم من جلدتنا غير مجدي، وغير معقول، وغير إنساني حتى. وانهمكت تهندس للتغيير من الداخل، إلى أن أطيح بقحطان سنة 1969، وجيء بالرئيس سالم ربيع علي. وفي المحصلة، لا يمكن أن يكون منطقيا النظر إلى ثورة أكثوبر كمصدر إلهام في صراع داخلي، يمكن تسويته بصيغ أخرى لكن عادلة.