رغم بعض الخروقات والمناوشات التي تحصل بين الحين والآخر في محافظة صعدة وعمران والجوف بين الحوثيين والجيش وبعض القبائل المساندة له منذ اتفاق وقف الحرب في فبراير الماضي، إلا أن هذه الخروقات تظل محدودة ويمكن احتواؤها بصورة أو بأخرى، وبالتالي يستبعد - على الأقل في المدى المنظور- أن تتسبب هذه المواجهات في اندلاع حرب سابعة كما يتوقع الكثير من المراقبين. ولعل العامل الأهم في منع نشوب حرب سابعة في صعدة اليوم هو توافر مجموعة من الشروط الموضوعية التي يجب أن تستغل أحسن استغلال من أجل إنهاء الحرب وإحلال السلام بشكل دائم في صعدة، وأول هذه الشروط هو أن طرفي الصراع في صعدة وبعد ست جولات من الصراع الدامي وصلا إلى قناعة تامة باستحالة الحسم العسكري في هذه الحرب، فالحوثيون ورغم توسع نطاق سيطرتهم ونفوذهم بعد كل جولة جديدة من الحرب، إلا أنهم باتوا يدركون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن مسألة توسعهم وانتشارهم عسكرياً محصورة في نطاق جغرافي معين، وأن أي محاولة منهم لزيادة رقعة نفوذهم ستواجه هذه المرة بقوة وبشكل حاسم. كما ستلقى رفضاً قاطعاً ليس من قبل الدولة فقط، وإنما من قبل قطاعات أوسع من الجماهير والقوى السياسية التي لم تستطع الدولة حتى الآن استمالتهم في حربها مع الحوثيين. في المقابل، لم تتمكن الدولة خلال جولات الحرب السابقة من إخضاع الحوثيين عسكرياً وفرض شروطها عليهم، ولا توجد حتى الآن أي مؤشرات تدل على أن الدولة قادرة على ذلك، بل إن تصاعد الأزمات في البلاد على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية يحد من فرص خياراتها العسكرية في صعدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار الحرب في صعدة سيؤثر على حظوظ الحكومة في تنفيذ الاستحقاقات الدستورية القادمة وأولها الانتخابات البرلمانية المزمع تنفيذها بعد حوالي ستة أشهر، وهذا لا شك سيضر بسمعة اليمن وسيجعلها في حرج على مستوى الداعمين الدوليين، ومن ثمّ ليس أمام الطرفين لإنهاء هذه الحرب والحد من الخسائر البشرية والمادية الهائلة سوى الجلوس على طاولة الحوار والبحث عن حلول سياسية، لا أكثر ولا أقل.
وثاني هذه الشروط المتوافرة في الوقت الراهن هو وجود بيئة محلية ضاغطة سياسياً واجتماعياً، وهي بيئة مناهضة للحرب وترفض تجددها. فهذه الحرب بنظر العديد من القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني حرب عبثية، جلبت الكثير من الدمار والخراب للوطن والمواطن الذي يبحث عن الأمن والاستقرار وتحسين وضعه الاقتصادي الذي تدهور جراء الحروب المتناسلة، ومما زاد من قناعة الكثيرين برفض هذه الحرب، هو عدم الاقتناع بمبرراتها وجهلهم لأسبابها الحقيقية، وعليه يبدو أن هناك ما يشبه الإجماع الداخلي على ضرورة إنهاء الحرب وعدم العودة إليها مجدداً.
أما الشرط الثالث فمتعلق بالمناخ الإقليمي والدولي المشجع على إنهاء الحرب وإحلال السلام في صعدة، فالمملكة العربية السعودية وإيران يبدو أنهما وصلا إلى قناعة بأن الساحة اليمنية لا تشكل الميدان الأمثل لتصفية حساباتهما الإقليمية، خصوصاً وأن تدخلهم المباشر أو غير المباشر في حرب صعدة لم يصب في مصلحة أيٍّ من الطرفين، بل ربما تسبب لهم في كثير من الإشكاليات والاحراجات على المستويين الداخلي والخارجي. وعلى المستوى الدولي، فإن الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي يركزان منذ مدة على حل الأزمة السياسية بين السلطة والمعارضة في اليمن، فالأولوية لديهم هي مسألة الديمقراطية والحوار السياسي، وبالتالي فإن الحرب في صعدة تعيق مسألة التقدم في إنجاز أي تسوية من شأنها إخراج البلد من أزمته الحالية، وهذا ما أكد عليه اجتماع مجموعة أصدقاء اليمن في نيويورك الجمعة الماضية. كما أن استمرار وتجدد الحرب في صعدة من وجهة نظر غربية وأميركية تحديداً، تحد من جهود الحكومة اليمنية في مواجهة خطر تنظيم القاعدة المتصاعد في اليمن، ولهذا تضغط هذه الجهات من أجل وقف الحرب والتفرغ لمسألة خطر تنظيم القاعدة، وإنجاز تسوية سياسية بين السلطة والمعارضة تُسهِم في انتشال الديمقراطية اليمنية من المأزق الراهن.
وآخر هذه الشروط ولعله الأهم، هو المتعلق بدولة قطر ومساعيها الحثيثة لوقف الحرب في صعدة؛ فقطر تربطها علاقات خاصة ومميزة باليمن، ولقد كان لها- وما زال- الكثير من المواقف المشرّفة والداعمة لوحدة اليمن واستقراره، كما أن دور قطر الدبلوماسي والإيجابي في حل العديد من الأزمات داخل بعض البلدان العربية وفيما بينها بات واضحاً للعيان. ومعروف عن قطر أنها تتعاطى بعقلانية وواقعية مع أي ملف تتولى دور الوساطة فيه، ولهذا لا أعتقد أن قطر كانت ستتولى مجدداً ملف الوساطة في اليمن بين الحوثيين والحكومة بعد تعثّر جهودها في الوساطة الأولى (2007 و2008) ما لم يكن لديها خارطة طريق واضحة لإنجاح هذه الوساطة وإحلال السلام في صعدة، وقبل ذلك لا شك أن قطر لمست نوايا حقيقية من قبل طرفي النزاع لإنهاء الحرب، كما أن الدوحة - وهذا بدهي- استفادت من تجربة الوساطة الأولى، وهي بالتأكيد ستأخذ بعين الاعتبار كل العوامل التي لعبت دوراً سلبياً في إعاقة تلك الوساطة وستعمل على تجنبها. وبالتالي، يرجّح أن قطر اليوم وضعت القوى الإقليمية والدولية في صورة التسوية المأمَّل إنجازها في الدوحة، وهي تركز في الحوار الجاري على مسألة توفير الضمانات الكافية لإزالة هاجس عدم الثقة المسيطر على الطرفين، ويقع على عاتقها هذه المرة تولي مسألة الإشراف المباشر على تنفيذ بنود الاتفاق النهائي بين الحكومة والحوثيين، والعمل مع الطرفين على إيجاد آليات فاعلة لتطبيق بنود الاتفاق على الأرض. وأعتقد أن هذا ما تفعله قطر حالياً.
ختاماً، لابد من القول أن توافر مجموعة الشروط الموضوعية لإنهاء الحرب وإحلال السلام في صعدة يجب أن لا يُنسينا أن هناك أطرافاً مستفيدة، وأن هذه الحرب ولّدت أحقاداً كبيرة بين مختلف الأطراف التي تورطت فيها، وأخلّت بالسلم الاجتماعي وشحنت النفوس وأوغرت الصدور، وخلّفت آثاراً سياسية ونفسية واجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة، وبالتالي ما لم تُعالج مخلفات الحرب وآثارها بالصورة الأمثل، وما لم تتوافر إرادة السلام في صعدة فلن تصمد هذه الشروط الموضوعية ولا غيرها أمام فتن الحرب المتنقلة.