قبل بضعة أعوام عتبت علي إحدى زميلات العمل أن فات «عيد ميلادها» دون أن أقدمّ لها هدية أو أبارك لها تلك المناسبة. ورغم أني لم أعرفها آنذاك بالقدر الكافي، على الأقل ليس بما فيه الكفاية لأعرف تاريخ ميلادها، فإنني أعلمتُها أنني لا أرى «عيد الميلاد» مناسبة تستحق العناء أو الإهداء. وكان مما قلته، فضلاً عن الجانب الشرعي، إن الناس في هذا اليوم يتوقفون للنظر إلى الخلف حيث اليوم الذي فيه ولدوا، ولكنهم يتغافلون عن رؤية يوم الموت الذي بات أقرب مما كان عليه قبل عام. وعليه، فإن من غير المعقول أن يُضيّفَ المرءُ الناس كعكاً احتفاء بموته العاجل!
زميلتي تلك جاءتني بعد أيام تشكرني على المعروف الذي أسديته لها بحديثي عن «عيد الميلاد»، وقالت لي إنها نقلت كلامي لإحدى صديقاتها، وهي تتعهد ألا تحتفل بهذه المناسبة مطلقاً.
*** تذكرتُ هذه الحادثة عندما مرّ يومُ ميلادي قبل أيام. وبناءً على موعظتي تلك، فإنني دأبت على التوقف في يوم ميلادي لأسأل نفسي ذات الأسئلة التي أطرحها على نفسي كل عام، فيما أقف على عتبة موتٍ ليس عنه محيد: ما الذي فعلته فيما مضى؟ وما الذي أهملته؟ وما الذي تنوي فعله في القليل الباقي من الأيام؟ في هذا العام، قررت تصفية ما أسميه ب «الصداقات الفارغة».
فلقد كنت في السابق، مثل كثير من الناس، أسعَدُ جداً عندما أرقبُ قائمة العناوين في هاتفي النقال أو بريدي الإلكتروني تزدادُ يوماً بعد آخر. وكنت أظنّ، كما يظن الكثيرون، أنني بهذا أبني صداقاتٍ مع أناس جُدُد، وأوثقُ ما لديّ أصلا ً من صداقات. لولا أنني اكتشفت، وبالطريقة الصعبة، أن كثيراً من تلك العناوين ليس سوى أرقام تزيد بها القائمة، ولا تعني الكثير في عالم العلاقات الحقيقي. ذلك أنها مفرغة من الإحساس بالمسؤولية والالتزام تجاه الأصدقاء. ولولا أنني كنتُ دائماً من يبادر بالاتصال أو إرسال البريد، لما كان بيني وبين بعضهم أدنى رابط لسنوات. وهناك من أصحاب تلك الأرقام أو العناوين من لم يتصل بي ولو مرة واحدة للاطمئنان عليّ أو السؤال عن أحوالي. وإذا كان ثمة اتصال ما، فهو في الغالب لمصلحةٍ شخصيةٍ للمُتصِل، وليس للمُتصَل به.
بعض أولئك «الأصدقاء» تلقوا رسالة لم يألفوا مثلها مني، مفادها أنني عزمت على قطع العلاقة معهم لما خبِرته منهم من إهمال لما افترضت فيه - واهماً- صداقة وثيقة. ولأنهم استغربوا واستنكروا مني تلك اللهجة الجديدة، فإني أعلمتهُم أنّ الحياة قصيرة بما فيه الكفاية، ولست مستعداً بالتالي أن أضيّعها على من لا يستحق!
العجيب أن بعضهم وجد من الوقت ما يكفي لكتابة رسالة أو رسائل مطولة لتبرير التقصير الحاصل منه تجاه العلاقة التي ما فتئت الهوة تزداد بيننا فيها. وبدا الأمر طريفاً جداً، لدرجة أنني أخبرتُ أحدَهُم، وكانت رسالتي له هي الأقسى: «إن فرصة أن أتلقى منك رسالة إلكترونية بدت أكبر بكثير عندما خاصمتك عما كانت عليه عندما صادقتك»!
أما من اعتذر وأراد أن يعيد بناء العلاقة مجدداً، فإنني طلبته التمهلَ بضعة أسابيع أو حتى أشهر. وعللتُ ذلك برغبتي ألا تكون رغبته تلك محكومة بالعاطفة
أو حتى الشعور بالذنب، إنما لأنه عازم على أن يتحمل التزامات تلك الصداقة. فالصداقة ليست كلها معشرٌ طيبٌ أو جلسة مؤنسة. فهناك ساعاتُ
*** لقد علمني يوم ميلادي أنني ميت لا محالة. وحيث يقول من مرّ بتجربةٍ قريبةٍ من الموت إن شريط حياتك يمر أمام عينيك في ثوان، فإنني أريد أن يحملَ شريط حياتي لقطات أحب رؤيتها قبل أن أوَدّعَ دنيانا هذه. وتلك الصداقات الفارغة ليست من جملة ما أحب إنفاق عمري فيه.
ومما يُروى عن الإمام الحسن البصري رضي الله عنه أنه كان يسير في جنازة، فأشار إلى الكفن وسأل رجلاً بجواره: أتراهُ لو عادَ إلى الدنيا، أكان يصنع نفس ما صنع في حياته؟ (بمعنى تقصيره البشري في عمل الخير)، فأجابه الرجل: كلا! فقال له الإمام: فإن لم يَكن هُوَ، فكُنْ أنت!.. لله ما أصدقها من مقولة: إن لم يكن هو، أكن أنا إذن!
*** كلّ عام يقتربُ فيه موتكم وأنتم لأنفسِكم أحبّ، وإلى الله أقرب!