وصل الرجل إلى المحاضرة متأخراً، بحث عن مقعد قريب، ورمى جسمه عليه، وقبل أن يستقر تماماً كان يسأل الشخص الذي إلى جواره، منذ متى بدأ الرجل في الكلام: رد جاره إنه يتحدث منذ ساعة لكنه لم يقل شيئاً بعد! تذكرت القصة السابقة وأنا أنتهي من مقال الرئيس، وأستعد للكتابة عن بعض ردود الفعل التي تلت قصة الطرود المفخخة ويمكن الجمع بين الاثنين لأن ثمة ما يربط بينهما.
حسناً.. الذي لم يقرأ مقال الرئيس لم يفته شيئ، هو نفسه لم يتغير، حتى وهو يوعز لأحد مساعديه تحرير كلمه للنشر في صدر صحيفته الأولى، لا يزال يردد ما نسمعه منه منذ سنوات، غير أن حديثه وهو مكتوب يبدو بارداً وجامداً مثل خد رجل لا يحمر أبداً.
رئيسنا يتحدث منذ فترة طويلة لكنه لم يقل شيئاً يذكر بعد، والحديث عن الديمقراطية والحرية والمساواة لم يأت بجديد، وهو ذكر شيئاً عن قطف ثمار الوحدة والثورة وهو صادق تقريباً، لأنه الوحيد تقريباً الذي قطف الثمار، ثم تصرف كرجل يحب أسرته واقربائه فقط.
لا أحد تقريباً في هذه البلاد يستطيع أن يتحدث بهذه الوفرة عن الديمقراطية والمساواة وحكم القانون واحترام الدستور مثل هذا الرجل، ولا أحد سواه أيضاً يملك الجرأة على فعل العكس تماماً، وهو يستطيع أن يفعل ما هو أكثر من ذلك، لأنه لا أحد يستطيع محاسبة رجل يقول كلاماً جميلاً ثم لا يجد من يحاسبه عليه.
مسألة المحاسبة ذكرتني بامريكا ورئيسها باراك أوباما، فالصدفة جعلتني أقرأ مقال الرئيس في صحيفة الثورة إلى جانب مقال الرئيس الأمريكي الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط في يوم الأحد نفسه، طبعاً نحن نتحدث عن عالَمين مختلفين تماماً، ولا يمكن المقارنة بين خريج هارفاراد وصاحب كتابي أحلام من أبي وجرأة الأمل، وبين رجل تربى على العادات القبلية والعسكرية. لكن خيرة الله، والقصد أن الرئيسين يكتبان مقالات للصحف، لكن أحدهما فقط من يكتب بحذر مخافة أن تسقطه بعض الجمل أو الوعود في زيادة مد المحافظين الجدد على حساب أصحابه الديمقراطيين في الانتخابات النصفية القريبة، بينما الآخر لا يهمه كثيراً من سيقرأ، المهم أن يبدو في صورة الرجل القادر على أن يكون سوبرمان في كل شيئ، وفي النهاية هو يقول ما يعتقد أننا نطرب له ثم هو يفعل ما يريد.
من يستطيع أن يرفض كلاماً جميلاً عن الديمقراطية والحرية والمساواة والوحدة، لا أحد طبعاً، ويبدو أننا جميعاً في لحظات ما نهرب إلى مثل هذه الجمل الطنانة والكبيرة، حتى لا نواجه المشكلات الحقيقية التي تقرع باب قصرنا ونوافذ منزلنا صباحاً ومساء.
قلت جميعاً وأقصد الرئيس وشعبه، يعني أنا والقارئ وبقية الشعب، ومثلما تكونوا ُيولّ عليكم، ليس تماماً طبعاً، لكن ثمة أوجه شبه. فنحن من الطينة نفسها.. وهذا الكلام يجعلني أقفز من كلمة الرئيس إلى مؤتمره الصحفي الذي عقده عقب انفجار قصة الطرود المفخخة.
فالقصة التي أرعبت العالم خلال الأسبوع الماضي، أكدت بعض ذلك الشبه، الرئيس مثلاً في ظهوره السريع بعد إعلان العثور على طرود مفخخة تم إرسالها من اليمن كان متوتراً، ولا يلام، الجميع كان متوتر، لكنه مر سريعاً على مسألة محاربة تنظيم القاعدة، ليركز على اتهام الإعلام الدولي بافتعال الضجة، وأن الأمور لا تبدو خطرة كما يصورها البعض، هو يقول ذلك، لكن العالم الغربي لا يستطيع التعامل بهدوء مع هذا الخبر المرعب، ووسائل الإعلام هناك وجدت نفسها أمام قصة ساخنة، وعليها تغطيتها من جميع الجوانب.
في اليوم التالي للقصة ذهبت أغلب الصحف والكتاب اليمنيين في طريق مشابه لطريق الرئيس، لقد بدأ الحديث عن المؤامرة الامريكية لاحتلال اليمن، وترتيبات المخابرات الامريكية لخدمة الأجندة الخفية للبيت الأبيض تجاه هذا البلد، وأننا مستهدفون، وهذه الجملة الأخيرة تشبه السحر، لأنها طريقة سهلة جداً في مواجهة موقف صعب ومعقد، هذا الأمر بالذات يعفي المرء من تحمل مسؤولياته، ويجد فيه عزاء كبيراً لتعويض حالة الضعف والهوان التي يشعر بها. يشبه هذا الشعور احساس رجل متعب وضعيف نقل الحمل الثقيل من على كتفه إلى كتف شخص آخر، واستدار ليعود دون ان ينتبه تماماً أن ذلك الثقل سيظل مربوطاً به، وسيمنعه من التحرك خطوة واحدة في اتجاه الخلاص.
إن طريقة كتلك تعفينا من مشقة البحث عن حلول أو إجابات حقيقية، وهذا سر آخر في الانجذاب لنظرية تآمر الآخر، لأنها تعفيك من البحث عن الأخطاء التي قادت هذا الفرد أو المجتمع إلى مشكلاته الكبيرة، لأن الجواب السريع والسهل مرتبط بالآخر باستمرار.
يستطيع القارئ أن يرجع لبعض التحليلات او المقالات التي تلت قصة الطرود المفخخة، وسيكتشف في الكثير منها أنها نست وقود القصة الرئيسية وهو خطر تنظيم القاعدة، وذهبت تبحث في قصص فرعية أشارت بعضها إلى أن التظيم لا علاقة له بالطرود، وسال كلام كثير في الأيام الماضية حمل تفسيرات وتحليلات معقدة أنستنا العدو الحقيقي ، لقد كنا بشكل أو بآخر على المستوى الفردي أو الجماعي ننسى الخطر المتربص بنا خلف باب بيتنا، ونحاول جاهدين التنجيم عن ما يخطط له الآخر تجاهنا من النافذة البعيدة.
أخطر من تنظيم القاعدة هي طريقة التعامل معه، وهي عند البعض تنتج له ظروف جيدة للازدهار والنمو، ومن الممكن أن التنظيم كسب أنصاراً جدد خلال الأسبوع الماضي ليس حباً فيه، ولكن استعداداً لمقاتلة الأمريكان، وهي الطريقة التي يفضلها التنظيم لكسب المزيد من الطرود البشرية المفخخة.
علاقة المخابرات الأمريكية بقصة الطرود المفخخة أو علاقتها بتنظيم القاعدة نفسه، ومخططات الدول الغربية تجاه اليمن والمنطقة، هي أشياء يمكن نفيها أو تأكيدها، ولست معنياً على الأقل في اللحظة الراهنة بها، إلا بقدر ارتباطها بهذا الخطر أو بعدها عنه، ما يعنيني حقاً ويخيفني أن هذا التنظيم الإرهابي يشكل خطراً جدياً على مستقبلي ومستقبل وطني وأولادي، ولو نجح في إحداث عمل إرهابي كبير في إحدى الدول الغربية فلن تكون النتائج سهلة أبداً.