منتصف أغسطس من العام قبل المنصرم 2008م، نشر المدون اليمني الشاب (نشوان غانم) روايته الشخصية الأولى؛ (ذاكرة الرحيل). لكنه كما نحن، لم ندرك حينها أنه كان يقدم لنا ولنفسه، عزاءًا أولياً لرحيله البعيد. الأربعاء الفائت، وفي حادثة هي الأشنع والأغرب، توقفت حكاية التدوين الالكتروني بانتهاء حياة الشاب نشوان، بعد محاولات يائسة منه لتأكيد وجوده القوي في واقع كان ما يزال حتى قبل مماته بأيام، طموحاً للحصول على أدنى الحقوق.
استغل الشاب الثلاثيني لحظة انفراده في منزله بمنطقة "المزاحن" غرب محافظة إب، ليقدم على توجيه فوهة البندقية إلى مكان قلبه ولم تتباطىء أنمله السبابة ساعتها، في الضغط بشدة على الزناد.
ووفقاً لرواية شهود عيان فإن أهالي القرية الذين هرعوا والفزع يحدوهم، إلى مكان الحادث لم يتمكنوا من إثناء يد القدر عن تحويل جسد الشاب نشوان إلى جثة رغم أنه كان لا يزال وقتها، يتنفس.. وأشار شقيقه جلال إلى أنهم حاولوا إسعافه فوراً إلا أن حتى أن أطباء في مستشفى الثورة العام بإب لم يتمكنوا هم أيضاً، من إثناء روحه عن الطيران إلى بارئها.
لقد بدا نبأ الحادثة صاعقاً على أهله وأصدقائه داخل البلاد وخارجها. غير أن خاتمة أليمة كهذه لحياة شاب كان يطمح لأن يكون مهندساً بارعاً في مجاله، أشعلت نيران العديد من التساؤلات حول دواعي الانتحار، إن لم تكن قد هيجت في الكثير منهم، روح الشفقة المغلفة بالخوف والاندهاش.
عبد الرحمن سيف وهو أحد أصدقائه قال والحرقة تسابق أحرفه: حزنت كثيراً لرحيل صديقي نشوان بهذه الطريقة، فهو الصديق المثقف والبارع جدا في مجال التدوين. كنا نستمتع بكتابته وتناولاته في عالمه الافتراضي، منوهاً بأن التذمر من وضعه المعيشي وواقعه السياسي والفكري كان السمة الغالبة على تدوينه الالكتروني. منوهاً بأن ملابسات الحادثة لم تتضح بعد، لكنه رجح أن تكون نفسيته المهزومة والتي لاحظها مؤخراً عدد من أقربائه، ربما ناتجة عن اليأس الذي وصلت إليه حالته بعد بحثه المستمر عن وظيفة تناسب تخصصه.
ويقول المدون نشوان في نص محكم وطويل أشبه ما يبدو بسيرة ذاتية اختزل فيها مشاهد من معاناته في الحياة. "كتبت لكم من أنفاس لغتي العربية أنفاسي الأخيرة على هذه الأرض ! عسى أن تبقى لأنفاسي من ظل ٍ أو حتى رحيل بين مفردات اللغة". كما جاء في مقدمة ما أسماها رواية "ذاكرة الرحيل".
وكأي من الأعمال الأدبية الناشئة على صفحات العالم الافتراضي فإنها لم تجد ما تستحقه. حتى أنه كان مرتعداً وهو ينشر رواية حياته القصيرة، على الأرجح. يقول" أي عنوان ٍ يستطيع أن ينقذ جنازة نص ٍ يلفظ أنفاسه قبل أن تتعثر دواة الحبر في العثور على مساحة ٍ تشهق ميلادها ؟وأي علم ٍ من علوم الطب قادر على وصفتها؟ نصٌ يعاني من عتمة ٍ حادة ولا يجد ما يلزم من كسر طوق الظلام.. أنها تعاني من العتمة أكثر من النور وتجد متسعا من الهزيمة لأنها ربما ستموت قبل الأوان، قبل أن تكون حاضرة في معترك الحياة، ربما لأنها ستكون ذاكرته التي ستتسلل إلى نور الأرض وتبدأ في سرد مؤلفها !! تبدأ في البوح دون الخوف من بطش الأنظمة الحاكمة !! لأن كاتبها لم يعد يخشى الموت فهو قد أجاز لنفسه النهاية.. أجاز أن تنتهي اللعبة ولكن ليس كما يريدها الآخرون !!!.
وبالطبع، أنا هنا لست بصدد قراءة نقدية لعمل الشاب الذي فارق الحياة قبل أن ينعم بحياته التي كان يطمح إليها، بقدر ما هي محاولة لسرد ونقد حادثة انتحار الشاب نشوان والتي تعد واحدة من حوادث أضحت تتكرر وتتزايد باستمرار في مجتمعنا اليمني في السنوات الأخيرة.
ففي الأربعاء والسياق ذاته، أقدم شخص يبلغ من العمر 25عاما على الانتحار في منطقة بني حبش بمديرية الرجم محافظة المحويت، جراء ضغوط نفسية وعائلية كان يعانيها المنتحر بسبب حالة الفقر التي كان يعيشها.وذكرت مصادر عليمة أن "بدر حيدر حنينة" - متزوج ويعول ثلاثة أولاد- أقدم عصر يوم الأربعاء الفائت، على الانتحار رميا بالرصاص. مشيرة إلى أن المذكور كان يعيش أوضاعا معيشية غاية في الصعوبة والقسوة رافقها مشاكل أسرية نتيجة للعامل المعيشي.
وبعد تلك الحادثة بيوم واحد، أقدم شخص آخر على الانتحار في مدينة الحديدة. وقالت مصادر مطلعة "إن المواطن (نبيل دايل - 36 عاما) توفي منتحرا في حي الشهداء إلى الشرق من مدينة الحديدة حيث عثر عليه متدليا بحبل من رقبته على جذع شجرة بداخل حوش منزله. ونقلت "الصحوة نت" عن هذه المصادر القول: إن مشكلات نفسية ومعيشية صعبة يعانيها المواطن "دايل" منذ فترة ليست بالقصيرة، وان عناصر البحث الجنائي قاموا بتحريز الجثة وشرعوا في التحقيق لمعرفة ملابسات انتحاره، مشيرة إلى أن المنتحر يعول أسرة مكونة من 8 أشخاص.
وكان شخصين قبل حوالي شهرين في مديرية الرجم بالمحويت أقدما على الانتحار للأسباب ذاتها حيث ألقى أحدهما بنفسه من على شاهق وتجرع الآخر كمية كبيرة من السم، وكلاهما يعولان أسر كبيرة. طبقاً لمصادر إعلامية محلية.
وفيما يرفض الكثير من المسئولين والأكاديميين إطلاق صفة (الظاهرة) على حوادث الانتحار في اليمن ويرون أن العوامل الاقتصادية من أهم الأسباب المباشرة التي تؤدي إلى الإقدام على الانتحار يؤكد مسئولون أمنيون وأكاديميون آخرون أن عدد حالات الانتحار شهدت تزايدا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة.
وطبقاً لتقرير أمني سابق، فقد سجلت سلطات الأمن تزايداً ملحوظاً لحوادث ومحاولات الانتحار في مختلف محافظات الجمهورية خلال الأعوام (2004 - 2005 - 2006) والتي بلغت 1401 حالة. وأوضح التقرير الذي صدر عن وزارة الداخلية أن عدد الوفيات من المنتحرين في الأعوام الثلاثة بلغ 765 شخصا من الجنسين من بينهم 624 شخصا انتحروا بواسطة أسلحة نارية و141 شخصا استخدموا وسائل أخرى كالسموم والشنق وغيرهما. ومنذ العام 1995 يتضح أن عدد الحالات التي تم رصدها حتى العام2006 تزيد عن 2612 حالة انتحار معظمها لشباب وفتيات لم يتجاوزوا العقد الثالث من العمر. ولا توجد إحصائيات واضحة لحالات الانتحار في السنوات الأخيرة إلا أن مهتمين يؤكدون أنها في تزايد مستمر مستندين إلى تزايدها في الأعوام السابقة فضلاً عن تفاقم ظروف المعيشة والواقع الاقتصادي في البلاد.
ويبرر علماء النفس محليون هذه الظاهرة بالظروف المعيشية الصعبة والاجتماعية المعقدة إضافة إلى الخلافات الأسرية المتفاقمة. ويؤكدون أن الانتحار عادة ما يكون ناتجا عن أفكار قهرية أو اكتئاب أو عوز أو فشل يفضى إلى شعور واعتقاد لدى الشخص المنتحر بأن الموت هو اقصر الطرق للتخلص من مشاكل الحياة.